Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

الحوار الحضاري

إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة

«الحوار» هو الرجوع عن الشيء وإلى الشيء، والمحاورة مراجعة المنطق، والكلام في المخاطبة. وهو أمر يتساوق والجبلية في الإنسان، فلا يمكن الاستغناء عنه أو إغفاله أو تأجيل النظر فيه، ولهذا استعرنا من الإمام الصنعاني عنوانه “إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة” الذي حاول من خلاله ضبط بعض مقررات الشريعة في تعليل أحكامها، مستفيدا من تحقيقات الإمام ابن تيمية وتدقيقاته.

وهكذا، فإن العديد من الباحثين يرون أن الحوارات الحضارية، والاستعارات الثقافية، والأفكار والآراء والنظريات المتبادلة بين الأمم والشعوب هي ظاهرة صحية طبيعية سليمة لا خطر فيها ولا خوف منها، [1]  وذلك لأنه أضحى من المعلوم أن العالم هو أقرب ما يكون إلى «منتدى» عالمي لحضارات متميزة، تشترك أممها في عضوية هذا المنتدى، وبينها ما هو«مشترك حضاري عام».[2] 

فيكون بهذا الحوار أمرا ضروريا بينها، ولا يمكن الاستغناء عنه إذا كانت ترمي إلى مراعاة خصائص الإنسان ومقوماته، على اعتبار أن هذا الإنسان هو المكون الأساسي للحضارة، وعليه المعول في «صلاحها» أو«فسادها» وفي «قيامها» أو«أفولها»، ولأجله سخرت جميع الموجودات والكائنات، وأعطي الفؤاد والسمع والبصر، وعلّـم منطق الكلام والحوار، وأوتي ملكة الحجاج والجدال، وهو المسؤول عن وضعه الحضاري بدءًا وانتهاء.

ويذكر التاريخ أن المسلمين كانوا هم الحملة لمشعل الدعوة إلى حوار الحضارات بين الأمم والشعوب، وهذه مزية صاحبتهم منذ بداية وجودهم كأمة قائمة بذاتها؛ إذ استطاعت بكل يسر ومرونة استيعاب جميع الملل والنحل، فجاور فيها غير المسلم المسلم وكان له خير جار.

وقد شهد التاريخ أن الناس في الأمم الأخرى كانوا يفرون من ويلات بلادهم قاصدين بلاد الإسلام، فعاشوا فيها عيش الكرام، فلم تستلب أملاكهم، ولم تهضم حقوقهم، ولم يلق بهم في غياهب السجون، ولم يستغلوا أو يسترقوا. بل من الأشياء العظيمة في الإسلام أنه لم يكرهم على ترك دينهم واعتناقه هو، فعلم الناس جميعا أن الإكراه ممنوع في الدين بلْـه في غيره. فأصبحت الأمة الإسلامية بذلك خير أمة أخرجت للناس بالفعل والممارسة والعمل، وجمعت في ذلك بين النظري والتطبيقي جمعا حضاريا رفيعا، مكّن الإنسان من أن يتمثل في نفسه خصائص ومقومات الإنسانية الحقة. فكانت هذه رسالة حضارية سامية وجهها المسلمون إلى غيرهم من الناس.

إن هذه الرسالة دائمة بدوام الإنسان في الكون، وهي دعوة إلى الحوار والتواصل والتفاعل الحضاري مع الغير. وقد دعا بهذه الدعوة مجموعة كبيرة من المفكرين المعاصرين، اقتناعا منهم أن التقاء الحضارات هو معلم من معالم التاريخ الحضاري للإنسانية، وتفاعل هذه الحضارات عندما تلتقي هو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه[3] .

فلا غرابة، إذن، في أن نجد جل الباحثين يرون أن التحاور والتفاعل والتواصل الحضاري ضرورة إنسانية لابد منها لقيام الحضارات وتقدم الإنسان في كل ما من شأنه أن يعود عليه بالنفع، ومن شأنه أن يشيع في المجتمعات الإنسانية السلام والأمن[4].  ويرجع السبب في هذا إلى أن حال الأمة محاصر بين غربتين: غربة زمان، وتتجلى في البعد عن الماضي الحضاري المشرق، وغربة مكان وهي بعد الأمة عن وضع حضاري معاصر[5].
ولذلك كان لابد لهذه الأمة أن تعود إلى التفاعل الحضاري وتستفيد من حضارات الإنسانية، ولابد من خروج الأمة الإسلامية من الاغتراب الزماني، والاغتراب المكاني، وذلك بالربط بين الواقع والثوابت الحضارية الإسلامية، وبين مصادر عوامل التقدم المعاصر.

وقد بدا لبعض الباحثين المعاصرين الموقف الحضاري الإنساني الراهن أقرب إلى التواصل والتفاعل والتكامل التجديدي الخلاق منه إلى أي موقف آخر. ويقصد بهذا أن على الحضارات المعاصرة أن تجد روحها بالتفاعل مع الروح الحقيقية لكل حضارة تصادف أخرى في طريقها، وينشأ جو حضاري جديد يلتقي فيه الله والإنسان من جديد بحرية ومحبة[6].

وختاما نشير إلى أن الشيء الذي يجمع عليه عدد من المفكرين المعاصرين هو أن الرصيد الباقي من الحضارة الإسلامية قادر على أن يتحاور ويتفاعل ويتواصل مع الحضارات الإنسانية المعاصرة على الرغم من التحديات والصعوبات التي تواجه الأمة.

بل إن الدعوة إلى التواصل لا تعني عدم الشعور بموقعنا في السياق الحضاري المعاصر، وبحاجتنا إلى أن نأخذ ونقتبس ونستفيد من تقدم غيرنا، وخاصة العالم الغربي، ولكن تعني اعتبار الشمولية التي يتسم بها هذا السياق، وما لنا من مساهمة فيه، سواء في أصله حين نشأ، أو بممارستنا لمنجزاته واستهلاكنا لها، وكذا بما تقدمه الأدمغة العربية المسلمة المهاجرة[7].

———-

1. أنظر: محمد عبد الرحمان مرحبا، أصالة الفكر العربي، ص: 152.
2. أنظر: محمد عمارة، الغزو الفكري وهم أم حقيقة، ص:8.
3. أنظر:.محمد عمارة، الغزو الفكري: وهم أم حقيقة، ص: 205.
4. أحمد عبد الرحيم، الغزو الفكري، ص: 129.
5. المرجع السابق، ص: 130.
6. أنظر: حسن صعب، الإسلام وتحديات العصر. ص: 31-32.
7. أنظر: عباس الجراري، الحضارة بين الهيمنة والتواصل (رؤية إسلامية)، بحث ضمن مطبوعات أكاديمية المملكة(العولمة والهوية)، الدورة الأولى لسنة 1997 ص:181.

التعليقات

  1. سعاد الدار البيضاء

    بسم الله الرحمان الرحيم

    تقبل الله جهودكم ونفع الله الأمة بكم أستاذنا الكريم

    موضوع في قمة الروعة…

  2. مريم عطوش

    بسم الله الرحمن الرحيم
    أتقدم بالشكر للأستاذ الدكتور مولاي مصطفى الهند على هذه الموضوعات المفيدة كثيرا
    بارك الله لك وفيك

  3. نادية برطالي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    أولا وقبل كل شيء أود أن أتقدم بالشكر الخالص إلى الأستاذ الدكتور مولاي مصطفى الهند على هذه الموضوعات القيمة التي يوضح من خلالها الكثير من المفاهيم المتداولة في الساحة العلمية، وكذا تصحيحه لمجموعة من الأفكار التي تشكل في كثير من الأحيان عقبة أمام التقدم الفكري والعلمي للمجتمع الإسلامي.

    بارك الله في جهودكم أستاذنا الكريم.
    نادية برطالي

  4. يوسف فرح

    السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته؛
    شكرا جزيلا على هذا الطرح الرائد أستاذ.

أرسل تعليق