Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

هزال الروح

 قال الله تقدست أسماؤه: “والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمئان مآء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب” [سورة النور/الآية: 38].

تشبه أعمالنا وأحوالنا في كثير من مظاهرها وأبعادها حال هذا الإنسان الذي أصبح الظمأ في تفكيره وسلوكه وصفا بارزا، ومرضا مزمنا، فهو دأبا يلهث، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، يريد أن يشرب ويعب ليملأ جوفه، ولكنه لا يرتوي…

فالظمأ شديد، والحيرة بالغة، والمرض مزمن.. ومن شدة عطشه ولهفه صار لا يميز بين الماء والسراب، ولا بين الشمس والظل، ولا بين الحقيقة والصورة: “وما يستوي الاعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الاحياء ولا الاَموات إن الله يسمع من يشاء، وما أنت بمسمع من في القبور” [سورة فاطر/الآيات: 19-22].

إنها حالة من الجفاف الروحي، والفقر الروحي  التي توهم الإنسان أنه يستطيع أن يرتوي من كل شيء، وأن يستولي على كل شيء، وأن يملك كل شيء، ولكنه في نهاية المطاف لا يجد شيئا، ولا يشفي غليله شيء، بل يكتشف أن سعيه وركضه في أودية الدنيا وشعابها لا يزيده إلا رهقا وبعدا، وقد أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا المعنى العميق بقوله: “لو كان لابن آدم واديان من ذهب، لتمنى على الله واديا ثالثا، ولن يملأ فاه  ابن آدم إلا التراب”:  يعني لن يقف طمع ابن آدم  وحرصه ولهثه عند حد حتى يوارى التراب، وفي حديث الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، وعَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ– وَهُوَ يَقْرَأُ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ قَالَ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي قَالَ وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ”، وقال أيضا: “ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس”.
فمثل هذا الإنسان لا يستطيع أن يسمع الحق، ولا أن يبصر نوره، ولا أن يتحقق بإنسانيته، أو يتحسس طريق سعادته، أو يدرك مغزى وجوده، لأنه فاقد للروح، فاقد لآلة التمييز…

التمييز هو اللؤلؤة المكنونة في ذات الإنسان، والعلامة الفارقة بين الحي والميت، والعاقل وغير العاقل…ألا ترى إلى المجنون ترتسم به جميع صفات البشرية، له قدم ورأس ويد، ولكنه  لا يمتلك التمييز؛ فالتمييز هو المعنى اللطيف والجوهر النفيس الذي يختص بوظيفة الروح، وبمعنى  إنسانيتنا الكاملة، ومع ذلك ترى كثيرا من الناس غافلين عنه، متهممين  بتغذية الجسم الذي لا تمييز فيه، باذلين أقصى طاقاتهم  للعناية به، معرضين عن ذلكم الغداء السماوي الذي أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: “إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني”.

إن غداء الفرس ليس كغداء الفارس؛ إذ للفارس نوع خاص من الطعام والشراب والنوم، ولكن لأن الحيوانية غلبت علينا، تخلفنا مع الجياد في اصطبل الخيول… مقامك هناك -سيدي- لو فهمت، ولكن لما أجلب عليك الجسد بخيله ورجله، صرت أسيرا لقيده، خاضعا لحكمه.

إننا نحن الذين نستضعف أرواحنا، بتركها هملا لغرائز الجسد وشهواته، نائمة مستغرقة في أوهامه وخيالاته. وبسبب التهافت على الدنيا، والحرص عليها، والركون إلى أسواقها، والبحث عن  الفرص، والخوف من المستقبل، لا يبقى للروح صفاء ولا شفوف، ولا لطف ولا جلال، ولا يبقى أمامها طريق تعرج منه إلى السماء، ومثل هذه الدنيا -بجلبة أسواقها واختلاف شخوصها وأحداثها- كحلم طاف بنائم في ليل ثم نام فتركه…

وإنه لنائم ذاك الذي يطمع في كل خيال، وسيصيبه من ذلك الخيال عنت ووبال، كالطائر يحلق في  أجواز الفضاء، و ظله منعكس في الأرض، وترى أحد المجانين يقتفي أثره، ويمشي رويدا لاصطياده، فلا يفتأ يرمي الظل بالسهام حتى تنقضي كنانته… فتصبح كنانة عمره خاوية، ويضيع عمره عبثا في محاولة اقتفاء أثر الظل والإمساك به…
ولا شيء يخلص المرء من هذا الوهم إلا أن يشمله الباري -جل وعلا- بجميل لطفه، وسابغ عنايته… فآبذل جهدك لآستدعاء هذه العناية، واستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، واحذر أن تمضي في هذا الوادي القفر دون دليل، وقل مثل الخليل: “قال لا أحب الاَفلين” [سورة الانعام/الآية: 77] ، أو قل مثل الصديق: “رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه”[سورة يوسف/الآية: 33].

امض عن الظل تجد شمسا، وتألق في ضياء شمس روحك حتى ترى الأشياء على وزانها الحقيقي، قال بعض العارفين: “مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل وما أطيب ما فيها قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته”، وقال آخر: “والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته”، ولطالما ردد العارفون في مناجاتهم يا رب ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك، لقد خاب من رضي دونك بدلا، ولقد خسر من بغى عنك متحولا، وفي معناه أنشدوا:

سهر العيون لغير وجهك باطل       وبكاؤهن لغير فقدك ضائع

لقد أضاع أحدهم شيئا، فظل يبحث عنه يمينا وشمالا، وأمام وخلف، وحين وجد ضالته لم يعد يلتفت يمينا ولا شمالا، ولا أمام ولا خلف، بل غدا هادئا مستريحا مطمئنا… وكذلك الإنسان -أيها الإخوة- حين يعرف الحق، ويذوق طعم الإيمان، ويشرق نوره في قلبه، فإنه يغدو وجهة واحدة، وسلوكا واحدا، وحسبة واحدة…

وكل شخص في هذه الدنيا مبتلى مفتتن بأمر من أمورها كما قال الله تعالى: “خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا”[ سورة الملك/الآية :2] وقال: “إن هي إلا فتنتك  تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء”[سورة الاعراف /الآية: 155]، ومن الفتنة أن يعتقد المرء أن سعادته وراحته ودواءه إنما هو بتملك الدنيا، والاستيلاء على أشيائها، والاستكثار من عرضها… وحين يمكن مما كان مفتونا مهموما به، لم يجده شيئا.. لم يجد ما كان يؤمله ويتمناه… فيقول لعلي لم أبحث جيدا، لعلي لم أبذل جهدي، لعلي لم أسلك الطريق الصحيح، وهكذا يظل يسبح في فلك هذا الوهم حتى يصير جزءا من فهمه وعقده.

إن السعادة لا تجلب أبدا من خارج، وليست السعادة عن كثرة العرض، إنما السعادة شعاع من نور يولد وينمو، ويكبر في داخلك، ثم يضيء جوانب حياتك كلها، ويجعلها أكثر انسجاما و سكينة و طمأنينة.

لكن ذلك رهين بأوضاع تنتصر فيها الروح، و ترفرف فيها إشراقات الروح، وترتفع فيها ألوية  الإيمان والحكمة والاستقامة.

نعم، الإنسان مضغة من لحم، لكنه ذو عقل وروح، و بقوة الروح يشق الجبال، ويطوي البحار، ويحرر الأوطان…وبقوة الروح يلين الحديد، ويكسر القيد، ويشق الصخر… وما زالت الروح تنبض بالحياة والقوة والنور، وتمتاز بالعطاء والمدد والبذل، ما كانت يقظة بالحق، متصلة بالينبوع الإيماني، متنزهة عن الدنايا واتباع الهوى؛ فليس شيء يضعف الروح، ويورثها الوهن، ويستهلك قواها بله ويسحقها ويأتي على أمجادها وإشراقاتها كاتباع الهوى، فما دام الهوى فينا متجددا لا تتجدد الروح، وإذا ضمرت الروح وهزلت لم يتجدد الإيمان…

التعليقات

  1. صالح أبو صعيليك - الأردن

    يركز الأستاذ الفاضل على أن نعمة التمييز ومعرفة الحق (الهداية) إنما تتحصل بتنمية الروح بالعلم والعمل، وهي سبب الاستقرار النفسي والسعادة المرجوة، وتنقص هذه الوظيفة الرفيعة للروح، بتزايد لهث الجسد وراء شهواته ونزواته، وهي لا تقتصر على شهوة البطن والفرج، بل إن هذه الشهوة تتقاصر أمام شهوة المال والمنصب والشهرة ونحوها من شهوات هذا العصر المادي.
    فالأستاذ الفاضل آلمته مادية هذا العصر، فنادى بهذا المقال السامي إلى إعلاء الروح والترفع عما نراه من المادية العارمة في زماننا.
    مع الشكر الجزيل للأستاذ الدكتورعبد الحميد على هذه اللفتات والإشارات الموقظة.
    وأثابه الله على إحسانه كل الإحسان.

  2. قرة العين المحمودي

    كثيرا ما يسبح بنا أستاذنا الكريم صاحب هذا العمود بمقالاته في رحلة لاستكشاف الروح والخوض في كنهها للوقوف بها أمام مرآة الحق صافية لا غبار عليها، فأهم ما يقاس به الإنسان فردا أو جماعة في مساعيه الحضارية هو روحانياته وإرثه الروحي.
    لذلك فإن الشاعر العربي يصدر عن رؤية كونية لما قال: يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أقبل على النفس واستكمل فضائلها أتطلب الروح فيما فيه خسران فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان.

  3. نادية برطالي

    نادية برطالي
    السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
    فضيلة الدكتور حفظك الله ورعاك..

    وأنا أتصفح صفحات هذه الواحة الغناء جريدة "ميثاق الرابطة" وقعت عيني على عنوان تشد له الأنظار "هزال الروح"، فقرأت المقال فما كان مني إلا أن أعدته مرات ومرات.

    فيالها من كلمات تخترق الروح …
    تبحث في زواياها…
    تشعل فيها شمعة من النور…
    وتتجاذب معها أطراف الحديث لكي ترتقي بها إلى سماء الإيمان العطرة.

    كلمات لا أملك سوى القول إنها:
    بلسم لروحنا القلقة….
    ….

  4. عبدالمجيدعبدالباقي

    بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ومولانا محمد المكين وآله وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
    وبعد:
    فإن هذا الموضوع الذي تطرق إليه الأستاذ لمهم للغاية، ولقد زينه الكاتب في معالجته الجيدة؛ إذ زاوج فيها بين أسلوبي العلم المؤيد بالحجة والبرهان والوعظ والإرشاد الذي يخاطب النفس والوجدان فلله در المومن الذي يقرأ آيات الله ويتدبر فيها، فجزى الله الأستاذ الناصح خيرا ونفع به.
    وهذا فإن من أهم وسائل تزكية النفس، والترقي بالروح الأمور التالية:
    • الالتجاء إلى الله تعالى بدوام مراقبته سبحانه وتعالى؛
    • التبرأ من الحول والقوة؛
    • تقليل الآمال الدنيوية وقصرها وتعمير الأوقات بالطاعات؛
    • ضبط الحواس والاستعانة بالصبر بأنواعه الثلاثة.
    نعم لقد فصل الكاتب الناصح في بعض ذلك، ولكني أرجو في ما يستقبل من الأيام أن يقف معنا وقفة وقفة مع كل نقطة بالتفصيل والشرح لأن من مثل هذه المواضيع لجديرة بكل ذلك والله الموفق.

  5. رشيد كرموت

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
    حيا الله دكتورنا الفاضل وبياه، وأبهج نيل الأماني محياه .

    مازالت قطرات غيث كلماتك الشيقة تهطل على مرابع قلوبنا فتحييها بعد موت، وتنعشها بعد ركود وسكون .

    وما زالت تأملاتك في آي القرآن تحمل القلب المثخن بجراحات المعاصي إلى رياض الطاعة، وفردوس التقوى.

    حقا إن الروح إذا هزلت توقفت عن الرقي إلى العلى ولو كان الجسد ضخما، لأن تسلق درج سلم الرقي إلى ذي العزة والجلال يكون بالروح لا بالجسد .

    فموضع التطبيب والمداواة إذن هو الروح لا الجسد، والدواء الشافي هو الإقبال على تدبر القرآن الكريم؛ لأن منزله عز وجل قال فيه: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمومنين ".

أرسل تعليق