Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

جوانب من الحياة الاقتصادية عند المرابطين والموحدين

استطاع المرابطون لأول مرة في تاريخ المغرب السياسي توحيد المناطق الساحلية المتأثرة بالحضارة الأندلسية مع المناطق الداخلية بداخل البلاد المتأثرة بالحضارة البيزنطية، ونشروا المعطيات الحضارية في المغرب كله بسهوله وجباله، ومن ثم ضمت المؤثرات الحضرية والقروية لتنصهر في وحدة بين شمال البلاد وجنوبها وبين الأندلس وإفريقيا الشمالية والوسطي، وأصل الملثمين -كما سبقت الإشارة- من قبائل الصحراء التي لم تكن تعرف طلاوة الحضر وكانت تهتم فقط بتربية الأنعام والمواشي والإبل، إلا أنهم بعد الاحتكاك بالحضارة الأندلسية اقتبسوا منها، وعملوا على التكامل بين الاقتصاد الأندلسي والاقتصاد المغربي ومد الجسور بين العدوتين ما وسعهم ذلك؛ إذ تذكر المصادر أن المرابطين عند فتح مدينة «فاس» سنة (462ﻫ) عملوا على تطوير اقتصادها وبناء الحمامات والفنادق والأرحاء على الأودية رغبة في رواج اقتصادها وتحريك عجلته ذات اليمين وذات الشمال، كما أن الوصف الدقيق للشريف محمد الإدريسي الحسني السبتي (564ﻫ/1160م) في كتابه الشهير “نزهة المشتاق في اختراق الأفاق” [1]  لمدينة «مكناس» كما شاهدها في عهد المرابطين يظهر مدى اعتناء المرابطين بترويج الاقتصاد حيث ذكر أنها كانت تتكون من مجموعة أحياء متقاربة، وتمتاز بخصوبتها وعيونها الدافقة، وكانت تنتج القمح والعنب والزيتون والفواكه، وغراساتها منتظمة يتصل بعضها ببعض.

لقد اهتم المرابطون الأشاوس بجميع نواحي الاقتصاد وحاولوا جهد المستطاع اكتشاف وتطوير أساليب اقتصادية جديدة رغبة في ازدهار البلاد ومواكبتها للتطورات التي كانت ترد عليها خصوصا بعد ضم المغرب والأندلس سياسيا ومد الجسور بينهما، ومن النماذج الاقتصادية التي أولوها عنايتهم الفلاحة، الصناعة، والملاحة.. والتي سنلامس بعض الجوانب منها تذكيرا لعظمة هذه الدولة المجاهدة التي استطاعت في ظرف وجيز أن تعمل على تنمية وازدهار اقتصاد المغرب والأندلس على السواء وتدخل التاريخ من أبوابه الواسعة.

الفلاحة عند المرابطين :

اعتنى المرابطون بالفلاحة والزراعة في دولتهم الفتية وسعوا إلى تطوير أساليبها وتنميتها لكي تستطيع أن تفي بحاجيات ومتطلبات البلاد، وتذكر المصادر والمراجع التاريخية التي اهتمت بالحقبة المرابطية أن المرابطين كانوا من أغنى القبائل الصحراوية، وأن مدينة «أغمات» التاريخية كانت “.. من المدن الخصبة التي تصدر منتجاتها الوافرة إلى السودان من نحاس وأكسية وصوف وزجاج وأحجار وتوابل، ومصنوعات حديدية وغيرها.. و في ناحية سوس كانت تزدهر زراعة قصب السكر” [2]، كما كانت هناك عدة أنواع من الفلاحة مزدهرة ومتوفرة في باقي أنحاء المغرب تذكرها المصادر التي أرخت لهذه الحقبة التاريخية الذهبية.

وبعد وصول المرابطين إلى الأندلس ساهموا في نهضة الفلاحة وغرس الأشجار وتوسيع مجال الزراعة مما يوحي أن التواصل والصلات التي كانت بين المغرب والأندلس وحدت بين نظاميهما الاقتصادي من جميع الجهات، ويمكن الوقوف على ذلك بالتفصيل في كتب «الرحلات» وكتب «الوثائق» وكتب «النوازل» ككتاب “الإعلام بنوازل الأحكام” للقاضي عيسى ابن سهل(توفي486ﻫ)، و”فتاوى أو مسائل أبي الوليد بن رشد” (توفي520ﻫ)، و”نوازل ابن الحاج“ (توفي529ﻫ)، و”مذاهب الحكام في نوازل الأحكام” لابن القاضي عياض (توفي575ﻫ)، و”المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب” للونشريسي (توفي914ﻫ)، وما تقدمه من معلومات دقيقة عن الحياة الاجتماعية بصفة عامة وعن الحياة الاقتصادية بصفة خاصة؛ إذ هي تساعد على إزاحة بعض الغموض الذي يلف تاريخ المجتمع المغربي والأندلسي، كما تعمل على تقديم إفادات على مستوى الأخبار وجزئيات الوقائع، كوصفها مثلا لبعض مظاهر النشاط الزراعي والصناعي الذي كان المغرب والأندلس يعرفه خلال العصر المرابطي، وذكرها لأنواع المحصولات الفلاحية التي كانت متوفرة آنذاك كالحبوب والزيتون والكتان وتربية المواشي.. والتي كانت تفرض كنفقة للمرأة المطلقة على سبيل المثال لا الحصر، فهذه الكتب تتضمن إشارات أخرى غنية إلى جوانب اقتصادية جديرة بالتتبع والدراسة؛ لأنها تكشف عن طبيعة القضايا اليومية للمجتمعين المغربي والأندلسي في عهد المرابطين، خاصة ما يتعلق بمسائل الفلاحة والمياه والصناعة وحرفها وأنواع التجارة ما ينتج ويصدر وما يجلب من الخارج؛ ومن ثم يمكن التعرف على بعض مظاهر النشاط الزراعي والصناعي الذي كان المغرب والأندلس تعرفه خلال عصر المرابطين، كأنواع المحصولات الفلاحية التي ذكرتها النصوص (حبوب، زيتون، كتان، تربية مواشي..) والتي تتحول إلى أغذية وألبسة.. أما «كتب الوثائق» فتسجل عقود بيع وشراء واستئجار، وعقود مساقاة وغرس ومزارعات، وعقود زواج.. وتفيد هذه الوثائق في توضيح كثير من جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المغرب والأندلس، ومن أهم كتب الوثائق على سبيل المثال لا الحصر التي يمكن الرجوع إليها في هذا المضمار: كتاب ”الوثائق والسجلات“ لابن العطار الأندلسي(توفي399ﻫ) تحقيق المستعربين الإسبانيين PedroChalmeta وFrederico Corienté، وكتاب ”المقنع في الوثائق“ لابن مغيث الطليطلي (توفي459ﻫ) تحقيق الإسباني JAvier Aguirre، وكتاب ”الوثائق المجموعة“ لابن فتوح البونتي (توفي462ﻫ)، والكتاب المعاصر ”وثائق المستعربين في طليطلة في القرنين 12-13“ لأنخل جنثالث بالنثيا: Angele Gonzalez Palencia.”Los Mozarabes de Toledo en los siglos 12-13″.3vols.Madrid.1962.، فبفضل ما توفره هذه الكتب من نصوص دقيقة يمكن كشف اللثام عن هذا الجانب بالغرب الإسلامي في عهد الدولة المرابطية التي كان لها الفضل كل الفضل في ترسيخ النواة الأولى للحضارة المغربية.

التجارة عند المرابطين :

كان لحالة الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي شهدته دولة المرابطين في عصر يوسف بن تاشفين وعصر ولده علي بن يوسف الأثر الكبير في ظهور أهمية التجارة وازدهارها، ولاشك أن اعتناء التجار بهذا الميدان يعود إلى إلغاء الدولة المرابطية للضرائب الفادحة والمكوس على التجارة والمتاجر، مما ساعد على استفحال ظاهرة التجارة وامتهانها من لدن العديد من شرائح المجتمع المغربي الأندلسي الذي كان يتكون من مجتمع العامة من التجار والصناع والحرفيين والمزارعين، ومما ساهم أيضا في ازدهار التجارة بالغرب الإسلامي على عهد المرابطين ذلك التوحيد بين المغرب والأندلس والسودان حيث أصبح “في الإمكان أن تنتقل القوافل من أقصى السودان إلى أقصى الأندلس ثم إلى العالم العربي شرقا والعالم الأوروبي شمالا، ونشطت مراكز جديدة كسجلماسة وأغمات..” [3]، التي أصبحت مراكزا تجارية يحسب لها ألف حساب ويعطى لصادرتها أهمية كبرى.

إن امتداد رقعة الدولة المرابطية في السودان والمغرب والأندلس مكن التجارة من الازدهار والحضو بنصيب وافر من الاهتمام في هذا العصر، ومن تم أدى إلى فتح منافذ كثيرة وطرقا مختلفة لتسويق المنتجات الزراعية والصناعية، فنشطت بذلك حركة الصادرات والواردات ونمت التجارة الداخلية والخارجية على السواء، كما أن الاستقرار السياسي الذي عرفته الدولة المرابطية ساهم في تأمين التجارة الداخلية بين حواضر الدولة في المغرب والأندلس، فشجع ذلك التجار على ولوج هذا الميدان والعمل على تنميته وازدهاره، وزاد في هذا الازدهار سيطرة المسلمين على حوض البحر الأبيض المتوسط فكان لهذا التحكم في الحوض دورا في الازدهار الاقتصادي والتجاري بين الشرق والغرب، إذ كانت سفن المرابطين دائبة الحركة إلى «سوريا» لجلب التوابل والمنتجات الفاخرة من بلاد الشرق إلى شمال إفريقيا؛ ومما يؤكد التبادل التجاري بين دول حوض البحر الأبيض المتوسط والشرق العثور على قبر بمدينة «ألميرية» في الأندلس يحمل اسم تاجر إسكندري الأصل اسمه ابن خليف الإسكندري توفي بهذه المدينة سنة (519ﻫ)، ينتمي إلى أسرة سكندرية مرموقة في العصر الفاطمي اشتغل بعض أفرادها بالتجارة، مما يدل على أن التجارة كانت قائمة بين الأندلس في العصر المرابطي وبين مصر في العصر الفاطمي، كما عثر على قبر شاهد آخر بنفس المدينة يحمل اسم أبو عمر عثمان بن محمد بن بقي الشامي الذي توفي بالمرية سنة (525ﻫ)[4] ؛ وهذا يثبت بالملموس قيام صلات تجارية بين مدينة «ألميرية» أعظم ثغور الأندلس التجارية في عصر دولة المرابطين وبين مصر والشام في العصر الفاطمي[5] ، كما أن “وثائق الجنيزة” الذائعة الصيت تتضمن الكثير من المعلومات عن تجارة التوابل عبر الخليج العربي وبحر القلزم، ولقد استفاد منها العديد من الباحثين في تاريخ الإسلام الاقتصادي وفي دراساتهم التاريخية والحضارية؛ وصفوة القول أنه بفضل سيطرة المرابطين على حوض البحر الأبيض المتوسط عم الرخاء جميع بلاد المغرب في ذلك العهد الزاهر.

في ذات السياق سجل التاريخ للمرابطين حرصهم الشديد على نمو أسطولهم البحري لما لمسوه من أهمية هذا الأسطول سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، فاهتموا به اهتماما كبيرا وبفضله احتلوا مركزا مهما في حوض البحر الأبيض المتوسط مما ساعد على ازدهار التجارة الخارجية المرابطية، وتأمين طرق التجارة البحرية من الأخطار الكثيرة التي كانت تهددها خصوصا خطر القراصنة الذي كان يحدق بها من كل ناحية، ولقد كان لهم في عهد يوسف ابن تاشفين أسطولا صغيرا يتألف من السفن التي تنقل الجند من المغرب إلى الأندلس، وكان عدد هذه السفن كبيرا بالنسبة إلى السفن البحرية، وقد ارتقى هذا الأسطول في عهد علي بن يوسف وأظهرت وحداته نشاطا ملحوظا في البحر الأبيض المتوسط حيث يذكر الشريف الإدريسي أن “أحمد بن عمر كان واليا لأمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين على جملة من أسطوله” ؛[6] ومن ثم نلمس أن الأسطول المرابطي في عهد علي بن يوسف كان ضخما، وأنه كان ينقسم إلى وحدات، ولقد انتصر الأسطول المغربي على أسطول الفرنجة في فتح بلنسية وجزر البليار[7]، كما اشتهر من أمراء البحر في عهد علي بن يوسف، علي بن ميمون الذي كانت له جولات بحرية رائعة على سواحل الأندلس وإيطاليا وفرنسا؛ وبفضل حمايتهم للطرق التجارية وتوسيعهم لها استطاع المرابطون بحنكتهم وحسن تدبيرهم إقامة نشاطا تجاريا بين دولتهم الفتية وبين البلدان الأوروبية الغربية “.. وقد استمرت هذه الحركة مزدهرة رغم غارات الإيطاليين على سواحل المغرب الإسلامي، وظلت العملة التي كانت تسلك آنذاك في «كَطلُونِية» و«مُونبِيليه» باسم الدينار المنقوش دليلا على قيام تجارة نشيطة بين بلدان الغرب الأوروبي وبين مسلمي الأندلس والمغرب، وقد استحوذ تجار «جِنْوَة» و«بِيزَة» على قدر كبير من تلك التجارة خلال العصر المرابطي” [8].

إن دولة المرابطين رغم قصر عمرها استطاعت ببعد نظر خلفائها ودربتهم الاستفادة من قربها من البلدان الأوروبية ومد الجسور معها عن طريق المبادلات التجارية التي سعت إليها بكل قواها بمختلف الوسائل والطرق رغم قرب عهدها بالحياة الأندلسية، وتحدت الصعاب والعقبات التي واجهتها كالهجمات الإيطالية المتكررة على سواحل المغرب، والخطر الدائم الذي كان يشكله القراصنة في حوض البحر الأبيض المتوسط، فسعت إلى تطوير أسطولها البحري لما لمسته من أهميته إذ يعتبر هو الأداة الفعالة لولوج الميدان البحري؛ وأنشأت المدارس المختصة من أجل تكوين البحارة المتميزين الذين يحملون لواء الدفاع عن أسطولها البحري، ومن ثم استطاعت بفضل هذه الجهود الذؤوبة تنمية التجارة الداخلية والخارجية في ظرف وجيز وتحريك اقتصادها وازدهاره.

الصناعة عند المرابطين :

لم تكن الصناعة أعزائي القرّاء الكرام أقل شأنا من التجارة عند المرابطين فقد ازدهرت ازدهارا كبيرا منقطع النظير حيث توفرت المواد الخامة التي تستعمل عادة في الصناعة، وتدفقت بكثرة على أسواق الأندلس من السودان، كما ساهم النشاط التجاري الذي كان قائما بين موانئ المغرب والأندلس والسودان بدوره في رواج الصناعة التي أصبح من السهل تسويقها وتصديرها إلى أسواق الاستهلاك المختلفة، فاستطاع الصناع بفضل ذلك مضاعفة الإنتاج والترويج لصناعات متنوعة، كما فتحت الدولة المرابطية أبواب المغرب أمام صناع الأندلس الذين توافدوا على المغرب حاملين معهم تجربتهم ومهارتهم المتميزة؛ ومن تم كان الصناع الحرفيين يشكلون جانبا كبيرا في المجتمع المغربي الأندلسي فأصبحوا موضع احترام الخليفة وأمراء الدولة حيث كانت لهم مشاركات عديدة في ازدهار الحياة الاجتماعية سواء في المغرب أو الأندلس عن طريق إبداعاتهم الرائعة.

وبفضل ازدهار وتطور الصناعة في عهد المرابطين ظهرت بالمغرب والأندلس مراكز صناعية ضخمة ارتفع نجمها وذاع صيتها، وتميزت بنوع معين من الصناعات كمدينة فاس ومراكش وأغمات بالمغرب، وكانت هذه الأخيرة حسب ما تذكره المصادر تصنع مصنوعات حديدية من نحاس وغيره وتصدرها إلى السودان، كما أنها كانت تصنع منتوجات زجاجية وتصدرها من بين الأشياء التي كانت تصدر خارج المغرب، أما مدينتي فاس ومراكش فقد كانت بكل منهما أسواقا مشهورة تذكرها المصادر والمراجع المختلفة تباع فيها منتوجات محلية من جلد وأحذية وألبسة صوف إلى غيره من المنتوجات التي كانت رائجة في ذلك العهد والتي اشتهر المغرب بتصنيعها خلال الحقبة المرابطية؛ ولقد وصف ”الحسن الوزان“ أسواق مدينة فاس المختلفة وما كان يروج فيها من منتوجات صناعية محلية بأيد مغربية، كما وصف العباس بن إبراهيم مدينة مراكش وأسواقها في كتابه “الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام” نقلا عن الشريف الإدريسي الذي ذكر أن مراكش في عهد المرابطين كانت لها أسواقا مختلفة وسلعها نافقة [9].

ومن أهم المدن الصناعية الأندلسية في عهد الدولة المرابطية مدينة «إشبيلية» و«ألميرية» و”قرطبة” وهم من أهم المراكز الصناعية بالأندلس التي ساهمت في ازدهار الصناعة خلال هذا العصر حيث كانت تتوفر على مواد خام تصلح لمختلف الصناعات التي استعملها المرابطون في منتوجاتهم الصناعية والتي كانت تغزو الأسواق الداخلية والخارجية  [10]، ومن الصناعة التي انتشرت عند المرابطين واهتموا بها اهتماما فائقا صناعة السفن[11] والأسلحة الحربية حيث كانت هذه الصناعة من الصناعات التي حرصت عليها الدولة المرابطية وسعت إلى تطويرها في كل حين نظرا لأهميتها بالنسبة لدولتهم التي كان شعارها رفع راية الإسلام عاليا والذود عن حمى الوطن كلما دعت الضرورة إلى ذلك؛ وللإشارة فرغم بداوة المرابطين وقلة خبرتهم بالبحرية بحكم انبثاق دولتهم من الصحراء، فقد استطاعوا أن يدركوا بفطنتهم أهمية القوة البحرية منذ أن شرعوا في فتوحاتهم بالمغرب وتمكنوا من فرض سيطرتهم وسلطانهم على السواحل.

 يرجع الفضل في إنشاء البحرية المرابطية إلى دربة وحنكة القائد الباسل يوسف ابن تاشفين الذي وجه عنايته الخاصة نحو إنشاء أسطول بحري من أجل فتح الأندلس ونقل جيوشه وعتادهم نحوها وتوفير الحماية لهم، فاستعان بخبرة أهل الأندلس، كما استعان بالمواد الخام التي تتوفر بكثرة في الأندلس والتي تصلح لصناعة السفن كمعدن الحديد والأخشاب، كما استعان أيضا بدور صناعة السفن المنتشرة على طول السواحل الأندلسية، وخاصة دور الصناعة في «طرطوشة» و«دانية» و«شلب» التي كانت محاطة بغابات تصلح أخشابها لصناعة السفن” ؛ ولقد كان بمدينة «ألميرية» وحدها قسم كبير من الأسطول المرابطي حيث كانت تعتبر من أكبر قواعد هذا الأسطول الذي كان دائما على أهبة الاستعداد لتلبية أوامر الخليفة يوسف بن تاشفين من أجل الدفاع عن حوزة الوطن.

يستشف مما سبق ذكره أن الدولة المرابطية رغم قصر عمرها كان لها اهتماما بالصناعة والتجارة بالمغرب والأندلس حيث كثفت جهودها من أجل تطوير هذه الميادين وعملت على تشجيع التجار والصناع والحرفيين في مختلف الحرف، وكان لفتح الأندلس أثر واسع على الصناعة والتجارة بالغرب الإسلامي في عهد المرابطين الذين استفادوا من موقعها الإستراتيجي الذي مكنهم من مد الجسور مع البلدان الأوروبية الأخرى، بالإضافة إلى دربة خلفائهم وبسالتهم التي خولت لهم خدمة دولتهم الفتية وترسيخ قدميها في كل من إفريقيا وأوروبا على السواء وفرض وجودها رغم كثرة الإحن والمحن..

وتجدر الملاحظة أن القوة الاقتصادية للدولة المرابطية الفتية تظهر بالملموس في قوة دينارها المرابطي الذي تتكلم عنه كتب الفتاوى والنوازل المختلفة بالتفصيل والمراجع الأجنبية التي أرخت لتلك الحقبة التاريخية، وباختصار شديد يمكن الإشارة إلى العوامل الكامنة وراء قوة العملة المرابطية التي ظلت متربعة على عرش العملات المسيحية المتداولة بمدة طويلة بعد سقوط نجم المرابطين، وهي عوامل اقتصادية وسياسية أهمها أن الدينار المرابطي كان يضرب من الذهب الخالص الذي كانت له سمعة عالمية وهو ذهب دولة غانة [12] الذي تحكم المرابطون في مناجمه وطرق تجارته منذ سـنـة (445ﻫ/1053م)، وقد أدى تراكم الذهب بأيدي المرابطين إلى سك دينار وصلت درجة نقائه إلى 96 ب المائة، مما جعله مرجعا معتمدا في الأوساط التجارية الدولية آنذاك، جعلت الدول المسيحية في «قشتالة» و”أرغون” تحرص على الحصول عليه حتى أصبح اسمه يذكر في الوثائق والحوليات الإسبانية الوسيطية، التي ظهرت فيها كلمة “Marabotin” منذ سنة (477هـ/1084م) وفق ما تذكره المصادر الأجنبية المعتمدة.

هذه باقتضاب شديد أيّها القراء الكرام بعض الإشارات والنماذج من الحياة الاقتصادية التي اهتمت بها الدولة المرابطية المغربية التي تعتبر غرة ناصعة في جبين التاريخ المغربي، وتاريخ منطقة الغرب الإسلامي الحافل بالأحداث التي يمكن اقتباس العبر منها وتفعيلها على أرض الواقع المعيش..

يتبع في العدد القادم إن شاء الله..

———

1. كتاب في الجغرافية العامة يذكر فيه مؤلفه البناء والبحار والجبال، وأجناس النباتات والصناعات والتجارات، مع ذكر أحوال أهل البلاد ومذاهبهم وزيهم ولغاتهم.

2. إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، 1/219.ط:1دار الرشاد الحديثة، البيضاء، 1984م.

3. حسن السائح.الحضارة المغربية عبر التاريخ، 1/173.دار الثقافة، البيضاء، ط:1، 1975م. وللمزيد انظر:عز الدين موسى، النشاط الاقتصادي في المغرب الإسلامي خلال القرن السادس الهجري، طبعة دار الشروق، القاهرة:1983م، ص: 27، وكمال أبو مصطفى، جوانب من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والعلمية في المغرب الإسلامي من خلال نوازل وفتاوى المعيار المعرب للونشريسي، الإسكندرية، 1991م، ص: 7.

4. للتوسع انظر:السيد عبد العزيز سالم، تاريخ مدينة ألميرية الإسلامية قاعدة أسطول الأندلس، بيروت:1929م، ص: 170.

5. EL sayed abdel aziz salem.Algunos aspectos del florecimiento economico de Ammeria islamica durante el periodo de los Taifas y de los Almoravides.Revista del Instituto Egipcio de Estudios Islamicos..Madrid.1979. p8

6. الشريف الإدريسي، المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس، طبعة: ليدن، ص: 54.

7. انظر: القلقشندي، صبح الأعشى 5/257.

8. حمدي المرعي، تاريخ المغرب والأندلس في عصر المرابطين -دولة علي بن يوسف المرابطي-، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1986م، ص: 352-353.

9. للتعمق انظر: العباس بن ابراهيم التعارجي، الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، 1/63-64، ط:1، فاس، 1936م.

10. للمزيد انظر: أمين توفيق الطيبي، جوانب من الحياة الاقتصادية في المغرب في القرن السادس الهجري، الجزائر:1987م.

11. حمدي مرعي، مرجع سابق، ص: 307.

12. للمزيد انظر:أمين توفيق الطيبي، دراسات وبحوث في تاريخ المغرب والأندلس.ليبيا-تونس،الدار العربية للكتاب، 1984م، ص: 321.Messier.The Almoravids:West African Gold and the Gold currency of the Mediterranean Basin.Jesho.1970. p:32..

التعليقات

  1. SALAHEDDINE CHANAA

    AL MARJO MIINA AL IKHEWAN BI IRSSAL KHARITHATIN 3ANI TAWASO3 AL MORABITHIN 3ASKARIYAN WA I9TISADIYAN.

  2. باحث في الحضارة الإسلامية من لوكسبورغ

    سيدتي الدكتورة علية الأندلسي
    سلام الله عليك،
    أتواصل معك مجددا بعد أن قرأت مقالاتك كلها وأعجبت بها، خصوصا أنك تعتمدين أسلوبا مميزا في التحليل وإيراد المعلومات التاريخية الدقيقة الموثقة، أشكرك على المراجع المعاصرة الأجنبية التي تعتمدين عليها وتوردين أسمائها وطبعاتها بالتفصيل، وأخبرك أنني رجعت إليها واستفدت منها أنا وبعض الزملاء الأجانب، أتمنى لك الاستمرارية في هذا النوع من البحوث الدقيقة والموثقة بالمراجع العربية والأجنبية.

    كما أشكر المسؤولين على هذه الجريدة الإلكترونية المتميزة.
    وأطلب منهم أن يتكرموا علي بالبريد الإلكتروني للدكتورة الأندلسي بعد استئذانها طبعا،

    والشكر لكم ولها على هذه المقالات وعل الصور الرائعة المرفقة بها التي نحس بالنشوة والافتخار عند تطلعنا إليها، أتمنى لكم مزيدا من التألق والعطاء المثمر…
    Bonne chance et Good Luck for You all, yours from

    LUXOMBOURG

أرسل تعليق