Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

الصفوة المُغاضِـبة

كلما تأملت حال العديد من الباحثين في وطننا الإسلامي وإلا وقفزت إلى ذهني صورة نبي الله صاحب الحوت، ذو النون يونس بن متى -عليه السلام-، إذ ذهب مغاضبا لربه -عز وجل- من قومه لما امتنعوا عن الإيمان بما أرسل إليهم به. وهذا عين حال أهل الفكر في أمتنا المعاصرة حين تسلل اليأس إلى نفوس بعضهم، وذلك لما عجز عن استنهاض همة أفرادها بأفكاره ومحاضراته وكتاباته وآرائه ونصائحه وتوجيهاته.. فلما أحس أن نداءاته المتكررة كالذي ينفخ في غير ضرم، ذهب مغاضبا متحسرا، يعصره الألم جراء أحوال الأمة، فانزوى في ركن من أركان حياته الخاصة، واقتصر على أداء مهمته المعيشية بعيدا عن هموم الأمة، فلا تكاد تحس منهم من أحد أو تسمع له ركزا!

ولا يختلف اثنان من هؤلاء المفكرين والأعلام، أصحاب هذا الغضب الغريب، أن مقدمات التغيير الحضاري للأمة الإسلامية تحتاج إلى دور فاعل للباحثين والمفكرين والعلماء، فهم الرواد الحداة الذين يمسكون بزمام القافلة ويمشون أمامها تيسيرا للنهوض بالدور الحضاري المنشود.

وهكذا فإن بعض الباحثين يعيبون على هذه النخبة تخلفها عن القيام بدورها وأداء رسالتها كما كان يفعل سلفهم، بل إننا نجد من يعتبرهم “المشكلة الصعبة في المعادلة الحضارية”، ويطالب بفتح نقاش جاد حول هذه المسألة، مهما كانت ملابساتها صعبة وشاقة على النفس، وامتلاك الشجاعة والجرأة للمكاشفة والمراجعة والتقويم، وفي هذا تأكيد على أن الواقع الإسلامي، الذي نحن فيه، ولا نحسد عليه، هو من بعض الوجوه، أو هو من معظم الوجوه دليل وشاهد إدانة للنخبة وعجزها عن التغيير والتجديد، خاصة وقد أتاح العصر من الآليات، وحفظ المعلومات، واختزال المسافات، وتوفير التخصصات، إضافة إلى هداية الوحي، التي تتميز بها الأمة المسلمة، ما لا يدع عذرا لمعتذر.

ومن ثمة، فإن الادعاء بالهجمة الشرسة والتسلط الخارجي والظروف الدولية وما إلى ذلك من الحجج، أصبح مبررا غير مقنع، بل إنه يحمل في طياته، من بعض الوجوه، دليل إدانة أخرى للنخبة العالمة المغاضبة  [1]. 

ومن نافلة القول التذكير بأثر الباحثين والعلماء في بناء المجتمعات وقيام الحضارات، بيد أن الذي يلاحظ على أغلب المشتغلين اليوم في حقل العلوم الإسلامية هو عدم تحديد المسؤوليات وتوزيعها بشكل منضبط، حتى كأنه يخيل للباحث في قضايا الأمة أن معظم المحاولات التي تبذل في إطار تجديد الوعي الحضاري مفرقة وغير موحدة، ولا يكاد الباحث المدقق والمفكر المنظر يظهر من غيره أو يبين! فاختلطت الأمور، وتباينت الآراء والتصورات، وتداخلت الوظائف والمهام، فبدأ الكل “يبحث” و”يؤصل” و”يدرس” و”يناقش”.. فضاقت الساحة العلمية الإسلامية المعاصرة “بالمفكرين”، مما أدى إلى إضعاف قدرات الأمة المعرفية، وعدم وضوح رؤاها ومفاهيمها، فأصبح مستقبلها رهين بما يحدث ويجري.

ومن ثم وجب التأكيد على أن من معالم تحقيق الشهود الحضاري إسناد صياغة المقدمة الحضارية للأمة لأهلها من العلماء والمفكرين والباحثين، وليس لمن يحسب عليهم زورا وبهتانا!!

فصفوة الأنام من أهل العلم هم الذين في مُكْنتِهمُ أن يكسروا جهدهم الذهني لإصلاح مناهج العلوم الإسلامية وبناء الرؤية الإسلامية على أسس سليمة، وتقديم هذه الحصيلة إلى الأمة ورجالها ومؤسساتها لكي تتبناها وتضعها محتوى لفكرها ودليل عمل لجهود مسيرتها وبنائها المستقبلي.

وهم الذين باستطاعتهم أن يعيدوا للتصور الإسلامي أصالته وشموليته وفطريته وواقعيته، وتخطي الظروف والتجارب والعثرات التاريخية التي سببت انحراف الفكر والرؤية الإسلامية وتفريغها من محتواها وتحويلها إلى شكليات وطقوس وشعارات.

كما أنهم أهل النظر في أصول الفكر الإسلامي ومنهجيته، وهم القادرون على تجلية قضاياها لكي تعطي رؤية وفكرا وعلوما إسلامية، ليس فقط في مجالات الوحي والنصوص واللغة، ولكن في مجالات الحياة والاجتماع الإنساني كافة.

وقد صدق من الباحثين المعاصرين من نبه في إشارة واضحة إلى أن على العلماء أن يعلموا قبل هذا كله أن المسؤولية في وضع الأمة على جادة القدرة والتقدم تقع على عواتقهم قبل سواهم، وأن سواهم في ذلك إنما هو تبع لرؤيتهم ومشورتهم ونتاج لها، وأنهم بقدر صمودهم وصبرهم ونجاحهم في تقديم الرؤية والمشورة الصحيحة ووضعها بالأسلوب العلمي السليم المقنع، بقدر نجاحهم في تحريك الأمة لخدمة رسالتها وبناء حياتها  [2].

إن الدعوة الموجهة للعلماء المُغاضبين لتحمل مسؤولياتهم تجاه أمتهم الإسلامية ليست من قبيل إحياء دورهم وتجديده وبعثه فحسب، وإنما لما يشهد التاريخ لهم من أثر كبير في الإعداد الحضاري، ولما تؤكده الدراسات المتخصصة في علوم الحضارات الإنسانية لحركتهم التي تغير أحيانا مجرى التاريخ.
فهل سيغالبون صبرهم مع أمتهم قبل أن تقدر عليهم نون العولمة وأخواتها كما قدر على ذي النون من قبل؟

———

 1. أنظر: ذ. عمر عبيد حسنة، في النهوض الحضاري، ص: 133 وما بعدها.

2. أنظر: د. عبد الحميد أبو سليمان، أزمة العقل المسلم، ص: 221 و222.

التعليقات

  1. ياسين عباد

    السلام عليكم
    نشكر أستاذنا الفاضل على هذا الموضوع الممتع الذي تناول موضوع نهضة العلماء والتواصل بينهم.
    والله المستعان

  2. الحسين أبو خالد

    بسم الله الرحمن الرحيم
    لا زال في الأمة الخير العميم، مادام قلبها العالم النابض يضخ دم حياة العلم بحرارة التوجيه والنصح و(لا خير في قوم لا يتناصحون ولا خير في قوم لا يقبلون النصيحة)، وقد أنذرت فأعذرت يا دكتور بدعوتك هذه إلى علمائنا الأفاضل [ لتحمل مسؤولياتهم تجاه أمتهم الإسلامية] و[إحياء دورهم وتجديده] و[ لما يشهد لهم به التاريخ من أثر…] {ونكتب ما قدموا وآثارهم، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}، وإن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينبهنا بقوله ـ كي لا نيأس في فترات ـ (…إن لكل شيء شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح وأنجح، ومن كانت فترته إلى بدعة، فقد خاب وخسر).

    المطلوب أن:
    1. لا ينعزل العلماء بعضهم عن بعض وأن يكونوا أول من تتجلى فيهم آية الاعتصام بحبل الله تعالى: {… واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا…} فإن (الذئب لا يأكل من الغنم إلا الشاة القاصية)؛
    2. لا يأخذوا كلام عموم الناس أو المغرضين منهم، حول العلماء، وهم أدرى بآية التبين من سورة الحجرات؛
    3. لا ينزلقوا في اتخاذ موقف متحيز، فهم ملك للأمة بجميع مكوناتها وهم ملاذ للجميع، ولذلك رفع الله درجتهم، وينبغي أن يعلموا بمقامهم [لا درجة غرور، وإنما هي درجة مسؤولية يسألون عنها غدا، حين لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، ومنها <<علمه ماذا عمل به؟>>] وما أجمل ما قيل في هذا الباب:
    # أن أبيت نائما، وأصبح نادما *** خير من أن أبيت قائما وأصبح معجبا #

    فعزلة العالم عن الهوى المتبع، والشح المطاع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، عزلة محمودة مؤقتا، حتى يسترد (التواصل) عافيته.

أرسل تعليق