Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

تعليق واحد

تربية الأبناء وأزمة التربية 1/3

في العدد السابق، وفي إطار تشخيص أسباب الأزمة التربوية بواقعنا العربي، تناولت مفهوم التربية في إطلاقيها العام والخاص، لإبراز علاقة المفهوم  السائد للتربية بأزمة التربية التي بات الجميع مقتنعا بها ومدركا لحجمها وأبعادها …

وفي هذا العدد سأتناول – بالتحليل – السبب الثاني من أسباب هذه الأزمة، والذي يعد من أكثر العوامل فاعلية في إنتاجها وإفرازها، ألا وهو الفلسفة التربوية باعتبارها أصلا من أصول التربية، بل يعد مصدرا من مصادر اشتقاق غاياتها وأهدافها؛ إذ القاعدة الثابتة والمطردة  لدى أمم  العالم، قديمه وحديثه، أن جميع الشعوب تعتمد في بناء مناهجها التربوية على أصول وفي مقدمتها الأصل الفلسفي. وحتى يتضح دور هذا الأصل الفلسفي في توجيه العملية التربوية بجميع مكوناتها، ويتبدى أثره  في نتائجها… فإني سأتناول الموضوع محاولا استجلاء أهم جوانبه وأدواره، وذلك من خلال الأسئلة الآتية:

1.    ما مفهوم الفلسفة التربوية؟

2.    ما أهمية اعتماد فلسفة تربوية تنطلق من ثقافة مجتمعنا في وضع المناهج التربوية؟

3.    ما هي آثار اعتماد فلسفة تربوية بعيدة عن أصولنا الثقافية؟

1 .  لما كان الإنسان هو موضوع التربية؛ فإن فلسفة التربية تعني “مجموعة من المبادئ والمعتقدات والمفاهيم الموجهة للجهد التربوي والعملية التربوية بجميع جوانبها وللسياسة التعليمية في البلاد” (1) كما تعني تلك النظرة إلى الإنسان المربى، ما هي مواصفاته؟ ما نوع هذا الفرد الذي نريده؟ وبالتالي ما نوع المجتمع الذي نطمح إلى إيجاده؟ وهذه النظرة الفلسفية تستمد وجودها من الأصول الثقافية  لكل مجتمع، تلك الأصول التي لها نظرة معينة للإنسان والكون والحياة، لكن تلك الثقافات تختلف لدرجة التباين – أحيانا – في نظرتها إلى هذا المثلث، ومن ثم لا يمكن توحيد فلسفة تربوية، ثم تعميمها على شعوب العالم؛ لأن لذلك التنميط آثارا سيئة ونتائج سلبية على الإنسانية، كما هي ملاحظة في الواقع، لأنها لم تحترم حتى أبسط حقوقها وهو حرية اختيارها والتصرف وفق إرادتها، ونتيجة ذلك الفشل الذريع الذي منيت به كل النماذج التربوية المستنبة والمستوردة  خاصة في البلدان ذات الخصوصية الثقافية المخالفة للثقافة التي انطلقت منها تلك النماذج. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: إذا كان هذا المنهج عاما في جميع المجتمعات العالمية الماركسية منها والليبرالية بحيث يكاد يكون قاعدة مطردة ومبدأ لا يتخلف، فلماذا تخلفنا نحن عن الأخذ به؟

ولو تأملنا الفلسلفة المادية والفلسفة الإسلامية ونظرة كل منهما إلى الإنسان وطبيعته فإننا نجد اختلافا شاسعا بين التصورين، فطبيعة الإنسان في نظر الفلسفة المادية عموما، غير واضحة المعالم، فتارة تعتبرها شرا، وتارة أخرى تعتبرها خيرا (2) ذلك؛ لأنها تأثرت بالحضارة المادية التي شيأت الإنسان من جهة؛ ولأنها لا تملك معرفة حقيقية بطبيعة الإنسان من جهة ثانية.

وأما طبيعة الإنسان في التصور الإسلامي فواضحة حقيقتها، إنها مادة وروح كما أخبر بذلك تعالى في محكم كتابه حيث يقول: “الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الاِنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والاَبصار والاَفئِدة قليلا ما تشكرون” [سورة السجدة، الآيات، 5-7].

وتفيد الآية الكريمة أن الكيان الإنساني يجتمع فيه عالمان عالم الروح (وهو النفخة) وعالم المادة (وهو الطين) وتلك النفخة جعلت من الطين إنسانا مؤهلا لخلافة الله في الأرض يعمرها بالسعي والعمل الصالح وبذلك فهو ذو طبيعة مزدوجة مزود باستعدادات للخير والشر قال تعالى: “ونفس وما سَّواها فألهمها فجورها وتقْواها قد اَفلح من زكاها وقد خاب من دسَّاها” [سورة الشمس، الآيات، 5- 10]، كما حدد له موقع الاستخلاف هذا، علاقاته في أبعادها الخمسة: علاقته بالخالق وبأخيه الإنسان وبالكون وبالحياة وبالآخرة، فجعل علاقته بالخالق سبحانه علاقة عبودية، وعلاقته بأخيه علاقة عدل، وعلاقته بالكون علاقة تسخي، لكن بعد فقه سننه والتسلح بالعلم والمعرفة في مجال العلوم الكونية، كما جعل علاقته بالحياة علاقة ابتلاء، وعلاقته بالآخرة علاقة جزاء.

هذه بعض معالم فلسفة الإسلام للإنسان، وهي نفس الفلسفة التي ينبغي أن تتبناها الفلسفة التربوية في مجتمعاتنا الإسلامية، وعلى أساسها تبنى المناهج التربوية التي تترجم هذا التصور من خلال التنشئة على القيم المثلى والأخلاق الفاضلة والمبادئ السامية لتخريج رجال ونساء يقومون بواجب العبودية الذي من أجله خلقوا، واتخاذ الثقافة الإسلامية منطلقا أساسيا لفلسفتنا التربوية لا ينافي الأخذ بمصادر فرعية أخرى من خصائص نمو المتعلمين وقيم المجتمع ونتائج الأبحاث والدراسات النفسية… (3).

2.  أما أهمية اعتماد فلسفة تربوية تنطلق من ثقافة المجتمع فتتجلى فيما يلي:

•    ما دمنا نسأل: ماذا نعلم؟ وكيف نعلم ؟ فستبقى حاجة التربية إلى فلسفة التربية ملحة وضرورية (4)

•    الفلسفة التربوية الصالحة من شأنها أن ترشد المخططين في الحقل التربوي، وتربط جهودهم بالفلسفة العامة لبلادهم.

•    تساعد الفلسفة التربوية القائمين على التعليم على ضبط طبيعة العملية التربوية ووظائفها وأهدافها.

•    الفلسفة التربوية تعين على تكوين الأساس الذي يمكن – في ضوئه – أن تحدد أهداف التعليم العامة والخاصة، وتوضع مناهجه، وتختار طرق ووسائل التدريس، وتحدد السياسة التربوية العامة، وترسم الخطط بجميع مستوياتها، ومن شأن تحديد فلسفة تربوية لنظام تعليمي أن يجعل لهذا النظام شخصيته المتميزة المتمشية مع مبادئ ديننا وقيم أمتنا ومع ثقافتنا ومع متطلبات العصر الذي نعيش فيه (5)
هذه بعض أهم الفوائد من تحديد فلسفة تربوية لنظامنا التربوي تتلاءم وثقافتنا وقيمنا التي من شأنها أن تنتج الشخصية المتوازنة تحافظ على أصالتها وتأخذ بأسباب الحضارة المعاصرة.

3.     وأما التهوين من شأن اعتماد الفلسفة التربوية المشتقة من ثقافتنا، والاستعاضة عنها بفلسفات مادية لها نظرتها القاصرة إلى الإنسان: موضوع التربية، فإن ذلك يفقد كل مجتمع يسلك هذا المسلك شخصيته المميزة، ويغرقه في المشكلات التربوية التي يصعب حلها، ويفاقم الأزمات في شتى أبعادها، وفي جميع مجالات الحياة الثقافية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما هو حال كثير من المجتمعات التي تستثقل كل جهد في بناء شخصيتها باستثمار كل الطاقات الممكنة، وتستسهل استيراد كل جاهز من السلع الاستهلاكية والفلسفات التربوية ولو كان ذلك مما يستنزف إمكانياتها المادية المتواضعة، ويوقعها في العنت والحرج الذي يعتبر نتيجة طبيعية للمسالك الخاطئة.

خلاصات
إن من أهم الخلاصات التي ينبغي أن نخرج بها في نهاية معالجة هذا الموضوع ما يلي:

•    يعتبر اعتماد الأصل الفلسفي المنبثق من ثقافة المجتمع في بناء المناهج التربوية قاعدة مطردة لدى جميع شعوب العالم.

•    اعتماد فلسفتنا التربوية خطوة منهجية نحو إصلاح تعليمنا، وتحقيق غاياته الكبرى.

•    لا سبيل للنهوض بنظمنا التربوية وتجاوز مشكلاتها إلا بإعادة النظر في أسسها ومنطلقاتها الفلسفية.

•    الفلسفة التربوية  هي الموجهة للعملية التربوية  والمتحكمة فيها، ومادامت كذلك فإن  اعتماد الفلسفة المادية المتعارضة مع فلسفتنا وثقافتنا من شأنه أن يحدث اختلالات وتشوهات في المنتوج التربوي، ويعمق مشكلاته ما قد يصعب تجاوزها بسهولة.

•    كلما ارتبطنا بأصولنا الثقافية والفلسفية في وضع مناهجنا التربوية، كلما جنبنا أنفسنا سلبيات الاعتماد على الآخر في كل شيء حتى في تربية فلذات أكبادنا، فهلا استجبنا لداعي الفطرة وواقع الحال؟ وقمنا بنقد موضوعي لمناهجنا التربوية من أجل الوقوف على أسباب الأزمة؟

نأمل أن يسهم كل المهتمين بالميدان التربوي في مزيد من التشخيص لأسبابها وملابساتها بهدف التجاوز والترشيد ومن الله  العون والتسديد.

1.     عمر محمد التومي: فلسفة التربية الإسلامية، ص: 18.

2.     علي أحمد مدكور: منهج التربية في التصور الإسلامي، ص:– 130.

3.    عمر محمد التومي: المرجع السابق، ص: 27.

4.    حسين فوزي النجار: فلسفة التعليم في دولة عصرية، مجلة الفكر المعاصر، العدد 22، ص: 14- 16.

5.    عمر محمد التومي، المرجع السابق، ص: 19-22.

التعليقات

  1. عمر الراوي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    لقد عودنا الأستاذ السيد علي الأصبحي الجديد في مقالاته التربوية المفيدة والهادفة، والتي تزيل الأغطية الساترة لجسم ناشئتنا التربوي الذي أنهكته تجارب عديدة عبر محطات لا تتناسب وخصوصيته العربية الإسلامية وبيئته الخاصة، التي قد لا ترقى بالفرد والمجتمع والأمة إلى مصاف الغاية المنشودة، ولهذا لا يمكن علاج الداء إلا بعد اكتشافه وتشخيصه، فالأمراض التربوية عديدة ومتنوعة، وعلاجها وصيدلية أدويتها في التربية الإسلامية السليمة التي تحفظ الفرد من الذوبان في مناهج مستوردة، قد تحوله إلى حقول تجارب بأدوية فاسدة أو متجاوزة..
    والله المستعان
    عمر الراوي

أرسل تعليق