Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

البيئة في التشريع الإسلامي

      مفهوم البيئة في الإسلام

      يعتبر موضوع البيئة من القضايا المشكلة التي تناولتها المجتمعات المعاصرة بالدراسة والتحليل، فعقدت من أجلها المؤتمرات والندوات، وأسست الجمعيات والمنظمات، وكان هدفها هو التنبيه على المخاطر التي تجتازها بيئتنا المعاصرة.

      والبيئة في الاصطلاح هي المحيط المادي الذي يعيش فيه الإنسان بما يشمل من ماء وهواء وفضاء وتربة وكائنات حية، ومنشآت أقامها لإشباع حاجاته[1]، أو هي بصفة عامة الأحوال الفيزيائية والكيميائية للإقليم الذي يعيش فيه كائن حي، وتعتبر الكرة الأرضية كلها بمثابة البيئة لبني البشر، وتتكون من الهواء والمياه والتربة، وكافة الكائنات الحية الأخرى[2].

      والبيئة في المفهوم الإسلامي تعني جملة الموارد التي خلقها الله لينتفع بها الإنسان من أرض وسماء وهواء، وأنهار وبحار وأشجار، وبالجملة فهي شاملة للنعم الظاهرة والباطنة: “وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً” [لقمان، 19].

      وانطلاقا من هذا المنظور فإن مفهوم البيئة في الإسلام يتجاوز الأبعاد الزمانية والمكانية والإنسانية، فهو شامل لكل الموارد الكونية والتي تنتظم في إطار العلاقة التي حددتها الشريعة الإسلامية لتنظيم أصول التعامل الإنساني مع المكونات البيئية.

      موضوع البيئة في القرآن الكريم

      تحدث القرآن الكريم عن البيئة بمنهج شمولي وتكاملي، اعتبرها جزءا من النظام الكوني الذي يسبح لله، فهي مظهر من مظاهر القدرة الإلهية، وقد صور القرآن معالم النظام البيئي في أبعاده الروحية والمادية، وكشف عن جوانبه الاقتصادية وآثاره الاجتماعية والجمالية.

      ويمكن بيان معالم النظام البيئي في القرآن من خلال ما يلي

      1.  اعتبار مظاهر البيئة من دلائل وجود الله وقدرته على الخلق، فالقرآن يعدد مكونات البيئة من أرض وسماء ورياح وماء وبحار ونبات[3]… ويعتبرها دليلا على وجود الباري “وَالاَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِن مِّن شَيْءٍ اِلاََّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِين” [الحجر، 19-22].

      فالله سبحانه وتعالى يمتن على الإنسان بهذه المكونات البيئية، ويرشده إلى الالتفات إلى خالقها، كما ينبهه إلى التوازن الكوني الموجود فيها، وهو من النعم الكبرى التي تستوجب الشكر، ومن الشكر أن يحافظ الإنسان على هذا التوازن، فلا يتدخل بالفساد والإفساد.

      2.  إشارة القرآن إلى قضية الفساد في الكون، هذا الفساد الذي يؤدي إلى الاختلال الكوني والبيئي: وقد يمتد هذا الفساد ليشمل هلاك الحرث والنسل “وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الاَضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ “ [البقرة، 203] أي يهلك الزرع وما تناسل من الإنسان والحيوان، ومعناه أن فساده عام يشمل الحاضر والباد، فالحرث محل نماء الزروع والثمار، والنسل هو نتاج الحيوانات التي لا قوام للناس إلا بها، فإفسادها تدمير للإنسانية[4].

      وظاهرة الفساد قد تكون بتدخل الإرادة الإنسانية، مما يحدث عدم التوازن داخل الكون، وقد يكون نتيجة لعقوبة إلهية بما كسبت أيدي الناس، وهذا ما يصوره القرآن في قوله تعالى: “فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ “ [الاَعراف، 132].

      ويذكر ابن كثير أن قوله والدم أي صارت مياههم دما، فما يستقون من بئر ولا نهر إلا وجدوه دما[5]، أي أن الماء الذي كان سببا لري الظمأ، وسقي الزرع حسب السنن الكونية قد تعطلت وظيفته وأصبح ملوثا، وذلك بسبب ظلمهم وبغيهم.

      3. تذكير الإنسان بالبعد الجمالي للبيئة بمكوناتها، هذا الجمال الذي يتمتع به الإنسان، ويحقق به الخلافة عن الله، فيتخذ كل الوسائل للحفاظ على هذا الجمال “والاَنعَاَم خَلَقَهَا لَكم فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَـٰفِعُ وَمِنْهَا تَاكلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحمِلُ أَثْقَالَكمُ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّم تَكُونُواْ بَـٰلِغِيهِ إلاّ بِشِقِّ الاَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ” [النحل،5-8].

      وقد بين ابن العربي هذا البعد الكوني للجمال في قوله: “وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة محسوب وهو مرئي بالأبصار موافق للبصائر، ومن جمالها كثرتها”.

      فإذا وردت الإبل على الذرى، سامية الذرى هجمات هجانا، توافر حسنها، وعظم شأنها، وتعلق القلوب بها. وإذا رأيت البقر نعاجا ترد أفواجا أفواجا، تقر[6] بقريرها، معها صلغها[7] وأتابعها فقد انتظم جمالها وانتفاعها.

      وإذا رأيت الغنم فيها السالغ والسخلة[8]، والغريض والسديس، صوفها أهدل، وضرعها منجدل، وظهرها منسجف، إذا صعدت ثنية مرعت، وإذا أسهلت عن ربوة طمرت، تقوم بالكساء، وتقر على الغذاء والعشاء، وتملأ الأجواء سمنا وأقطا، بله البيت حتى يسمع الحديث عنها كيت وكيت، فقد قطعت عنك لعل وليت. وإذا رأيت الخيل نزائع يعابيب، كأنها في البيداء أهاضيب، وفي الهيجاء يعاسيب، رؤوسها عوال، وأثمانها غوال، لينة الشكير[9]، وشديدة الشخير، تصوم وإن رعت، وتفيض إذا سعت، فقد متعت الأحوال وأمتعت. وإذا رأيت البغال كأنها الأفدان[10]، بأكفال كالصوى، وأعناق كأعناق الظبا، ومشي كمشي القطا أو الدبى[11]، فقد بلغت فيها المنى.

      وليس في الحمير زينة، وإن كانت عن الخدمة مصونة، ولكن المنفعة بها مضمونة… وهذا الجمال والتزين، وإن كان من متاع الدنيا، فقد أذن الله فيها لعباده… وقد روى أشهب عن مالك قال: يقول الله تعالى “وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ” ذلك في المواشي تروح إلى المرعى وتسرح عليه[12].

      فهذا النص ينم عن إدراك علماء الإسلام لهذا البعد الجمالي في البيئة، وشعورهم بنعمة الجمال في هذه الموجودات، وفي تركيبها وصورتها وهي تغدو وتروح[13].

      4. التأكيد على دور الإنسان في التفاعل مع القضايا البيئية سلبا وإيجابا، فقد أشار القرآن إلى أثر السلوك الإنساني في احتواء الأخطار البيئية أو في زيادة سرعة التدمير البيئي وتوسيعه.

      فالقرآن يحدثنا عن دور الإنسانية في احتواء الاختلال التوازني الذي يصب البيئة: كشح الموارد وقلتها، من ذلك أن يوسف عليه السلام رسم خطة اقتصادية رشيدة تقوم على أساس تنظيم الاستهلاك وعدم الإسراف في أيام الخصب والمطر مع ادخار ما يستفضل تحسبا لسنوات الجذب والقحط “يوسُفُ أَيُّهَا الصِّدّيقُ أَفتِنا في سَبعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأكُلُهُنَّ سَبعٌ عِجافٌ وَسَبعِ سُنبُلاتٍ خُضرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلّي أَرجِعُ إِلَى النّاسِ لَعَلَّهُم يَعلَمونَ قالَ تَزرَعونَ سَبعَ سِنينَ دَأَبًا فَما حَصَدتُم فَذَروهُ في سُنبُلِهِ إِلّا قَليلًا مِمّا تَأكُلونَ  ثُمَّ يَأتي مِن بَعدِ ذلِكَ سَبعٌ شِدادٌ يَأكُلنَ ما قَدَّمتُم لَهُنَّ إلاَّقَليلًا مِمّا تُحصِنونَ  ثُمَّ يَاتي مِن بَعدِ ذلِكَ عامٌ فيهِ يُغاثُ النّاسُ وَفيهِ يَعصِرونَ” [يوسف، 46-49].

      إن سلوك يوسف عليه السلام يدل على دور الإرادة الإنسانية في تنظيم وإدارة أسلوب الحياة بما ينسجم والموارد الطبيعية الموجودة والمتاحة، حتى لا يقع اختلال في المواد البيئية.

      وقد أشار القرآن الكريم إلى دور الإنسان في تدمير البيئة “وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ” [البقرة، 203]، وهذا يشكل الجانب السلبي للفعل الإنساني. إن القرآن يؤكد على دور الإنسان وعلاقته ببيئته، هذه العلاقة التي تتأسس على التوازن إذا التزم الإنسان بأحكام الله، وقد تنقلب إلى علاقة اختلالية إذا انحرف الإنسان عن سواء السبيل “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ اَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” [الروم، 40].

—————————————————-

  1.  قانون حماية البيئة في ضوء الشريعة، ص: 31.

  2.  البيئة من حولنا، ص: 19.

  3.  نجد في القرآن الكثير من الآيات التي تتحدث عن هذه المكونات البيئية.

  4.  صفوة التفاسير بعد تجريده من البيان محمد علي الصابوني تجريد الشيخ عبد الله إبراهيم الأنصاري، ج : 1، ص: 68، دار الصابوني 15 صفر 1400 هـ / 3 يناير 1980.

  5.  تفسير ابن كثير، ج: 2، ص: 241، دار الفكر 1401 هـ 1981.

  6.  نقر: صوت.

  7.  الصالغ من الشياه كالقارح من الخيل أو دخلت في الخامسة أو في السادسة.

  8.  السالغ: في السادسة، والسخلة ولد الشاه ما كان.

  9.  الشكير: الشعر في عرف الفرس.

  10.  الفدن: القصر المشيد.

  11.  الدبى: أصغر الجراد والنمل.

  12.  أحكام القرآن لابن العربي، تحقيق محمد البجاوي، ج: 3، ص: 1141، دار الفكر، طبعة دون تاريخ..

  13.  تعرض القرآن للجانب الجمالي في البيئة بكل مكوناتها الطبيعية، وربط ذلك بالدلالة على وجود الله، وبوجوب عبادته، وعدد مظاهر هذا الجمال في التناسق والتوازن وغيرها من المظاهر.

أرسل تعليق