Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

العدول في لغة الكتابة عند ابن عربي

      الدّراسات الأسلوبية تركز تركيزا شديدا على الظاهرة اللغوية بهدف “التمييّز بين الطاقة الإخبارية المجردة والطاقة الأسلوبية الخلاقة”[1] وانطلاقا من هنا فإن الإنشاء الشعري لا يمكن أن يحوز صفة الخلق والتميّز إلا من خلال ما تضيفه أدواته اللّغوية من جديد.

       ثم إن الجديد لا يتحقق للمبدع إلا عبر تجربة “مغايرة للمألوف ولغة مطهّرة من صدأ الاستعمال المتكرّر والاستخدام الثابت المشترك وبلا ريب فإن الثبات الذي لازم لغة الشعر العربي طويلا حوّل النّصوص الشّعرية إلى ما يشبه المقابر والأطلال الدارسة”[2].

       نحاول أن نبيّن الجديد الذي أضافه ابن عربي إلى لغة الكتابة، ونحاول أن نضع أيدينا على حقيقة التّحول التي شهدت ميلادها في نصوص ابن عربي وكيف تعامل صاحب الفتوحات مع اللّغة، وكيف وسّع أجواءها وانحرف بها عن الدّلالات العتيقة التي كانت ملازمة لها، وتبيانا لذلك نسوق المفردات الآتية كأمثلة: البستان، الشفق، الغزلان، القمر، الباطل، البرق، الظل، الجمال، الحب، النكاح، النار، السحاب، ظلام الليل.. إن هذه الكلمات إذا وضعناها في سياقات الشعرية المختلفة في نصوصه الشعرية كما وسعها كتاب الفتوحات أو ترجمان الأشواق، وجدناها قد شحنت بدلالات جديدة لم تكن تعرفها من قبل في الخطاب الشعري التقليدي. وإليك هذا الجدول الذي يبين ما استوعبته تلك المفردات من معان غير مسبوقة:

المفردة

المعنى الجديد

القمر

يعبر به عن مشهد برزخي لكون القمر حالة بين الهلال والبدر فهو دلالة على حال، بعد ما كان دلالة على الرفعة والجمال قديما.

الباطل

الباطل في اللغة القديمة نقيض الحق والمقصود به عند ابن عربي العدم.

البرق

يعبر به عن رؤية الحق في الخلق (التجلي في الصور) وهو مشهد ذاتي يذهب بالأبصار ولا يكاد يتحقق، والبرق نفسه حجاب، فنحن لا نرى البرق وإنما نرى سناه فقط كما تأتي البروق بالجمع لتعبر عن الصور في عالم الشهادة لتنوعها وسرعة زوالها وهكذا تحول البرق من الدلالة على ذات إلى الدلالة على الصفة…[3]

الظل

يعبر عن راحة خلف الحجاب، كما يعبر به عن الموجودات التي تمثل ظلال للحق جل وعلا. وقد كان الظل في الموروث اسما لذات وهو ما ينبسط تحت غصون الأشجار ونحو ذلك…

الجمال

يعبر به قديما عن الحسن والتناسق وعن كل ما يصنع الإثارة في النفس فتميل إليه وترتاح له. ولكن ابن عربي انحرف به عن ذلك وشحنه بمعنى آخر ليصبح دالا على نعوت الرحمة والألطاف من الحضرة الإلهية.

المرأة

الجوهر الأنثوي أو الأنوثة السارية في العالم وبيت الرحم الكونية ومحل التواصل مع الخالق والخارق. ولم تتجاوز في اللغة القديمة كونها محلا لإفراغ غلواء الشهوة.

الحب

في اللغة القديمة يعبر عن العواطف والأحاسيس إزاء مختلف الأشياء غير أن ابن عربي شحن هذه الكلمة بما هو أعمق وأبعد من ذلك كله، لتحرز قيمة أخرى ذات أهمية بالغة تشمل جميع الموجودات داخل العالم الذي يعده ابن عربي كتابا مسطورا ونتيجة للحب فالحب هو الأصل الكلي ومبدأ العالم والصور، وبه كان الوجود المحدث[4].

العذاب

يقترن عند ابن عربي بالعذوبة وإن كان مقيّدا في الشرع واللغة القديمة بالألم الذي لم يكن سوى قشرة وصيانة لما ينطوي تحته من نعيم في فهم ابن عربي.

الجنة والنار

عند ابن عربي شكلان لمحتوى واحد، انطلاقا من أن الخلق جميعا ستطالهم الرحمة الإلهية الشاملة سواء منهم فريق الجنة أو فريق السعير وهاهنا نلحظ تدمير المعنى الموروث وتخريب الفهم الشرعي الذي يجعل المفردتين متناقضتين.. وقد يشير بالنار إلى المكاره التي يقتحمها السالك في طريقه إلى الله ويقسمها إلى قسمين: نار باطنة تتبدى في فوائد الإنسان ونار ظاهرة تنجم عن تلك النار الباطنة، والعبد منشأ النارين، ومن هنا تتجلى في وضوح كيف طمس المعنى المألوف السائد بعد أن حل مكانه معنى آخر لم يكن معروفا في السابق[5].

السحاب

يستعمل ابن عربي هذه المفردة للتعبير عن الأحوال التي تنتج المعارف كما يستخدمها في سياقات أخرى ليشير بها إلى موضع الفصل بين الحقائق الليلية الهيكلية (حقائق الجسد) ويبين الحقائق النورية (حقائق الروح)[6].

الظلام الليل

يستخدم ظلام الليل ليعبر به عن حجاب الغيب ومحل الأسرار والستر والكتم وبعدما كان الليل في اللغة المشتركة اسما لذات الليل وهي المسافة الزمنية الممتدة بين الأقول والشروق، أضحى عند ابن عربي صفة دالة على الكتم والسر والغيب[7].

 

      إنه من خلال تلك الأمثلة والشواهد قد تبدى لنا أن ابن عربي قد أحدث قطيعة مع اللغة المشاعة، وشرخا مع الدّلالات العتيقة التي ترمي إليها الألفاظ المستخدمة في فن القول؛ لأنه لم يكن يعش -عقليا ووجدانيا- داخل واقع واضح مبتذل متكرر، ولم تكن تجاربه وخبراته تضارع تجارب غيره وخبراتهم وتأسيسا على ذلك فمن الطبيعي جدا أن تكون له لغة خاصة متسقة مع الغامض الذي كان ينتقل في أجوائه الممتدة معبرا عن أسراره المتشعبة وقيمه الخفية بطريقة تعبيرية متميزة، ولغة متحررة من هيمنة المعطى السابق، متحللة من سطوة المشترك والمكرر… ثم إن الحركية التدميرية لما كانت تعني اللغة التي تقدمته قد فرضتها طبيعة التجربة التي كان يتحرك في فضاءاتها.. وإذا كانت هذه التجربة شاذة ومميّزة فليس بغريب أن تكون لغته شاذة ومميزة، وإنما الغريب حقا أن تأتي لغته امتداد للغة السلفية المنهكة.

      لقد طوّع صاحب الفتوحات اللّغة لمشاهداته التي لا تنحسر، وطمس دلالاتها الموروثة، وطهّرها من الصدأ المتراكم فوقها بسبب التوظيف الثابت والمتحجر، ووسع الهوة بينها وبين ماضيها حتى يتسنى لها الإفصاح عن عمق حيوية التجربة، والتّعبير عن المدهش والغريب وما لم يكشف عنه. وهاهنا يكمن التّحول الحقيقي في لغة الكتابة التي أصبحت -في خطاب ابن عربي- تدخر من المفهوم والمعاني والأبعاد الإيحائية والجمالية والسمات الأسلوبية ما يجعلها تحوز كل مميزات التفرد والسّعة والتّجديد والانحراف عن الجادة التعبيرية التي توارثها الأخلاف عن الأسلاف.

       إنه لا يمكن وصف كتابة ما بالجادة إلاّ “إذا كانت ترتكز على رؤيا جديدة للعالم. ومن الخطأ نعتها بالتفرد الحقيقي إلا إذا كانت تستند إلى لغة متفردة تنحو نحوا غير مسبوق وتأسيسا على ذلك فقد كانت عند الشيخ الأكبر مؤسسة على زخم جديد مفعم بالخصوصيّة والخصوبة إنها تجدد الأشياء من حيث إنها تجدد صورها وعلاقتها، وتجدد اللغة من حيث إنها تنشئ علاقات جديدة بين الكلمة والكلمة، وبين الكلمات والأشياء”[8].

       ولقد تجلى لنا، في وضوح تام من خلال المفردات التي بينت دلالاتها سابقا، أن ابن عربي ابتكر مسارات أخرى للغة كتابته وجعلها تركض في سبل غير السبل التي كانت تركض فيها من قبل، من أجل أن تتيح التواصل مع الخفي ومع الذي لا ينتهي البحث عنه ولا يتم الوصول إلى قراره المخبوء بل سيظل –على الدوام– في حاجة إلى المزيد من البحث والسّعي والمجاهدة والكشف.

—————————————

  1.  محمد الهادي الطرابلسي، في منهجية الدراسة الأسلوبية، (ضمن كتاب قضية البنيوية) لعبد السلام المسدي، دار الجنوب للنشر، تونس، 1995، ص: 175.

  2.  أدونيس، زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ط، 1983، 3، ص: 168

  3.  نصر حامد أبو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 5 ، 1999، ص: 32.

  4.  مصطفى ناصف، اللغة والتفسير والتواصل، (عالم المعرفة)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يناير 1995، عدد 193، ص: 31.

  5.  نصر حامد أبو زيد، إشكالية القراءة والتأويل، ص: 175.

  6.  ابن عربي، الفتوحات المكية، ضبطه وصححه أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1420هـ/1999، ج 7، ص: 292.

  7.  نفس المرجع، ج 5، ص: 409.

  8.  أدو نيس، الصوفية والسريالية، دار الساقي، بيروت، ط. 1، 1992، ص: 186.

المفردة    المعنى الجديد
القمر    يعبر به عن مشهد برزخي لكون القمر حالة بين الهلال والبدر فهو دلالة على حال، بعد ما كان دلالة على الرفعة والجمال قديما.
الباطل    الباطل في اللغة القديمة نقيض الحق والمقصود به عند ابن عربي العدم.
البرق    يعبر به عن رؤية الحق في الخلق (التجلي في الصور) وهو مشهد ذاتي يذهب بالأبصار ولا يكاد يتحقق، والبرق نفسه حجاب، فنحن لا نرى البرق وإنما نرى سناه فقط كما تأتي البروق بالجمع لتعبر عن الصور في عالم الشهادة لتنوعها وسرعة زوالها وهكذا تحول البرق من الدلالة على ذات إلى الدلالة على الصفة…[3] الظل     يعبر عن راحة خلف الحجاب، كما يعبر به عن الموجودات التي تمثل ظلال للحق جل وعلا. وقد كان الظل في الموروث اسما لذات وهو ما ينبسط تحت غصون الأشجار ونحو ذلك…
الجمال     يعبر به قديما عن الحسن والتناسق وعن كل ما يصنع الإثارة في النفس فتميل إليه وترتاح له. ولكن ابن عربي انحرف به عن ذلك وشحنه بمعنى آخر ليصبح دالا على نعوت الرحمة والألطاف من الحضرة الإلهية.
المرأة    الجوهر الأنثوي أو الأنوثة السارية في العالم وبيت الرحم الكونية ومحل التواصل مع الخالق والخارق. ولم تتجاوز في اللغة القديمة كونها محلا لإفراغ غلواء الشهوة.
الحب    في اللغة القديمة يعبر عن العواطف والأحاسيس إزاء مختلف الأشياء غير أن ابن عربي شحن هذه الكلمة بما هو أعمق وأبعد من ذلك كله، لتحرز قيمة أخرى ذات أهمية بالغة تشمل جميع الموجودات داخل العالم الذي يعده ابن عربي كتابا مسطورا ونتيجة للحب فالحب هو الأصل الكلي ومبدأ العالم والصور، وبه كان الوجود المحدث[4].
العذاب     يقترن عند ابن عربي بالعذوبة وإن كان مقيّدا في الشرع واللغة القديمة بالألم الذي لم يكن سوى قشرة وصيانة لما ينطوي تحته من نعيم في فهم ابن عربي.
الجنة والنار    عند ابن عربي شكلان لمحتوى واحد، انطلاقا من أن الخلق جميعا ستطالهم الرحمة الإلهية الشاملة سواء منهم فريق الجنة أو فريق السعير وهاهنا نلحظ تدمير المعنى الموروث وتخريب الفهم الشرعي الذي يجعل المفردتين متناقضتين.. وقد يشير بالنار إلى المكاره التي يقتحمها السالك في طريقه إلى الله ويقسمها إلى قسمين: نار باطنة تتبدى في فوائد الإنسان ونار ظاهرة تنجم عن تلك النار الباطنة، والعبد منشأ النارين، ومن هنا تتجلى في وضوح كيف طمس المعنى المألوف السائد بعد أن حل مكانه معنى آخر لم يكن معروفا في السابق[5].
السحاب    يستعمل ابن عربي هذه المفردة للتعبير عن الأحوال التي تنتج المعارف كما يستخدمها في سياقات أخرى ليشير بها إلى موضع الفصل بين الحقائق الليلية الهيكلية (حقائق الجسد) ويبين الحقائق النورية (حقائق الروح)[6].
الظلام الليل    يستخدم ظلام الليل ليعبر به عن حجاب الغيب ومحل الأسرار والستر والكتم وبعدما كان الليل في اللغة المشتركة اسما لذات الليل وهي المسافة الزمنية الممتدة بين الأقول والشروق، أضحى عند ابن عربي صفة دالة على الكتم والسر والغيب[7].

أرسل تعليق