Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

مدخل لدراسة المذهب المالكي.. (33)

حجية سد الذرائع

اختلف العلماء حول حجية سد الذرائع بين مؤيد له ومعارض، فالمالكية والحنابلة يعتبرانه حجة، بينما ل الشافعية والحنفية أخذا به في حالات وأنكراه في حالات أخرى بينما الظاهرية أنكروه جملة وتفصيلا.

واستدل القائلون بحجية سد الذرائع بمجموعة من الأدلة وهي:

أوّلاً: من القرآن الكريم:

قوله تعالى “وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ” [الاَنعام، 108]. فنهى سبحانه عن سبّ آلهة المشركين، مع كون السَّبّ غيظاً وحمية لله وإهانة للأوثان والأصنام وما يُعْبَد من دون الله تعالى، لأنَّه ذريعة إلى سبّ الله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتَّنبيه؛ بل كالتَّصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سبباً في فعل ما لا يجوز[1].

مدخل لدراسة المذهب المالكي.. (33)

قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ اَلِيمٌ” [البقرة، 104]، وكان النَّهي لأنَّ اليهود اتّخذوا من كلمة “رَاعِنَا” وسيلة لشتم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ونعته بالرُّعونة[2]، فنهى الله تعالى المؤمنين عن استخدامها حتَّى لا يكون ذلك مشابهة لليهود في أقوالهم وخطابهم، مع أنَّها في الأصل مباحة لِمَا تؤدي إليه من المحظور، وذلك سدّاً للذَّريعة[3].

قوله تعالى “وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ” [النُّور، 31]، فمنعهنَّ من الضَّرب بالأرجل ـ وإنْ كان جائزاً في نفسه ـ لئلا يكون سبباً إلى سمع الرِّجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشَّهوة منهم إليهنَّ[4].

قوله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِيَسْتَاذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ اَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ” [النُّور، 56]، أمر الله تعالى مماليك المؤمنين ومَنْ لم يبلغ منهم الحُلُم أنْ يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثَّلاثة لئلا يكون دخولهم هجماً بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطّلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنُّوم واليقظة، ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها -وإنْ أمكن في تركه هذه المفسدة- لندورها وقلّة الإفضاء إليها، فجعلت كالمقدمة[5].

ثانياً: من السُّـنَّة النَّبويّة

أ. أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم امتنع عن قتل المشركين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذلك ذريعة إلى تنفير النَّاس عنه، وقولهم: إنَّ مُحَمَّداً يقتل أصحابه؛ فإنَّ هذا القول يوجب النُّفور عن الإسلام مِمَنْ دخل فيه ومَنْ لم يدخل فيه، ومفسدة التَّنفير أكثر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التَّأليف أعظم من مصلحة القتل[6].

ب. أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن قطع يد السَّارق في الغزو، حتَّى لا يكون ذلك ذريعة إلى إلحاق المحدود بالمشركين، قال صلى الله عليه وسلم: “لا تقطع الأيدي في الغزو[7].

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه “أنْ لا يجلدنَّ أمير جيش ولا سرية ولا رجلٌ من المسلمين حداً وهو غازٍ، حتَّى يقطع الدَّرب قافلاً، لئلا تلحقه حمية الشَّيطان فيلحق بالكفار[8].

وقد نقل ابن قدامة إجماع الصَّحابة على ذلك[9].

ج. أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى الدَّائن أو المقرض عن أخذ الهدية من المدين، لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تأخير الدَّيْن لأجل الهدية فيكون ربا، فإنَّه يعود إليه ماله وأخذ الفضل الذي استفاده بسبب القرض[10].

عن أبي أُمامة رضي الله عنه عن النَّبيّ e قال: “مَنْ شفع لأخيه بشفاعة فأهدى لههدية عليه فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الرِّبا”[11].

د. أنَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الاحتكار، وقال: “مَنْ احتكر فهو خاطئ[12]، فإنَّ الاحتكار ذريعة إلى أنْ يضيَّق على النَّاس أقواتهم، وكما أنَّ الاحتكار حرام لذلك؛ فالاستيراد واجب في الضَّائقات، لأنَّه ذريعة إلى التَّوسعة[13]، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: “الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون”[14].

هـ. نهى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شراء الرَّجل صدقته ولو رآها تُباع في السُّوق[15]، سدّاً لذَّريعة العود فيما خرج عنه لله تعالى -ولو بعِوَض-، وقد يكون ذلك ذريعة إلى التَّحايل على الفقير بأنْ يدفع إليه صدقة ماله ثُمَّ يستردها بطريق الشِّراء بغبن فاحش، وقد يكون ذلك بالشَّرط[16].

و. نهى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن البيع والابتياع في المسجد[17]، لئلا يكون ذريعة للانشغال بتجارة الدُّنيا بدلاً من تجارة الآخرة.

ح. وكذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن نشدان الضَّالة في المسجد، لِمَا في ذلك من المناداة ورفع الصَّوت وإزعاج المصلين عمَّا هم فيه من ذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن، وطلب المغفرة. ولذا جاء في الحديث: “مَنْ سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك، فإنَّ المساجد لم تُبْنَ لهذا[18].

ط. وكذلك ترك النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام، حيث قال لعائشة رضي الله عنها: “ألم تري أنَّ قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟”، قالت: فقلتُ: يا رسول الله أفلا تردّها على قواعد إبراهيم؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا حدثان قومك بالكفر، لفعلتُ”[19].

فأراد النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ترك ما فيه مصلحة ـ وهو نقض الكعبة وردّها إلى أصلها ـ من أجل ما يترتَّب على ذلك من مفسدة راجحة، وهو فتنة النَّاس وارتدادهم إلى الكفر.

يقول النَّوويّ: “على ولي الأمر-بناءً على هذا الحديث- أنْ يفكِّر في مصالح رعيته، وأنْ يجتنب ما يخاف منه تولُّد ضرر عليهم في دين أو دنيا، إلاَّ الأمور الشَّرعيّة كأخذ الزَّكاة[20].

ي. وأخبر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّ “من أكبر الكبائر شتم الرَّجل والديه“، قالوا: وهل يشتم الرَّجل والديه؟ قال: “نعم، يسبّ أبا الرَّجل فيسبّ أباه، ويسبّ أُمّه فيسبّ أُمّه[21].

يتبع في العدد المقبل..

—————————————

1. إعلام الموقعين، 3/118، وإغاثة اللّهفان، 1/497.

2. يقال: رجل أرعن: أي متفرِّق الحُجَج، وليس عقله مجتمعاً. انظر: تفسير القرطبيّ، 2/41.

3. إعلام الموقعين، 3/119.

4. إعلام الموقعين، 3/118، وإغاثة اللّهفان، 1/501.

5. إعلام الموقعين، 3/118 فما بعدها.

6. المرجع السَّابق نفسه، 3/120.

7. أخرجه التّرمذيّ في سننه، باب ما جاء أنْ لا تقطع الأيدي في الغزو، برقم 1450، 3/5.

8. نفس المصدر نفس الصفحة.

9. المغني، 9/299.

10. إعلام الموقعين، 3/122، وأصول الفقه: لأبي زهرة، ص: 289.

11. أخرجه أبو داود في سننه، باب في الهدية لقضاء الحاجة، برقم 3541، 3/292.

12. أخرجه مسلم في صحيحه، برقم 1605، وأبو داود في سننه، باب النَّهي عن الحكرة، برقم 3447، 3/271، والتّرمذيّ في سننه، باب ما جاء في الاحتكار، برقم 1267، 3/567

13. إعلام الموقعين، 3/132، وأصول الفقه: لأبي زهرة، ص 289.

14. أخرجه ابن ماجه في سننه، برقم 2153، والحاكم في مستدركه، 2/11، والجالب: هو الذي يجلب السِّلع ويبيعها بربح يسير.

15. أخرجه البخاريّ في صحيحه، باب هل يشتري صدقته؟، برقم 1392 و1393، 2/627 وما بعدها.

16. إعلام الموقعين، 3/204 فما بعدها، وأصول الفقه: لأبي زهرة، ص: 289.

17. أخرجه التّرمذيّ في سننه “تحفة الأحوذي”، باب النَّهي عن البيع في المسجد، برقم 1321، 2/271.

18. أخرجه مسلم في صحيحه بشرح النَّوويّ، 5/45.

19. أخرجه البخاريّ في صحيحه بشرح العسقلانيّ، 8/170.

20. شرح النَّوويّ لصحيح مسلم، 9/89.

21. أخرجه البخاريّ في صحيحه بشرح العسقلانيّ، 10/388، ومسلم في صحيحه بشرح النَّوويّ، 2/83.

أرسل تعليق