Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

تعليق واحد

عبد الواحد المراكشي

      ارتأيت في هذه الحلقة أن أكتب عن عالم مؤرخ أديب اضطرته ظروف غامضة أن يهجر المغرب في اتجاه المشرق ليؤلف به كتابا من أهم مصادر التاريخ المغربي على الإطلاق، يتعلق الأمر بالمؤرخ عبد الواحد المراكشي صاحب كتاب “المعجب في تلخيص أخبار المغرب”..

      هو محيي الدين عبد الواحد بن علي التميمي المراكشي، ولد بمراكش سنة 581هـ، في بدء حكم أبي يوسف يعقوب المنصور، وغادر مراكش وهو في التاسعة من عمره ليتلقى العلم بحاضرة فاس، حيث حفظ القرآن، وأُذِن له في روايته، ثم عاد إلى مراكش، لكنه لم يقطع صلته بفاس بل بقي يتنقل بين الحاضرتين في طلب العلم..

      ومن طريف أخبار صاحبنا المراكشي أنه كان بفاس سنة 595 هـ وسنه إذ ذاك أربع عشرة سنة، وفيها التقى بعالم الطبيعة الكبير أبي بكر ابن زهر، وكان بينهما حديث ومسامرة، وابن زهر يومئذ في الثمانين أو جاوزها. ومنه نستشف بعض جوانب شخصية هذا المؤرخ الأديب وهمته العالية، ذلك أنه خالط الكبار وهو بعد “صغير” فعاش طفولة فوق العادة…

      عبَر عبد الواحد المراكشي إلى الأندلس وعمرة اثنتان وعشرون سنة، والتقى بجماعة من أهل الفضل والعلم، واتصل بحاكم اشبيلية الأمير أبي إسحاق ابن أبي يوسف المنصور الموحدي، فصفا بينهما الود وتوثقت أواصر المحبة.. ثم رحل إلى قرطبة ولزم حلقة شيخه وأستاذه أبي جعفر الحِمْيَري سنتين يتأدب بأدبه ويروي عنه، ثم عاد إلى مراكش سنة 610هـ، وشهد بيعة السلطان يوسف الثاني في الرابع عشر من شعبان.. ويحكي عن نفسه أنه كانت له مع السلطان الجديد جلسات استمع فيها لحديثه وأدبه.. سيعود المراكشي مرة أخرى إلى الأندلس ليصحب صديقه الأمير أبا إسحاق المذكور، حتى كان هذا الأخير يخاطبه أكثر من مرة: “والله إني لأشتاقك إذا غبت عني أشد الشوق وأصدقه”.

      ثم رحل عبد الواحد المراكشي إلى مصر بشكل مفاجئ في أواخر سنة 614 هـ، وحج في سنة 620هـ. ولقي أثناء تجواله ببلاد المشرق وزيرا من خاصة أمير المؤمنين أبي العباس أحمد الناصر لدين الله العباسي، فأضفى عليه من عطفه، وأصفاه وده، ولطف به، وتوالت عليه نعمه، وأخذ بضبعه من حضيضي الفقر والخمول اعتناؤُه وكرمُه [ص 23، من “المعجب”]، فيسأله ذلك الوزير بحق الود والإحسان الذي جمع بينهما أن يملي له أوراقا “تشتمل على بعض أخبار المغرب، وهيئته، وحدود أقطاره، وشيء من سِيَر ملوكه، وخصوصا ملوك المصامدة بني عبد المؤمن، من لدن ابتداء دولتهم..”، فيملي عبد الواحد كتابه “المعجب” ويكون فراغه من إملائه يوم السبت لسِتٍّ بقيِنَ من جمادى الآخرة سنة 621 هـ، ثم يقرأ عليه قراءة تصحيح بعد يومين من إملائه في “السادس والعشرين من جمادى الآخرة سنة 621هـ”.

      يقول محقق كتاب “المعجب” محمد سعيد العريان في المقدمة (طبعة 1964، القاهرة) عن كتاب “المعجب”: “هذا كتاب أدب وتاريخ، ألفه مؤلفه مدعوا إليه في الربع الأول من القرن السابع الهجري ليكون تعريفا لأهل المشرق بأحوال المغرب، فجاء تعريفا شافيا وافيا بما أراد مؤلفه والمؤلَّف له، وقد مات مؤلفه وانطوى تاريخه منذ قرون، فليس لنا من أسباب العلم به والكشف عن ذاته وصفاته ونسبه وأدبه إلا اللمحات الضئيلة الخافتة التي تلمع من ثنايا كتابه، ومات السيد الكريم الذي أُلِّف من أجله الكتاب، فلسنا نعرف اسمه ولا رسمه ولا صفته ولا صلته بأحداث عصره، إلا ما يتراءى لنا من ذلك في ثنايا الكتاب كذلك، على سبيل الحدس والتخمين لا على وجه القطع واليقين..”. وكتاب “المعجب” “يصف التاريخ السياسي لذلك المغرب الكبير في تلك الحقبة وصفا شافيا وافيا في إيجاز وبلاغة، كما يصف تاريخه الأدبي والعلمي في براعة وفن، ولا يغفل إلى جانب ذلك أن يتحدث عن طبيعة المكان والسكان، ما تراه العين من ذلك، وما هو من إحساس النفس وإلهام العاطفة والشعور..”.

      وهو مرجع أصيل من مراجع التاريخ عن دولة الموحدين لا يمكن أن يستغني عنه باحث في تاريخ تلك الدولة من دول المغرب، وهو إلى ذلك موجز من روايات شتى عن تاريخ المغرب قبل دولة الموحدين قد ضاع كثير من مصادره فصار بذلك أصلا من أصول تاريخ المغرب قبل دولة الموحدين، وهو إلى هذا وذاك كتاب أديب مغربي لم يكن تدوين التاريخ فنه الأصيل، ولكنه طلب إليه-في غربته- أن يصف تاريخ بلاده في كتاب، فزاوج بين الأدب والتاريخ..

      ويكاد محمد سعيد العريان يجزم -من خلال قراءة متأنية لكتاب “المعجب”- أن المراكشي “كتب كثيرا وعالج من الكتابة فنونا شتى قبل أن يعالج إنشاء هذه الفصول التي ضمنها هذا الكتاب”، ويحسبه “كان من كتاب الإنشاء في بلاط بعض أمراء الموحدين قبل أن تقذف به النوى إلى المشرق ليؤلف هذا الكتاب”.. وإذا صح حدس محقق كتاب “المعجب” فإنه يلقي بصيصا من الضوء على التاريخ الغامض لهذا الأديب المجهول، الذي فارق وطنه في ظروف غامضة وهو لم يزل بعد في الثانية والثلاثين من عمره، ثم لم يعد إليه إلا اسما على غلاف كتاب ألفه في غربته النائية..

      ذكر عبد الواحد المراكشي أنه قصد من تأليف كتابه تلخيص أخبار المغرب والأندلس، وهو ما عبر عنه عنوان كتابه “المعجب في تلخيص أخبار المغرب”، وكان من أسباب هذا الاختصار قلة الكتب والمصادر التي اعتمد عليها، وهو ما أكد عليه بقوله: “فالذي منعني عن استيفاء أخبارهم أو أخبار أكثرهم قلة ما صحبني من الكتب، واختلال معظم محفوظاتي”.  ويضيف عبد الواحد في “المعجب” وأنه لم يصحبني من كتب هذا الشأن شيء أعتمد عليه وأجعله مستنداً”. ومع ذلك جاء الكتاب بمعلومات وافية عن تاريخ المغرب قبل الموحدين وإبان دولتهم، مع تفاصيل جغرافية ومعلومات قيمة حول الحركة العلمية والأدبية، وقد أتى الكتاب في مجموعه وثيقة تاريخية لا غنى للباحث في تاريخ الغرب الإسلامي عنها، على الرغم من أن صاحبنا المراكشي يقول أن محفوظاته  “في هذا الوقت على غاية الاختلال والتشتت؛ وجبت ذلك هموم تزدحم على الخاطر وغموم تستغرق الفكر”…

      تناول المراكشي في بداية كتابه أخبار جزيرة الأندلس بعد تعيين حدودها، وأشار إلى ملابسات افتتاحها على يد طارق بن زياد سنة 92هـ، وذكر أسماء من ولِيَ الجزيرة ومن دخلها من التابعين أيام بني أمية قبل ذهاب دولتهم، بإيجاز غير مخل..

      ثم تحدث عن كيفية دخول عبد الرحمان بن معاوية إلى الأندلس (عبد الرحمان الداخل) سنة 138هـ، فقامت معه اليمانية لمحاربة يوسف الفهري فانتصروا عليه ودخلوا قرطبة مركز الخلافة، ودامت ولايته إلى وفاته سنة 172هـ، وذكر بإيجاز أخبار من ولي من أعقابه إلى أن استبد بالحكم الحاجب المنصور بن أبي عامر، وما وقع من الفتن والصراع على الحكم بعد مقتل ابنه الناصر إلى نهاية حكم الأمويين لها..

      وقد ركز المراكشي على أحوال قرطبة بعد انتهاء حكم الأمويين بها، فقد استولى بنو جهور على حكمها، ثم غلب عليها فيما بعد الأمير المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة، وخلف فيها بعده ابن عكاشة وهو من البربر فكان بها إلى أن أخرجه محمد بن عباد، فصارت تبعا لاشبيلية، وقد ذكر المراكشي أن بنو عباد كانوا طامعين في التغلب على قرطبة منذ حكم الحموديين لها، وفعلوا كل ما باستطاعتهم لتحقيق ذلك.

      ثم تحدث المراكشي عن أحوال باقي الأندلس فذكر أن أهلها تفرقوا، وتغلب في كل جهة منها متغلب وتقاسموا ألقاب الخلافة، وعدَّد ملوك الطوائف بها، فبنو هود بطرطوشة وسرقسطة، وأبو الحسن بن ذي النون بطليطلة، وبنو جهور بقرطبة، وباشبيلية ومالقة، وغرناطة بنو عباد.  وقد استبد كل واحد بتدبير ما تغلب عليه من الجهات، ولم يزالوا على ذلك إلى أن ضعفوا، فحسم الخلافَ أمير المسلمين يوسف بن تاشفين المرابطي الذي أنهى حكم ملوك الطوائف بالأندلس..

      وفصل المراكشي في أول أمر المرابطين بالأندلس، وكيف أنهم قدموا إليها بعد استنجاد المعتمد بن عباد بهم على القشتاليين، وقد عبر يوسف بن تاشفين البحر من سبتة فنزل الجزيرة الخضراء، وقد أكرمه المعتمد، وأظهر من بره فوق ما كان يظنه أمير المسلمين، وقدم له من الهدايا والتحف والذخائر ما لم يظنه يوسف عند ملك…

      وبعد حديث عبد الواحد المراكشي عن وقعة الزلاقة الشهيرة، التي غيرت مسار التاريخي السياسي والحضاري للمغرب والأندلس، عاد مرة أخرى للتفصيل في أسباب الخلاف بين يوسف بن تاشفين والمعتمد بن عباد، وذكر ملابسات ما قام به المعتصم بن صُمادح أمير ألميرية من غل قلب يوسف على ابن عباد، وقد كان قديم الحسد للمعتمد، وقد نقل إليه قول هذا الأخير عن أمير المسلمين ابن تاشفين: “إن هذا الرجل قد طالت إقامته بالجزيرة” …

      وإذا كان كتاب “المعجب” قد أدى دورا تاريخيا مهما في التعريف بأحوال المغرب السياسية والفكرية خلال عصري المرابطين والموحدين، وأحوال الأندلس وملوكها؛ فإن ميوله الشخصية ونظرته للأمور وثقافته الأدبية جعلت بعض أخباره يطغى عليها الجانب الذاتي أكثر من الرغبة في تقديم الأحداث بشكل موضوعي.. من ذلك تحامله على يوسف بن تاشفين وثناؤه الشديد على الملك الشاعر المعتمد بن عباد، واعتباره أكبر حسنة في تاريخ الأندلس، يقول في ذلك: “فلا أعلم خصلة تحمد في رجل إلا وقد وهبه الله منها أوفر قسم وضرب له فيها بأوفى سهم وإذا عدت حسنات الأندلس من لدن فتحها إلى هذا الوقت فالمعتمد هذا أحدها بل أكبرها”… وقال عنه أيضا “فكانت مدة ولايته إلى أن خلع وأسر عشرين سنة كانت له في أضعافها مآثر أعيا على غيره جمعها في مائة سنة”. وقد استطرد في ذكر أخباره وشعراءه، وفصل في الحديث عنه حتى كاد يخرج عن المنهج التي التزم به في كتابة “المعجب” وهو التلخيص والإيجاز.. قال المراكشي: “وإنما أوردنا هذه النبذة اليسيرة من أخبار المعتمد على الله مع ما تعلق بها وإن كانت مخرجة عن الغرض لندل بها على ما قدمنا من ذكر فضله وغزارة أدبه وإيثاره لذلك”…

      وجاء حديث المراكشي عن ابن تاشفين قاسيا ومتحاملا، بل وصل إلى حد اتهامه في نيته.. يقول المراكشي: “فنزل المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء، وتلقاه المعتمد في وجوه أهل دولته وأظهر من بره وإكرامه فوق ما كان يظنه أمير المسلمين وقدم إليه من الهدايا والتحف والذخائر الملوكية ما لم يظنه يوسف عند ملك فكان هذا أول ما أوقع في نفس يوسف التشوف إلى مملكة جزيرة الأندلس”. ويضيف المراكشي في “المعجب”: “ورجع أمير المسلمين إلى مراكش وفي نفسه من أمر الجزيرة المُقيم المُقعِد فبلغني أنه قال: لبعض ثقاته من وجوه أصحابه كنت أظن أني قد ملكت شيئاً فلما رأيت تلك البلاد صغرت في عيني مملكتي فكيف الحيلة في تحصيلها”.. ويؤكد المراكشي بنَفَس سياسي أنه  بعد سنة خمسمائة للهجرة أهمل يوسف ابن تاشفين أمور الرعية، مما أدى إلى “استفحال المناكر في بلاد المرابطين، وانتشار الخمور، وتدخل النساء في الحكم”..

      نفس المنحى الذاتي المفرط نلمسه من خلال حديث المراكشي في “المعجب” عن المهدي ابن تومرت، وتصويره إياه كشخص خارق للعادة لا يقهر ولا ترد حجته، لدرجة أن كل الفقهاء المالكية الذين كانوا في بلاط علي بن يوسف بن تاشفين لم يشقوا لعلمه غبارا.. قال عبد الواحد المراكشي عن ابن تومرت: “فلما دخلها أحضر بين يديه وجمع له الفقهاء للمناظرة فلم يكن فيهم من يعرف ما يقول، حاشا رجل من أهل الأندلس اسمه مالك بن وهيب”…

      وتطرق صاحبنا المراكشي إلى الحرب الأولى بين المرابطين والموحدين سنة 517هـ وانهزام المصامدة فيها، ونجاة عبد المؤمن مع نفر من أصحابه، ثم ما لبث أن توفي ابن تومرت، وكان قد استدعى الجماعة ومجلس الخمسين، وأوصى ببيعة عبد المؤمن بعده، وقد ذكر عبد الواحد المراكشي نسبه ومولده ووزراءه وكتابه وقضاته. وتطرق إلى تغلبه على تاشفين بن علي، وعلى بجاية وقلعة بني حماد بالجزائر، وامتداد دولته إلى افريقية وطرابلس الغرب وعبوره إلى الأندلس وقد اختلت أحوالها، واستولى النصارى على كثير من ثغورها، وقد توفي سنة 558هـ، وعهد إلى ابنه الأكبر محمد، لكنه لأمور لا تصلح معها الخلافة سعى إلى خلعه أخواه يوسف وعمر. وقد بويع يوسف أبو يعقوب، واتفقوا عليه جميعا، وقد وصفه المراكشي وعدد خصاله والعلوم التي اهتم بها، وذكر صحبته لأبي بكر بن طفيل وهو من العلماء والفلاسفة الكبار (أنظر مقالنا عن ابن طفيل في العدد 40 من جريدة ميثاق الرابطة).

      يطرح محمد سعيد العريان محقق كتاب “المعجب” سؤالا لم يجب عنه أحد كما يقول، وهو ماذا كان في حياة المراكشي وبين أهله، وأين كان موضعه من الحياة العامة في بلاده؟ ونحن نعرف أن عبد الواحد لم يخلف من ذكراه غير كتابه “المعجب”، ومع ذلك سعى الأستاذ المحقق إلى محاولة قراءة “ما بين سطور” “المعجب” لاستخلاص ما يمكن استخلاصه من جوانب حياة هذا العالم الغامضة.. يقول محمد سعيد العريان: “إن عبد الواحد لم يكن نكرة في قومه، ولم يكن نكرة عند نفسه، وإن كان في هذا الكتاب الذي خلفه عبد الواحد تاريخا لبلاده، وتاريخا لنفسه، أمارات صريحة الدلالة على أرومته ومكانته من قومه وموضعه من الحياة العامة في بلاده.. إن فتى من مراكش، يتاح له في الرابعة عشرة من عمره أن يرحل إلى فاس ليتخذ مجلسا في حضرة الطبيب أبي بكر بن زهر يتحدث إليه ويسمع منه وينتسب له ويذكر أباه وأهله… ويتاح له وهو في الثانية والعشرين أن يكسب صداقة أمير اشبيلية، ويتاح له وهو شاب لم يبلغ الثلاثين أن يخلو إلى السلطان أبي يعقوب الثاني يتحدث إليه ويسمع منه، وهو من هو صرامة وعنفوانا وقوة.. إن فتى يتاح له كل ذلك مما ذكر في كتابه، ونحو ذلك مما لم يذكر، لا يمكن أن يكون من سواد الناس..

      ثم يتتبع الأستاذ محقق كتاب “المعجب” بعد المعطيات السياسية الواردة في الكتاب علّها تسلط بعض الضوء على مغادرة عبد الواحد المراكشي النهائية للمغرب بشكل مفاجئ، ولم يعد إليه إلا اسما فوق كتاب كما يقول المحقق.. من ذلك ما قاله المراكشي في “المعجب” عند حديثه عن الأمير أبي إسحاق إبراهيم من أولاد الملك يعقوب المنصور: “وهو خير ولده وأجدرهم بالأمر لو كانت الأمور جارية على إيثار الحق واطِّراح الهوى” [ص:387 من كتاب “المعجب”].. وعبارة أخرى هي قوله عند الحديث عن الأمير يحيى من أولاد الملك يوسف بن عبد المؤمن: “كان يحيى هذا، رحمه الله، لي صديقا، ومن جهته تلقيت أكثر أخبارهم، لم أرى في الملوك ولا في السوقة مثله، رحمة الله عليه؟ يسأل الأستاذ العريان ما دلالة هذه العبارات جميعا؟

      أليست أولاها دليلا على أن عبد الواحد كان -وهو لم يزل في السادسة عشرة- أهلا لأن يتلقى كل أنباء الفتوح أو بعضها من جهة كتاب الموحدين المتولين لها؟ ومن يكون عبد الواحد حتى يتحدث إليه الوزراء في بيوتهم عما وصل إليهم من صلات الملوك، وحتى يصطفيه أبناء السلاطين ويتولوه بالإحسان والمبرة، ويفضوا إليه بأسرار الدولة ويكتبوا إليه الرقاع إذا غاب؟… تم نرى عبد الواحد يودع صديقه أمير إشبيلية وداعا لا لقاء بعده، ليتجه إلى المشرق متنقلا بين بلاده في هم وغم واضطراب وقلق وفقر وحاجة..

      يقول محمد سعيد العريان: “فمن ذا يزعم بعد ذلك أن عبد الواحد قد مضى في هذه الرحلة مختارا ليخلف ما كان من الجاه والنعيم إلى الفقر والقلق واضطراب العيش؟ لم يهجر عبد الواحد بلاده إذن مختارا، وإنما هجرها مكرها لسبب من تلك الأسباب السياسية الكثيرة التي يبعد لمثلها الزعماء وأهل الرأي عن بلادهم في أيام الجور والطغيان..

      في ذلك المنفى الذي ألجأ إليه صاحبنا مكرها، ألف كتابه “المعجب في تلخيص أخبار المغرب” استجابة لطلب الوزير العباسي، واستجابة في الوقت نفسه لتلك العاطفة التي كانت تدفئ صدره شوقا إلى بلاده المغرب.. ثم تنتهي أخبار عبد الواحد، فلا يعود إلى المغرب، ولا يذكره أحد في المغرب، ويموت فلا يذكره ذاكر في مراكش، ولا في فاس، ولا في إشبيلية، ولا في قرطبة؛ وكان له أهل ودار في مراكش، ومسعى إلى قصر سلطان الموحدين في فاس، وأشواق مشبوبة بينه وبين عم السلطان في اشبيلية، وذكر على ألسنة الكثير من أهل العلم والأدب في قرطبة…

      توفي عبد الواحد المراكشي سنة 647هـ بالمشرق، رحمه الله وجازاه عن المغرب خيرا..

      والله الموفق للخير والمعين عليه

التعليقات

  1. ayoub

    أعجبني هذا الموضوع كثيرا وشكرا

أرسل تعليق