Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

تعليق واحد

الدعاء وطلب الفعل الإلهي

      “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تواخذنا إن نسينا أو اَخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين” [سورة البقرة، الآية: 286].

      لئن انطوت هذه الآية 286 من سورة البقرة على صنف من الدعوات يطلب المؤمنون من خلالها أن يترك الله تعالى عنهم العقوبة والإصر وما لا يمكن لهم تحمله؛ فإنها تضمنت أيضا صنفا آخر من الدعوات يطلب المؤمنون من خلالها عفوه ومغفرته ورحمته[1].. ويبدو أن الصنف المعرف بالنداء: “ربنا” أصل يتفرع عنه الصنف الثاني الوارد في قوله تعالى: “واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين” [سورة البقرة، جزء من الآية 286]. بيان ذلك أن العفو، ممثلا في إسقاط العقوبة، أصل لعدم المؤاخذة. والمغفرة مجسدة في الستر عن الفضيحة أصل لرفع المشقة. والرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية. وإن الدعوات الثلاث الأخيرة عللت بقوله تعالى: “أنت مولانا”. أي أن الله تعالى لما كان مولى للمؤمنين، كان رفيقا بهم. ومن صور رفقه بهم أن ينصرهم ويعينهم، كما في قوله تعالى: “وكان حقا علينا نصر المومنين” [سورة الروم، جزء من الآية 47]. قال الإمام بن عاشور رحمه الله: “في التفريع بالفاء إيذان بتأكيد طلب إجابة الدعاء بالنصر؛ لأنهم جعلوه مرتبا على وصف محقق”[2].

      يواجه المؤمن معارك الحياة المختلفة في صورها والمتفاوتة في درجاتها، انطلاقا من موقعه. لا أعني فقط موقعه الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو العلمي، وإنما أعني في المقام الأول بموقعه هنا موقعه الإيماني والإسلامي كخليفة لله في الأرض كرمه الله تعالى فسخر ما في السماوات وما في الأرض لكي يكون جندا من جنود الله في الانتصار على الكفر وعلى أهله. قال تعالى: “وإن جندنا لهم الغالبون” [سورة الصافات، الآية: 173]. ولهذا ترى المؤمن في استعداد دائب وفي أهبة مستمرة لمواجهة معارك الحياة الدنيا، عدته في ذلك أمران لا يستغني أحدهما عن الآخر: أولهما اجتهاد يبدع من خلاله في ابتكار الأدوات والآليات المادية التي يواجه بها معارك الحياة المختلفة. والثاني تضرع إلى الله تعالى وتذلل بين يديه في استمداد العون والنصر؛ فإن كانت نتيجة المعركة نصرة كان ذلك توفيقا وفضلا يفرح به المؤمنون لقوله تعالى: “قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون” [سورة يونس، الآية 58]. وإن كانت النتيجة هزيمة استأنف المؤمن مرة أخرى بناء اجتهاده وتضرعه وتذلـله وذلك بالمراجعة النقدية والمحاسبة الذاتية التي أرشدنا إليهما قوله تعالى: “اَو لما أصابتكم مصيبة قد اَصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم” [سورة اَل عمران، جزء من الآية 165].

      والحاصل من هذا الدعاء القرآني انطواؤه على صنفي من المطلوبات: صنف طلب ترك الفعل الإلهي، ويتمثل في أن يرفع الله عن المؤمنين ثلاثة أمور: أولها المؤاخذة على النسيان أو الخطإ، والثاني الإصر، والثالث تحمل ما لا تطيقه الطاقة البشرية. وهذا هو مضمون قوله تعالى: “ربنا لا تواخذنا إن نسينا أو اَخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به”. والصنف الثاني هو طلب الفعل، ويتجسد في أربعة أمور: أولها العفو، والثاني المغفرة، والثالث الرحمة، والرابع النصر. وهو مضمون قوله تعالى: “واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين” [سورة البقرة، جزء من الآية 286].

———————————

  1.  وكأن الصنف الأول من الدعوات الثلاث طلب للترك، والصنف الثاني من الدعوات طلب للفعل. وقد علل الرازي وجود النداء في الصنف الأول فقال: “النداء إنما يحتاج إليه عند البعد، أما عند القرب فلا، وإنما حذف النداء إشعارا بان العبد إذا واظب على التضرع نال القرب من الله تعالى، وهذا سر عظيم يطلع منه على أسرار أخر”. يراجع في هذه النقطة الرازي، مفاتيح الغيب، ج 7، ص: 146.

  2.  ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج 3، ص: 142.

التعليقات

  1. البرهمي مصطفى

    شكرا للدكتور إسماعيل الحسني على هذا الموضوع الرائع
    ونسأل الله أن يديم عليك الصحة والعافية
    ويرزقك الفردوس إن شاء الله ونحن في انتظارك

أرسل تعليق