Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

أهمية السيرة النبوية وجهود العلماء في حفظها

      تعريف “السيرة”

      قال ابن فارس: “السين والياء والراء أصل يدل على مضي وجريان، يقال: سار سيرا، وذلك يكون ليلا ونهارا، والسيرة: الطريقة في الشيء والسنة؛ لأنها تسير وتجري، يقال: سارت، وسيَّرتُها أنا، قال:

           فلا تجزعن من سنة أنت سيرتها      فأول راض سنة من يسيرُهـــــا

      والسير: الجلد، معروف، وهو من هذا سمي بذلك لامتداده؛ كـأنه يجري..”[1].

      وقال الراغب: “سار: السير: المضي في الأرض، ورجل سائر وسيار، والسيارة: الجماعة…، والسيرة: الحالة التي يكون عليها الإنسان وغيره، غريزيا كان أو مكتسبا، يقال: فلان له سيرة حسنة، وسيرة قبيحة، وقوله: “سنعيدها سيرتها الاولى” [طه، 21]، أي الحالة التي كانت عليها من كونها عودا”[2].

      فالسيرة في اللغة تعني الطريقة والمنهج والسنة والحالة والهيئة.

      وإذا أطلقت “السيرة” في المجال الشرعي فإنها تحيل على السيرة النبوية الشريفة، التي تتحدث عن رسالة الإسلام وما يرتبط بها من نشأة النبي صلى الله عليه وسلم ومولده وذكر آبائه، وأجداده، وأعمامه، ومرضعاته، وأزواجه، وأبنائه وبناته..، وحياته بمكة وبعثته، وهجرته إلى المدينة، وذكر أصحابه الذين أبلوا معه في إقامة الدين، وما رافق ذلك من أحداث، ومغازي، وحروب، وسرايا، وفتوح، واتفاقات ومعاهدات، ووفود..، وانتهاء بوفاته صلى الله عليه وسلم.

      ويدخل كذلك ضمن موضوعاتها أعلام نبوته، ودلائلها، ومعجزاته، وخصائصه وأخلاقه، وشمائله.. كما تطرقت بعض الكتب المصنفة في السيرة إلى الحديث عن بيان حال الأمم قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، وحال قومه من العرب من جاهلية جهلاء، ومكانة قبيلته قريش بين العرب، ومكانة بني هاشم وجده عبد المطلب في مكة..[3].

      فالسيرة إذن بهذا المعنى الشامل تغطي كل حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل المولد وبعده، وبعد النشأة، وقبل البعثة وبعدها، وقبل الهجرة وبعدها، وتتناول الحياة الشخصية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والدينية له عليه الصلاة والسلام. وتتضمن أقواله وأفعاله وأحواله وتصرفاته..

      أهمية السيرة النبوية

      قال الحق سبحانه وتعالى: “لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة” [الاَحزاب، 21]، فسيرته صلى الله عليه وسلم مصدر الأسوة الحسنة التي يلزمنا الإقتداء بها، ومنبع الشريعة العظيمة التي أمرنا بإتباعها، فأهميتها مستمدة من أهمية الدين الإسلامي كله؛ إذ ما من شعبة من شعب الدين إلا والرسول صلى الله عليه وسلم مثلها أحسن تمثيل في سيرته العطرة، ومن ثم  اعتبرت -بمعناها الشامل- تطبيقا عمليا للإسلام في أكمل صوره، ومن ثم كان للسيرة أهمية عظمى.

      ويمكننا أن نركز في هذا السياق على:

      الأهمية التشريعية للسيرة النبوية.. وتتجلى في كونها المصدر الثاني في التشريع “لأن معظم سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عبارة عن أحاديث من أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته..، وتشتمل على أحكام تشريعية كثيرة نبعت من تلك الأحداث والوقائع. فهذه هي السنة وهي الأصل الثاني في التشريع الإسلامي الذي يجب الاهتمام به والحفاظ عليه”[4]، والمتتبع لكتب السنة يجد كثيرا من الأحكام الفقهية المستمدة والمستنبطة من السيرة النبوية؛

      الأهمية التفسيرية.. فعليها يعتمد في تفسير كثير من الآيات القرآنية، فالسيرة من أول مهماتها تسجيل الوقائع زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكثيرا ما كان القرآن ينزل تعقيبا على تلك الوقائع، ومن هنا كانت السيرة وثيقة الصلة بالقرآن، وهي كثيرا ما بينت لنا أسباب النزول[5]؛

      الأهمية التربوية والأخلاقية والسلوكية.. فمنها تستمد أصول التربية الصحيحة كما طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته للجيل الأول من المسلمين والذي استحق بجدارة اسم “جيل القدوة” بحرصه الشديد على تمثل الأخلاق النبوية، والتطبيق العملي ليس فقط لما يندرج تحت الفرائض بل وكذلك للمندوبات والنوافل، فكل موقف يندرج تحته معنى تربوي سامي يستحق التمثل والتأسي[6]..

      وقد تحدث الدكتور البوطي عن أهمية السيرة بشيء من التفصيل فقال: “ليس الغرض من دراسة السيرة النبوية وفقهها مجرد الوقوف على الوقائع التاريخية ولا سرد ما طرًف أو جمًل من الأحداث، ولذا فلا ينبغي أن نعتبر دراسة فقه السيرة النبوية من جملة الدراسات التاريخية شأنها كشأن الاطلاع على سيرة خليفة من الخلفاء أو عهد من العهود التاريخية الغابرة، وإنما الغرض منها أن يتصور المسلم الحقيقة الإسلامية في مجموعها متجسدة في حياته صلى الله عليه وسلم بعد أن فهمها مبادئ قواعد وأحكاما مجردة في الذهن، أي إن دراسة السيرة النبوية ليست سوى عمل تطبيقي يراد منه تجسيد الحقيقة الإسلامية كاملة في مثلها الأعلى محمد صلى الله عليه وسلم”[7]، وجزء الغرض المتقدم إلى أجزاء حصرها في الأهداف التفصيلية التالية[8]:

      1. فهم شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم النبوية من خلال حياته وظروفه التي عاش فيها للتأكد من أن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يكن مجرد عبقري سمت به عبقريته بين قومه، ولكنه قبل ذلك رسول أيده الله بوحي من عنده وتوفيق من لدنه؛

      2. أن يجد الإنسان بين يديه صورة للمثل الأعلى في كل شأن من شؤون حياته الفاضلة؛

      3. أن يجد الإنسان في دراسة سيرته عليه الصلاة والسلام ما يعينه على فهم كتاب الله تعالى وتذوق روحه ومقاصده؛

      4. أن تتجمع لدى المسلم من خلال دراسته سيرته صلى الله عليه وسلم أكبر قدر من الثقافة والمعارف الإسلامية، الصحيحة سواء منها ما يتعلق بالعقيدة أو الأحكام أو الأخلاق؛ إذ لا ريب أن حياته عليه الصلاة والسلام صورة مجسدة نيرة لمجموع مبادئ الإسلام وأحكامه؛

      5. أن يكون لدى المعلم والداعية الإسلامي نموذج حي عن طرائق التربية والتعليم.

      فأهمية السيرة إذن تكمن في مجموع ما تقدم، لذلك فهي حرية بأن تتجه همم السلف والخلف إلى العناية بها، وتخصيصها بمزيد الاهتمام حفظا لمنبع الأسوة ومصدر الإقتداء، فما هي جهودهم في هذا المجال؟

      جهود العلماء في حفظ السيرة النبوية

      يمكن تقسيم هذه الجهود إلى قسمين أساسيين، هامين ومتلازمين:

      القسم الأول: الجمع والتوثيق والتصحيح لمرويات السيرة النبوية: وهو جهد قام به أئمة الحديث؛ فحينما بدأ المسلمون جمع الحديث، كانت سيرته صلى الله عليه وسلم تنقل كما ينقل الحديث الشريف؛ لأنها مصدر أحكام كما تقدم بيانه. وقد أكد هذا المعنى الدكتور الخرشافي حيث يرى أنه حينما “أملت مصلحة صيانة السنة وتأمين نقلها تدوينها كما دون القرآن، انبرى أعلام المحدثين لتدوين مرويات السنة، فكان جمع أخبار السيرة بكل قضاياها واهتماماتها مندرجا تحت التدوين الشامل للسنة النبوية..، وكان من امتداد هذا العمل أن أصبحت “السيرة النبوية” وليدا للمدرسة الحديثية”[9].

      وهذا الترابط جعل السيرة تستفيد من منهج النقد الحديثي، وقواعده في ضبط الروايات سندا ومتنا، وتحرير الوقائع والأحداث، والتثبت في قبول الأخبار، وتمييز الصحيح من السقيم.

      خصوصا وأن مجال السيرة النبوية من المجالات التي استهدفتها حركة الوضع والكذب؛ فتسربت إليها الروايات الموضوعة والمختلقة، والأخبار المتهافتة والمتهالكة في سندها أو متنها، أو فيهما معا، عدا عن الإسرائيليات والتأويلات الفاسدة، والمجازفات الخطيرة التي لا تليق بمقام النبوة..

      فالوعي بأهمية السيرة وضرورة حمايتها من التحريف والتغيير، والعمل على سلامة نقلها، هو الذي دفع النقاد إلى نقل أحداثها ووقائعها محفوظة ضمن مقياس علمي يضبط الرواية من حيث الإسناد واتصاله، ومن حيث الرجال وتراجمهم، ومن حيث المتن أو الحادثة وما قد يطوف بها من شذوذ أو علة[10].

      وتحت ضمان هذا المنهج الدقيق في التمحيص والتدقيق والتحقيق شكلت كتب السنة مصدرا موثقا مهما من مصادر تعرف السيرة الصحيحة؛ قال محيي الدين مستو: “تمتاز المادة التاريخية عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب الستة وغيرها من المسانيد والمعاجم والسنن من حيث التوثيق والوضوح بما يلي: التوثيق المبني على منهج علمي دقيق وصارم في البخاري ومسلم..، وقاربت كتب السنة الأربعة الصحيحين ولكنها لا تخلو من الضعيف، وكذلك بقية كتب السنة كلها تخضع لتطبيق قواعد الجرح والتعديل على الأسانيد، والخلو من الشذوذ والعلة القادحة في المتون..”[11].

      القسم الثاني: الاستنباط والتوظيف: أي تفقه مرويات السيرة، واستثمارها في بناء الأحكام، والبحث في كيفيات تنزيلها في واقع الناس وفق ما تقتضيه حاجاتهم وظروفهم.

      وهو جانب مهم، بل هو الغاية والثمرة من دراسة السيرة، باعتبارها تمثل الجانب التطبيقي العملي للإسلام بمبادئه وأخلاقه وروحه ومقاصده.

      وقد شكلت السيرة العطرة منذ زمن الصحابة رضوان الله عليهم وإلى الآن معينا لا ينضب، يستمد منه كل جيل ما يحتاج إليه عقيدة، وعملا، وسلوكا، فحفظت بذلك سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تدوينا وتوثيقا وعلما وفهما وفقها وعملا.

      وما تزخر به مكتباتنا اليوم من المصنفات المتنوعة في السيرة وفقهها ومقاصدها دليل صادق على استمرار العناية بهذا الأصل الديني والأخلاقي العظيم، ومؤشر مهم على عمق المحبة لشخصه صلى الله عليه وسلم في قلوب أتباعه من المؤمنين الصادقين.

———————————————

  1.  معجم مقاييس اللغة، مادة (سير).

  2.  مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق صفوان عدنان ص: 433.

  3.  ينظر مناهج التأليف في السيرة النبوية لمحي الدين ديب مستو، ص: 98 وما بعدها.

  4.  انظر مقدمة “المغازي لموسى بن عقبة” لأستاذنا محمد باقشيش أبو مالك، ص: 9.

  5.  منها مثلا أسباب نزول “يسألونك عن الأنفال..” فقد بين الصحابي الجليل عبادة بن الصامت سببها وهو ما وقع بين المسلمين من الخلاف في قسمة الغنائم انظر تفصيل ذلك في تفسير ابن كثير للآية.

  6.  وقد عرف عن سيدنا عبد الله بن عمر شدة تأسيه بالنبي صلى الله عليه وسلم.

  7.  فقه السيرة، ص: 17.

  8.  نفسه، ص: 17-18.

  9.  انظر التقويم الحديثي لمرويات السيرة، ص: 216 ، مجلة السنة النبوية، عدد 5، سنة 2006.

  10.  فقه السيرة للبوطي، ص: 24 بتصرف.

  11.  مناهج دراسة السيرة، ص: 82.

أرسل تعليق