Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

هوادي التعرّف (21)

      التصوف على “طريقة الجنيد السالك” حَسب ما سُطِّر في منظومة فقيه القرويين ابن عاشر، ووِفق ما تَوارث في الأمة، يتقعّد على ثمانية شروط ومبادئ:

      المبدأ الثاني في طريق التصوف: التقوى (3): قال الناظم رحمه الله:

          وَحَاصِلُ التَّقْوَى اجْتِنَابُ وَامْتِثَالْ *** فِي ظَاهِـــرٍ وَبَاطِـــنٍ بِذَا تُـنَالْ

          فَجـــاءتِ الأَقْسَامُ حَـقّاً أَرْبَعَـــهْ *** وَهْيَ للسَّالِكِ سُبُلُ المَنْـفَعَه

      وأشار بقوله: “وهي للسالك سبل المنفعة” إلى أن التقوى بالمعنى المتقدم هي الطريق التي توصل السالك إلى ربه وتبلغه إلى حضرة قربه، فيربح في تجارته ويسعد في دنياه وآخرته، فالتحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، في الظاهر والباطن، هما حقيقة السلوك.

      “والسالك: السائر، والمسلك: الطريق”[1]. وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم اثني عشرة مرة بالمعنى اللغوي بصيغة الفعل[2]. مرة بدلالة حسية، وأخرى بدلالة معنوية. إلا أن إطلاق لفظ “السلوك” قد غلب على معنى النفوذ في الطريق والسير فيه، سواء كان هذا الطريق طريقا حسيا أو معنويا.

      ففي الاصطلاح: السلوك؛ هو النفوذ والسير في الطريق التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والشروع فيها وملازمتها، وهو مما اصطلح عليه أهل التصوف وتوافقوا عليه؛ إذ السلوك عندهم مرتبط بالطريق التي يسلكها الصوفي من أجل تطهير نفسه، والسمو بها عن الأخلاق الذميمة، مثل حب الدنيا والجاه، والحقد، والحسد، والكبر، والعجب، والكذب، والغيبة، والظلم، ونحوها من المعاصي، وتحليتها بالأخلاق الحميدة، مثل العلم، والحياء، والرضا، والعدالة، ونحوها[3].

      ومن ثم فالسلوك هو الطريق الأقوم الذي ينبغي للصوفي أن يسلكه؛ لأنه أساس الممارسة الدينية الإسلامية الحقّة التي مبناها على تصفية القلوب وتطهيرها، وهي الغاية التي جاء من أجلها النبي صلى الله عليه وسلم، والطريقة التي انتهجها مع صحابته، وهي طريقة كل المرسلين والأنبياء، قال تعالى: “وَأَنْ لَوِ اِسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا” [الجن، 16]. والاستقامة على هذه الطريق تقتضي سلوك أثر النبي صلى الله عليه وسلم.

      وعليه فالمقصود بالسالك في قوله: “وهي للسالك سبل المنفعة”، العبد الذي يجتهد بالتقوى في الظاهر والباطن وذلك بمخالفة هوى نفسه وشهواتها، وهو الذي يستقيم في طريق الحق بالمجاهدة وإخلاص النية لله تعالى، ليجعل الله له بذلك نورا في قلبه، ويرزقه علما يدرك به حقائق الأمور، ويميز به الأشياء من أضدادها، مصداقا لقول الله تعالى: “وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ الله” [البقرة، 281]، فالسالك “في اصطلاح الصوفية.. عبارة عن السائر إلى الله، وهو وسط بين المريد والمنتهي”[4]، ما دام في السير.

      وما أحسن قول الشيخ زروق: “السالك هو المتوجه لطلب الحق، على سبيل التدريب والتهذيب”[5]. وهو الذي تنصرف همته لله، فيريد انفراد قلبه لمولاه، فيعمل على تصفية قلبه من العيوب التي تحجبه عن الله وتصرفه عن باب مولاه، ويتأدب بآداب العبودية، حتى يتأهل بذلك لحضرة الربوبية، وهي أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وبالتخلق بها امتاز الصوفية على غيرهم كما قيل:

          تبعـــهُ العَـالِـم فــي الأقــــوال *** والعابد الناسك فــي الأفعَال

          وفيهما الصٌّوفي في السيـاق *** لكنـــه قد زاد فــــي الأخلاق[6]

      وفي بعض تقاييد أبي الحسن علي الحرالي “تـ 638هـ”[7] ما نصه: “وظيفة المريد السالك لطريق الصوفية وآدابه التمسك بعزائم الكتاب والسنة، والأخذ بالأحوط في كل حالة، وتفريغ القلب من كل شاغل يشغله عن الله سبحانه، وتوديع نفسه في كل عمل يعمله، بتقريب أجله وقصر أمله، مفتقرا إلى الله تعالى في كل أحواله وأعماله، ليتولى الحق سبحانه سياسته ورعاية حفظه”[8].

      وقد أجمع أهل هذا الفن على أن السلوك الصوفي يتطلب مُسلِّكا ماهرا، يعرف الطريق، ويخبر دروبها، ممن له الأهلية في فعل التسليك، وكملت معرفته بمكائد النفس وألاعِيب الشيطان، فهذا صحبته تختصر الطريق للسالك، وهو بدونه كالمسافر الذي يسير في صحراء لا يعرفها من غير دليل، ولهذا المعنى أشار ابن عاشر بقوله كما سيأتي لاحقا:

          يَصْحَبُ شَيْخًا عَارِفَ الْمَسَالِك *** يَقِيــهِ فِي طَرِيقِــــــهِ الْمَهَالِكْ

          يـُــذكــــــرُهُ اللّــــــــــــهَ إِذَا رَآه *** وَيُوَصِّــــلُ الْعَبْــــدَ إلــى مَوْلاه

      وقال ذو النون المصري[9]:

          فلا عيــــشَ إلا مع رجـــــالٍ قلوبُهـم *** حنّ إلـــى التقوى وترتــــــاحُ للذكـــر

          سكـــــونٌ إلى روح اليقيــن وطِيبـــه *** كما سكنَ الطفل الرضيعُ إلى الحِجر

يُتبع..

—————————————————-

  1.  لسان العرب لابن منظور، مادة (سلك).

  2.  وهذه المواضع هي: الحجر الآية 12، النحل: 69، طه: 53، المؤمنون: 27، الشعراء: 200، القصص: 32، الزمر: 21، الحاقة: 32، نوح: 20، الجن: 17 و27، المدثر: 42. وقد ورد فيها بالصيغ الآتية: سلك، سلكناه، فسلكه، لتسلكوا، نسلكه، يسلك، يسلكه، اسلك، فاسلكوه.

  3.  كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، تحقيق: علي دحروج، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط1، 1996، 1/ 969.

  4.  كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، ج1، ص: 970.

  5.  شرح الحكم العطائية لأحمد زروق، ص: 17.

  6.  شرح كتاب مبادئ التصوف وهوادي التعرف للشيخ محمد بن قاسم كسوس، مخطوط بالمكتبة الوطنية بالرباط، رقم: 10ك، وبالخزانة الحسنية، رقم: 12439.

  7.  انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1982م، 11/78.

  8.  شرح كتاب مبادئ التصوف وهوادي التعرف للشيخ محمد بن قاسم كسوس، مخطوط بالمكتبة الوطنية بالرباط، رقم: 10ك، وبالخزانة الحسنية، رقم: 12439.

  9.  الرسالة القشيرية، المكتبة العصرية، بيروت، 2005م، ص: 106.

أرسل تعليق