Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

تعليق واحد

مقام الأدب مع الله تعالى

      قال الله تقدست أسماؤه: “إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لنَا خَاشِعِينَ”  [الاَنبياء، 89]. من أراد الاستقامة على سبيل الحق في دينه، والتحصن من عدوه، والتخلص من وساوس النفوس وضيقها وتقلبها، والحصول على شرح الصدر، فليصحح مقام الأدب مع الله تعالى ظاهرا وباطنا في جميع أحواله، فذلك هو الشكر الموجب للمزيد. قال الشيخ أبو حامد رحمه الله في كتابه “بداية الهداية”: اعلم أن صاحبك الذي لا يفارقك في حضرك وسفرك بل في حياتك وموتك هو ربك وسيدك ومولاك وخالقك، ومهما ذكرته فهو جليسك؛ إذ قال الله تعالى: “أنا جليس من ذكرني” ومهما انكسر قلبك حزنا على تقصيرك في حق دينك فهو صاحبك وملازمك، إذ قال الله تعالى في الحديث القدسي “أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي” فلو عرفته حق معرفته لاتخذته صاحبا، وتركت الناس جانبا؛ فإن لم تقدر على ذلك في جميع أوقاتك، فإياك أن تخلي ليلك ونهارك عن وقت تخلو فيه لمولاك، وتتلذذ معه بمناجاتك، وعند ذلك عليك أن تتعلم آداب الصحبة مع الله وهي: إطراق الرأس، وغض الطرف، وجمع الهم، وسكون الجوارح، ومبادرة الأمر، واجتناب النهي، وقلة الاعتراض على الأقدار، ودوام الذكر، وملازمة الفكر، وإيثار الحق على الباطل، والإياس من الخلق، والخضوع تحت الهيبة، والانكسار تحت الحياء، والكسب ثقة بالضمان، والتوكل على فضل الله معرفة بحسن الاختيار.. وهذا كله ينبغي أن يكون شعارك في جميع ليلك ونهارك، وحضرك وسفرك كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المأثور “اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل” وفي الحديث الصحيح كذلك: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك” قال الإمام سحنون أبو سعيد المالكي القيرواني: “إياك أن تكون عدوا لإبليس في العلانية، صديقا له في السر”.

      وخلاصة القول، في هذا الباب أن تصحيح مقام الأدب مع الله ينبني على أصلين:

      الأول: معرفة الإنسان بعظمة ربه وكبريائه؛

      والثاني: علمه بضعف نفسه وخستها وعيوبها وآفاتها؛

      ولما كانت الأشياء تعرف أحيانا بأضدادها، فهذه جملة من الأسباب تحول بين الإنسان وبين تصحيح مقام الأدب مع الله تعالى، بل هي أسباب توجب انتكاس المؤمن ورجوعه على عقبه، وأصولها أربعة:

      أولها: حب الأنا والرئاسة والزعامة، والاستظهار بالخصائص، قال إبليس لأبي سعيد: “إذا قال ابن آدم أنا، قلت له: لقد صرت مثلي” والاستظهار بالخصائص خلاف الإخلاص، فمن أراد أن يطلع الله الناس على عمله وعبادته فهو مراء، ومن أحب أن يطلع الناس على حاله فهو كذاب، وعن قريب تزل قدمه في مهواة التلف، قال في الحكم: “استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على عدم صدقك في عبادتك”. وقال بعضهم: “من أشار إلى الحق، وتعلق بالخلق أحوجه الله إليهم ونزع الرحمة من قلوبهم عليه”.

      الثاني: حسن ظنه بنفسه فيما هو بصدده بحيث يظهر له أنه بلغ مبلغ الكُمل، وقد قال أبو حفص: “من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه فهو مغرور، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها، وكيف يصح لعاقل الرضا عن نفسه، والكريم ابن الكريم ابن الكريم يقول “وما أبريء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء”.

      الثالث: الغفلة عن تفقد أحواله ومحاسبة نفسه في جميع أموره، وذلك مفتاح سوء أدبه من حيث لا يشعر بل حتى يظن أنه على شيء وليس عنده شيء، وقد قال العلماء “المعرفة كلها أدب، ولكل مقام أدب، فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال، ومن ضيع الأدب -واجب الوقت- فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يظن القبول “ربما فتح لك باب الطاعة، وما فتح لك باب القبول”.

      الرابع: اتباع التأويل؛ ومقدمته الميل إلى الرخص، وقلة الصبر على المجاهدة، فيكون تارة من “الَذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا” [الكهف، 99]، وتارة ممن “اَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً” [فاطر، 8]، وتارة ممن “اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَة” [الجاثية، 22]. وتارة “مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ” [القصص، 50]. ولا يزال به التدهور والتراجع حتى ينتهي إلى حد الابتداع في الدين أو الشك أو الزندقة؛

      كل ذلك من اغتراره بنفسه، وظنه الحق في موضع الباطل؛ وهو باب من الجهل كبير، قال في الحكم: “من جهل المريد أن يسيء الأدب فتؤخر العقوبة، فيقول لو كان هذا سوء أدب لقطع الإمداد وأوجب البعاد، فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر، ولو لم يكن إلا منع المزيد، وقد تقام مقام البعد من حيث لا تدري، ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد”.

      اللهم عرفنا نعمك بدوامها، ولا تعرفنا نعمك بزوالها وحرمانها، اللهم أكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا توثر علينا، آمين والحمد لله رب العالمين.

التعليقات

  1. طارق فايز العجاوى

    طرح رائع بكل المقاييس
    بارك الله فيكم
    ودمتم ذخرا للاسلام واهله

أرسل تعليق