Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

مفهوم الاستخلاف عند الإمام القرطبي من خلال كتابه “الجامع لأحكام القرآن” (5/1)

      يقول تعالى: “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الاَرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك” [سورة البقرة، الآية: 30].

      هذه الآية من سورة البقرة هي الأصل الأصيل لمفهوم الاستخلاف في الأرض؛ لأنها عالجت بداية الخلق ومبدأ الخلق وغاية الخلق.

      وقد أسهب المفسرون عامة ومفسرو الغرب الإسلامي خاصة في تفسير معنى هذه الآية، وإيضاح دلالاتها ومراميها، فنجد القرطبي في كتابه الفريد “الجامع لأحكام القرآن” قد عالج مدلولات هذه الآية في سبع عشرة مسألة.

      وهكذا في باقي الآيات التي تعرضت لمفهوم الاستخلاف بشتى اشتقاقاته، أمثال:

      قوله تعالى في [سورة النور،الآية:53]: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الاََرْضِ كَمَا اَسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم”.

      وقوله في [سورة هود، الآية: 56]: “فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ اَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً اِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ”.

      وقوله في [سورة الاَنعام، الآية: 134]: “وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ –اخَرِينَ”.

      وقوله تعالى في[سورة الحديد، الآية: 7]: “ءامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ”.

      وقوله عز وجل في [سورة الاَعراف، الآية: 73]: “وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الاَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ ءالاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الاََرْضِ مُفْسِدِينَ”.

      ولأجل هذا سأقوم بجولة تفقدية في تفسير القرطبي من أجل استخلاص مفهوم الاستخلاف عنده، محاولا فيه استقصاء ما أودعه فيه من معاني دقيقة، ولفتات رقيقة. من خلال هذا البحث. والله الموفق للصواب.

      1.  آيات الاستخلاف في إطارها التفسيري من خلال الجامع لأحكام القرآن

أ‌.  “ءامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءامَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ” [سورة الحديد، الآية:7].

      قوله تعالى: “ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ” أي صدّقوا أن الله واحد وأن محمداً رسوله “وَأَنفِقُواْ” تصدّقوا. وقيل أنفقوا في سبيل الله. وقيل: المراد الزكاة المفروضة. وقيل: المراد غيرها من وجوه الطاعات وما يقرب منه “مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ” دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة. فمن أنفق منها في حقوق الله وهان عليه الإنفاق منها، كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، كان له الثواب الجزيل والأجر العظيم. وقال الحسن: “مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ” بوراثتكم إياه عمن كان قبلكم. وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة النوّاب والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم. “فالذين آمَنُواْ” وعملوا الصالحات “مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ” في سبيل الله “لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ” وهو الجنة[1].

       ب‌.  “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” [سورة النور، الآية: 53].

      وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله في إظهار دينه، وثقوا بالنصر، وليستيقنوا بالنجح، وكان عمر يفعل ذلك: فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا، برا وبحرا، قال الله تعالى: “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الاَرض كما استخلف الذين من قبلهم”[2].

      وأمّن المؤمنين وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وهو المراد بقوله: “لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض”. وقوله: “كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ” يعني بني إسرائيل، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر، وأورثهم أرضهم وديارهم فقال: “وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاَرض وَمَغَارِبَهَا” [سورة الاَعراف، الآية: 136]. وهكذا كان الصحابة مستضعفين خائفين، ثم إن الله تعالى أمّنهم ومكّنهم وملّكهم، فصح أن الآية عامّة لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم غير مخصوصة؛ إذ التخصيص لا يكون إلا بخبر ممن يجب (له) التسليم، ومن الأصل المعلوم التمسكُ بالعموم… واللام في “لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ” جواب قَسَم مُضْمَر؛ لأن الوعد قول، مجازها: قال الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات والله ليستخلفنّهم في الأرض فيجعلهم ملوكها وسكانها. “كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ” يعني بني إسرائيل، أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم. وقراءة العامة «كما اسْتَخْلَفَ» بفتح التاء واللام؛ لقوله: «وَعَدَ». وقولِه: «ليَسْتَخْلِفنّهم». وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضّل عن عاصم «استُخلِف» بضم التاء وكسر اللام على الفعل المجهول. “وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ” وهو الإسلام؛ كما قال تعالى: “وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِسلام دِيناً” [سورة المائدة: الآية: 3] وقد تقدّم. وروى سليم بن عامر عن المِقْداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “ما على ظهر الأرض بيت حجر ولا مَدَر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعزّ عزيز أو ذلّ ذليل أمّا بعزهم فيجعلهم من أهلها وأما بذلهم فيدينون بها” ذكره الماوردِي حجة لمن قال: إن المراد بالأرض بلاد العرب والعجم؛ وهو القول الثاني، على ما تقدم آنفاً. “وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ” قرأ ابن مُحَيْصِن وابن كثير ويعقوب وأبو بكر بالتخفيف؛ من أبدل، وهي قراءة الحسن، واختيار أبي حاتم. الباقون بالتشديد؛ من بدّل، وهي اختيار أبي عبيد؛ لأنها أكثر ما في القرآن، قال الله تعالى: “لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله” [سورة يونس، الآية: 64]. وقال: “وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً” [سورة النحل، الآية:101] ونحوه، وهما لغتان. قال النحاس: وحكى محمد بن الجَهْم عن الفَرّاء قال: قرأ عاصم والأعمش «وليبدّلنّهم» مشددة، وهذا غلط عن عاصم؛ وقد ذكر بعده غلطاً أشدّ منه، وهو أنه حكى عن سائر الناس التخفيف. قال النحاس: وزعم أحمد بن يحيى أن بين التثقيل والتخفيف فرقاً، وأنه يقال: بدّلته أي غيّرته، وأبدلته أزلته وجعلت غيره. قال النحاس: وهذا القول صحيح؛ كما تقول: أبدِلْ لي هذا الدرهم، أي أزله وأعطني غيره. وتقول: قد بدّلت بعدنا، أي غيّرت؛ غير أنه قد يستعمل أحدهما موضع الآخر؛ والذي ذكره أكثر. وقد مضي هذا في «النساء» والحمد لله، وذكرنا في سورة «إبراهيم» الدليلَ من السنة على أن بدل معناه إزالة العين؛ فتأمله هناك. وقرأ “عسى رَبُّنَآ أَن يُّبْدِّلَنَا” [سورة القلم، الآية: 32] مخففاً ومثقلاً. “يَعْبُدُونَنِي” هو في موضع الحال؛ أي في حال عبادتهم الله بالإخلاص. ويجوز أن يكون استئنافاً على طريق الثناء عليهم. “لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً” فيه أربعة أقوال: أحدها: لا يعبدون إلها غيري؛ حكاه النقاش. الثاني: لا يراءون بعبادتي أحداً. الثالث: لا يخافون غيري؛ قاله ابن عباس. الرابع: لا يحبّون غيري؛ قاله مجاهد. “وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك” أي بهذه النعم. والمراد كفران النعمة؛ لأنه قال تعالى: “فأولئك هُمُ الفاسقون” والكافر بالله فاسق بعد هذا الإنعام وقبله[3].

يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى

———————

 1.  الجامع لأحكام القرآن  2/5467.

 2.  الجامع لأحكام القرآن  1/98.

 3.  الجامع لأحكام القرآن   2/3977-3978.

أرسل تعليق