Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

أزمة الأخلاق (2)

      في موضوع سابق، كنت قد تكلمت بصفة عامة عن أزمة الأخلاق التي تسربت إلى مجتمعاتنا، وكانت هناك مجموعة من الأسئلة تؤرقني، وشحنة من المشاعر الانفعالية عبرت عنها بتلقائية. والآن سأحاول أن أقف على بعض من مظاهر هذه الأزمة، محاولة التفكير بصوت عال في بعض الحلول.

      وقبل الشروع في هذا الأمر، أود في البداية، أن أشكر كل من اهتم بمقالتي السابقة، وأبدى رأيه في موضوعها، الأمر الذي أثرى مضمونها، وزادها حلية، وشجعني على التعمق في الموضوع أكثر.

      لقد ارتأيت أن أقف عند مظهر خطير من مظاهر هذه الأزمة الخلقية، استفحل في الآونة الأخيرة، حتى أصبح الأمر مألوفا، من كثرة ما تعودنا على سماعه في وسائل الإعلام، وفي الحديث اليومي للعامة، وفي تصدره الصفحات الأولى للجرائد، ألا وهو “العنف ضد الأصول” وهو من الجرائم المستحدثة في ثقافة المجتمع الحالي.

      المظهر الأول: العنف ضد الأصول

      لا بأس قبل أن أنطلق في الحديث عن هذه الظاهرة، أن أعرف بداية بلفظة “الأصول”. فهذه اللفظة تطلق شرعا وقانونا على الوالدين. فأصول الإنسان من لهم عليه ولادة، وهم تحديدا الآباء والأمهات، والأجداد والجدات.

      وإذا نظرنا إلى التعاليم الإسلامية، وكيف تعاملت مع الأصول وجدناها قد أحاطت هذه الشريحة من المجتمع بعناية فائقة وأهمية قصوى.

      فمنزلة الوالدين في الإسلام منزلة عظيمة، ويكفينا أن نعرف بأن الله تعالى، جعل برهما قرين التوحيد، وشكرهما مقرون بشكره تعالى، والإحسان إليهما أنبل الأعمال، وعقوقهما من الكبائر. قال تعالى: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، اِما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا” [سورة الإسراء، الآيتان: 23-24].

      وأكثر من ذلك؛ فإن لهما حق البر والمصاحبة حتى ولو كانا كافرين، قال تعالى: “وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا” [سورة لقمان، جزء من الآية: 15].

      أما السيرة النبوية، فهي أيضا زاخرة بالأحاديث في هذا الموضوع، أذكر منها: أخرج البيهقي رحمه الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أصبح مطيعا لله في والديه، أصبح له بابان مفتوحان من الجنة، وإن كان واحدا فواحدا، ومن أمسى عاصيا لله في والديه، أصبح له بابان مفتوحان من النار، وإن كان واحدا فواحدا، فقال رجل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه”. [شعب الإيمان، الحديث رقم 7916. 2/206. طبعة دار الكتب العلمية بيروت].

      هذه إخوتي هي نظرة الإسلام إلى الوالدين، وهي نظرة كما نرى مقدسة.

      دعونا الآن نتأمل الوضع الذي آلت إليه العلاقة بين الآباء والأبناء، سوف نجد تناقضا كبيرا وبونا شاسعا بين ما يجب أن تكون عليه هذه العلاقة، وبين ما هو كائن. فنحن نتألم يوميا بسبب ما نسمع من عنف يمارس على الأصول، الأمر الذي لم نكن نجرؤ حتى على التفكير فيه، فبالأحرى تطبيقه.

      وقد اتخذ هذا العنف أشكالا متعددة، فنجد العنف اللفظي، حيث السب والشتم، والنهر الإهانة والتحقير، وأقلها درجة التأفف.

      كما نجد العنف النفسي، وهو أخطر أنواع العنف، حيث ينعدم الحياء، ويموت في الإنسان تأنيب الضمير، وأوضح مثال على ذلك، هو الزج بالوالدين في دور العجزة، أو دور المسنين، أو دور الرعاية….تعددت الأسماء والمعنى واحد. أما أنا فأجد أنسب تسمية لهذه الدار: دار الموت البطيء…

      نعم أعزائي القراء، فيكفي أن تقوم بزيارة لهذه الديار، لتكتشف جرحا عميقا في الصدور، وترى مقلا التهبت من كثرة الدموع حزنا على الحكم الشنيع الذي أصدره في حقهم فلذات أكبادهم، بدل أن يجنوا ثمار الكفاح. هذا، ناهيك عن تصرفات أخرى من قبيل شرب الدخان أمامهم، والبخل عليهم، والعبوس في وجوههم، وتمني زوالهم والعياذ بالله.

      أما النوع الثالث من هذا العنف فهو العنف الجسدي، واعذروني فأنا لا أجد تعليقا مناسبا على هذا النوع من العنف، فقلمي لا يطاوعني، ولساني يعجز عن التعبير عنه؛ لأنه أمر يستهجنه العقل السليم.

     هذا غيض من فيض، مما يرتكب في حق الأصول من جرائم، يحرمها الدين الإسلامي، ويعاقب عليها القانون، وتمجها الأذواق السليمة والعقول النيرة.

     ويحق لنا الآن أن نتساءل ما هي إذن الأسباب التي تكمن وراء هذه الظاهرة؟

     الدوافع كثيرة ومتعددة: منها ما يخص أخلاق الأبناء المعاصرين، من قبيل الإدمان وتعاطي الكحول والمخدرات، الأمر الذي يؤدي إلى إبطال دور العقل الكامن في توجيه سلوكيات الفرد، ثم عدم شعورهم بالمسؤولية، وتحول النموذج من الأب والأم إلى نماذج نراها في الإعلام مثلا أو غيره لا قيمة لها.

     ومنها ما يتعلق بالمجتمع الحالي، هذا المجتمع المادي الجشع الذي لا يهمه سوى المال، فقد هويته الإسلامية، وحتى هويته المغربية، من حيث الثوابت والقيم الأخلاقية.

     ومنها ما يرجعه الأطباء والمختصون إلى الأمراض النفسية والاجتماعية التي أفرزتها وتيرة الحياة الصعبة والضغوط التي تمارسها على الإنسان.

     ولا نستثني من هذه الأسباب أيضا سببا، أراه جوهريا، وهو الجهل بالدين عند البعض والفهم الخاطئ لتعاليمه، وغياب الوازع الديني عند البعض الآخر، وبالتالي ينتج عن ذلك التطبيق السلبي الذي ينحو منحى مغايرا.

     هذا، وتجدر الإشارة، إلى أن هذا الجفاء في المشاعر اتجاه الآباء، قد يكون صادرا عن تصرفاتهم الخاطئة أيضا، فالبيت الذي يغيب فيه الحوار، وينعدم فيه التواصل، وتسود فيه لغة العنف، يكون غير قادر على معالجة المشاكل، مما ينعكس سلبا على الأبناء، فيولد عندهم الشعور بالتيه والضياع والغربة النفسية، وهذا ما يجعلهم يفرغون مكبوتاتهم على الآباء، ويجعلهم أيضا فريسة سهلة لأصدقاء السوء.

     والحق أني لا أملك عصا سحرية لحل هذه المعضلة الاجتماعية الخطيرة، ولكن من مبدأ اليد الواحدة لا تصفق، دعوني أفكر معكم بصوت عال في بعض الحلول، على سبيل الذكر لا الحصر:

     •  زرع بذور الدين الصحيح، فمن شب على شيء شاب عليه. وهذه مسؤولية مشتركة بيننا، كل من موقعه؛

     •  اختيار الأم الصالحة الطاهرة، وهنا أشد على يد الأستاذ الكريم السيد عبد السلام أجرير عندما دعا في موضوعه إلى ضرورة تعليم المرأة، لأن صلاحها من صلاح أخلاق الأمة؛

     •  الرعاية والتوجيه السليم للأبناء، عن طريق إعطاء القدوة والمثال؛

     •  قيام العلماء بدورهم الصحيح في التوجيه والإرشاد؛

     •  تعميق الخطاب الديني والتربوي في برامجنا التعليمية؛

     •  تطهير الإعلام العربي من السموم التي تسربت إليه من المجتمعات الغربية المادية المتوحشة؛

     •  وعلى القائمين بشؤون هذه الشريحة من الناس نفض الغبار عن القوانين المركونة في الرفوف وتفعيلها.

     وختاما، عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، لا يمكننا أن نختلف أبدا في كون قيمة الوالدين هي قيمة إنسانية عظيمة، ونعمة ربانية لا تقدر بثمن، فكما أعطاكا حقك في ضعفك، لا تنس حقهما في ضعفهما. وطوبى لمن أدرك هذه القيمة وعمل بها.

     قال أبو العلاء المعري:

          العيش مـــاض فأكرم والديـك بـــه          والأم أولــى بإكــرام وإحســــان

          وحسبها الحمل والإرضاع تدمنــه          أمران بالفضــل نـالا كل إنســان

التعليقات

  1. عبد المالك القباج

    بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين.
    وبعد:
    أود في البداية أن أشكر الأستاذة الفاضلة على إثارتها لهذا الموضوع الشائك والخطير في مجتمعاتنا العربية وعلى صدقها الواضح والأصيل في مقاربته. واسمحوا لي في عجالة أن أبدي رأيي المتواضع في هذا الموضوع.
    إن السبب الحقيقي وراء ما نشهده من أزمة للأخلاق، بمختلف مظاهرها، في مجتمعاتنا العربية، يعود أساسا إلى نمط الحياة العربية المعاصرة. هذا النمط الذي استحدثناه لأنفسنا، أو لعلنا أجبرنا عليه، بعد الهزيمة الحضارية مع الغرب، والذي جاء نمطا هجينا بين ما تبقى وترسب في حياتنا من عادات وتقاليد اجتماعية تربينا عليها وتوارثناها كإرث مقدس وجميل وبين ما استوردناه من مظاهر الحياة الغربية الرأسمالية المتوحشة. وعندما استوردنا هذه المظاهر لم نستوردها من منظور الندية والمثاقفة بل استوردناها من منظور أنها تشكل الأفضل والأصلح ما دمنا قد انهزمنا أمام صانعيها، وضربنا عرض الحائط بهذا العنصر الأصيل فينا؛ ولأن ما اكتسبته شخصيتنا في قرون لا يمكن أن يمحى في سنوات ظل هذا العنصر حاضرا فينا، شئنا أم أبينا، ليصنع هذا الشرخ الفكري والنفسي الهائل الذي نعيشه الآن في حياتنا. وهذا الشرخ هو ما يصنع أزمتنا لا في الأخلاق فحسب بل في كل مجالات الحياة؛ فكرا وسياسة واقتصادا وإعلاما وهلم جرا. وعودوا بذاكرتكم معي قليلا إلى الوراء لنسترجع تلك الأيام الجميلة التي كنا نعيش فيها منسجمين مع أنفسنا ومع غيرنا. لقد كان كل واحد منا سعيدا بهويته مطمئنا إليها، إن في البادية أو في المدينة، دون أن يعني ذلك بالضرورة إقصاء الآخر. لقد كانت الحياة قوامها التكافل والتعاون والمحبة والانسجام لوضوح الرؤية بيننا جميعا. لقد كنا صغارا نتلقى التربية في البيت وفي الشارع وفي المدرسة، من آبائنا وأمهاتنا وأقاربنا وجيراننا الأقربين والأبعدين ومن معلمينا. وكنا سعداء جدا بما نتلقاه منهم، لا يتطرق إلينا الشك ولو لهنيهة في قيمة ما يقدموه لنا. لم يكن هذا الشرخ المعرفي والقيمي الهائل بيننا وبين من علمونا، مشكورين، في البيت وخارجه. الآن، ومن منظور تائه للحداثة، فتحنا أبوابنا لكل من هب ودب ليعلمنا ويلقننا أصول الحياة، وكأننا كائنات لا جذور ولا أصول لها، والحال أننا صنعنا حضارة يعترف بها المنصفون من الأعداء قبل أن تجد هذا الجحود الغريب منا. وهكذا أصبحنا نتلقى دون أن نمحص ما نتلقاه. وإذا حدث وارتفع صوت أحدنا صارخا ضد هذا الاستيلاب الذي نمارسه على أنفسنا قبل أن يمارسه الآخرون علينا، لم نعدم من بين أظهرنا من تأخذه حمية التعصب للغير لينعتنا بنعوت التخلف والرجعية وما إلى ذلك من نعوت قدحية يتفنن في صنعها وفي إقناع نفسه بها بشكل يدهش ذلك الاخر نفسه! وهذا ما جعل أبناءنا يفقدون الثقة فيما نقدمه إليهم، وحفر بيننا هذا النفق المظلم الذي أصبحنا بسببه نعيش ونتألم لمثل هذه المظاهر التي لم نكن نتوقع حتى أن يصل إليها خيالنا يوما! إن هذا الموضوع الذي بدأته الأستاذة مشكورة ليس مما يحيط به القلم في هذه العجالة، وحسبي منه هذه الخواطر التي أحسست بألمها الشديد يهز كياني فأحببت أن أقاسمكم هذا الألم، وإلى ألم وأمل جديدين بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته…

  2. السكتاني عمر

    الأستاذة الفاضلة نبوية عبد الصمد
    شكرا على الموضوع؛
    شكرا على الاختيار؛
    شكرا على الإحساس بالمسؤولية؛
    " أزمة الأخلاق " موضوع الأمس وموضوع اليوم وموضوع الغد، وما الأزمات التي نعانيها اليوم في جميع المجالات اقتصادية، اجتماعية، سياسية إلا نتيجة مباشرة لأزمة الأخلاق، لأزمة العنف ضد الأصول، ضد الأسرة، ضد الآخرين، بل وضد المجتمع، فهذه ظاهرة مركبة ويتداخل فيها ما هو تربوي بما هو سياسي بما هو عالمي، حتى أصبحنا نعيش وفق سلوكات بدائية بعيدة كل البعد عن هويتنا وديننا وعاداتنا، العنف في المدرسة، في الشارع، في العمل، وغالبا يكون عنفا نفسيا أو معنويا، فكيف نرتقي بأنفسنا؟
    أكيد أنكم تطرقتم للحلول، فالحياة أشكال، حتى الحيوان له حياة، غير المسلم له حياة، لكننا نحن المسلمين لنا حياة خاصة هي حياة القلوب وحياء النفوس بالابتعاد بها عن الأنانية والحسد والظلم؛ لأنها تقتل القلوب فتموت الأخلاق تباعا…
    مرة أخرى شكرا ونتمنى ان تتظافر جهود الباحثين والمثقفين في تكوين الرأي العام عبر تقديم حلول وتوجيهات ودروس تعلمنا معنى الأخلاق ومعنى المسؤولية، فهما درسين أساسيين عليهما يقوم سلوك الفرد والمجتمع..

  3. عبد السلام أجرير

    بسم الله الرحمن الرحيم
    والسلام عليكم ورحمة الله.
    الشكر موصول لأختنا الأستاذة نبوية على هذا المقال الثاني في "أزمة الأخلاق".
    وقد ذكرت الأستاذة مظهرا خطيرا من مظاهر أزمة الأخلاق عندنا. وأظنها قد بدأت الكلام عن "العنف ضد الأصول" (أو العقوق كما هو معروف) كمثال أولي فقط. ونحسبها سوف تتكلم عن مظاهر أخرى في المستقبل إن شاء الله. نسأل لها التوفيق.
    فعلا –كما ذكرت الأستاذة- ما كنا نتخيل أن يستطيع الولد ضرب أصوله حتى رأينا ذلك واقعا. و"الواقع لا يرتفع".
    أردت أن أذكر هنا أمرا هاما وسببا فعليا في تشكّل سلوك العقوق، إنها أزمة أخلاق الأبوين أولا. أجل، إن أهم سبب في تدني أخلاق أبنائنا هو فساد أخلاق الآباء أولا وقبل كل شيء.
    ما تكاد تجد أبوين ملتزمين متخلقين حيين متعلمين… وأبناؤهم سيئو الأخلاق! أنا شخصيا لا أعرف أسرة بهذا الوصف، لكن لا أنفي وجودها مع تيقني أن هذه الحالة نادرة.
    الأسرة أهم عملية في إصلاح العقوق. فإذا كان الأبوان واعيين متخلقين، لا يضرهم سوء أخلاق المجتمع في تربية أبنائهم وإن كان ذلك صعبا وشاقا.
    وهنا تذكرت قصة مشهورة وقعت زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
    جاء أعرابي يشكي عقوق ابنه لعمر رضي الله عنه، فاستدعى عمر ابن الرجل وعنفه وذكّره بحقوق الآباء على الأبناء… فما كان من الابن إلا أن سأل عمر: "أو ليس على الآباء حقوق على الأبناء يا أمير المؤمنين؟! "قال: بلى، فذكر له أن من حقوق الآباء على الأبناء أن يختار الأب لولده أمّا صالحة، وأن يختار له اسما حسنا ويعلمه… فقال الولد لعمر: إن والده ما اختار له أمّا صالحة، ولما ولد سماه جُعَلا –وهو اسم لحشرة- ولم يعلمه شيئا من القرآن… فنظر عمر للأب وقال له: "لقد عققت ابنك قبل أن يعقك"!.
    فهذا هو حال معظم أسرنا، لقد عققنا أبناءنا قبل أن يعقونا هم. فالأولى أن نصلح أنفسنا ليكون صلاح الأبناء بالتبع إن شاء الله.
    اللهم أصلحنا ظاهرا وباطنا

أرسل تعليق