Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

كيف نرتقي بسلوكنا

2. قاعدتان جليلتان في العمل

قال الله تقدست أسماؤه: “وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا” [سورة طه، الآية:110-111] وقال: “لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا” [سورة النساء، الآية: 122].

قاعدة الإسلام الكبرى في الثواب والجزاء، والفلاح والخسر أن صاحب الحسنة يجزى بحسنته، وصاحب السيئة يجزى بسيئته. وأن هذه القاعدة ثابتة مطردة لا تُخرق لأحد، ولا مساومة ولا مجاملة فيها مع أحد، حتى لو تعلق الأمر بقرابة النبي صلى الله عليه وسلم “يا نساء النبي من يات منكن بفاحشة”  الآية، ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: “لو سرقت فاطمة بنت محمد، وقد أعاذها الله من ذلك، وقوله: “ياعباس لا أغني عنك من الله شيئا، يَا فَاطِمَة بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، اشتروا أنفسكم من الله”، فثبوت المزية لا يقضي برفع العمل بالأحكام، ولزوم الأحكام لا يرفع خصوص الفضيلة والمزية.

ولما نزل قوله تعالى: “لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ” [سورة النساء، الآية:122] شق ذلك على الصحابة، ووقع في أنفسهم موقعا شديدا حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: “يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ “لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ…”  فَكُلّ سُوءٍ عَمِلْنَا جُزِينَا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تَمْرَضُ، أَلَسْتَ تَنْصَبُ، أَلَسْتَ تَحْزَنُ، أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ قَالَ بَلَى، قَالَ فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ”.

ومعناه أن المسلم لابد أن يؤاخذ على خطاياه في الدنيا بما يكره والابتلاء بالنوائب. والقانون الذي ينطبق عليه كما ينطبق على غيره هو قانون العمل: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره” [سورة الزلزلة، الآية:6]، وهذه الآية من أصول القرآن وجوامعه وكلياته.

ومعنى الأماني في الآية المزاعم والأوهام والحيل التي يخترعها الناس تنصلا من العمل. ومن ذلك ما حكاه القرآن عن بني إسرائيل لما  تبجحوا وافتخروا على الخلق بأنهم أحباء الله وأولياؤه، ففند الله زعمهم وأبطل دعواهم بقوله: “فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ” [سورة المائدة، الآية: 17]، وكذلك: “قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى” [سورة البقرة، الآية:110] وقالوا: “لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً” [سورة البقرة، الآية: 79] و”قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ” [سورة ال عمران، الآية:74].

وجميع هذه الدعاوى والمزاعم أبطلها القرآن بناء على قاعدة عظيمة، وأصل كبير وهو لا محيد عن العمل ولا مناص منه، وأن الإنسان يجزى ويثاب بحسب أعماله، لا بحسب أوهامه، حتى قال أبو بكرالطرطوشي مستنبطا من قوله تعالى: “إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه” [سورة فاطر، الآية: 29] ظاهره أن الدعاء إذا لم يقترن بالعمل الصالح لم يستجب. وانظر كذلك توكيد هذا المعنى الخطير في قوله تعالى: “وان ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى” [سورة النجم، الآية: 38-39] وقوله: “ومن اراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مومن فأولئك كان سعيهم مشكورا” [سورة الاسراء، الآية: 18] فلم يكتف بعنصر الإرادة بل أضاف إليه مؤكدا ومشددا عنصر السعي، وهو الجد في العمل والاجتهاد فيه، قال الحسن: “ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل… وإن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى لقوا الله وليست لهم حسنة ,يقول أحدهم أحدهمأحسن الظن بربي، وكذب لو أحسن الظن بربه لأحسن العمل له “.

والقاعدة الثانية: ليس المزية والعبرة بكثرة الأعمال، ولكن العبرة بما وقر في القلب من المعارف والصفات، والدليل على هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: “لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَة”.

فالسير إلى الله والسير إلى الدار الآخرة، إنما يقطع بسير القلوب لا بسير الأبدان.

جاء رجل إلى أحد الصالحين، فقال له: ياسيدي، قد جئتك من بلاد كذا وكذا، وقطعت إليك مسافة كذا وكذا، فقال له الشيخ: ليس هذا الأمر بقطع المسافات.. فارق نفسك بخطوة فإذا بمقصودك قد حصل.

وعن أنس أن رجلا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ” يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ”. فلم يفرح الصحابة بشيء في الإسلام مثل فرحهم بهذا الحديث (اللهم اشهد أنـا نحبك ونحب رسولك). فمحبة الله تعالى والإخلاص له والرضا به والثقة فيه والشوق إلى لقائه هو أصل الدين، وأصل الأعمال؛ فمعرفته أجل المعارف، وإرادة وجهه أجل المقاصد، وعبادته أشرف الأعمال، وذلكم أساس الملة. قال في التنوير:” ليس يدل على فهم العبد كثرة عمله…وإنما يدل على فهمه ونوره غناه بربه، ورجوعه إليه بقلبه، وتحرره من رق الطمع، وتحليه بحلية الورع، فبذلك تحسن الأعمال، وتزكو الأحوال.”

ولذلك كان الفضيل يقول: “ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج ولكن بشيء وقر في صدره.” والذي وقر في صدر أبي بكر حب الله وتصديقه ومخافته والرضا به، وصدق النية، وسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصيحة للمسلمين. قال الأستاذ تاج الدين: “من أخلاق الأولياء ثلاثة: سلامة الصدر، وسخاوة النفس، وحسن الظن في عباد الله”.

ولذلك لا يقبل الله تعالى من الأعمال إلا ماكان على شرائط مخصوصة، وهيئة مخصوصة يمكن إجمالها في أمرين: أحدهما/ أن يراد بالعمل وجه الله تعالى” أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشريكه”، وثانيهما/ أن يقترن العمل بالتقوى لقوله جل شأنه: “إنما يتقبل الله من المتقين” [سورة المائدة، الآية: 26]  فكل عمل في الشرع لا تقوى معه تعب ومشقة لا فائدة له على نحو قوله صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”، والتقوى هي الوصف الكلي الجامع الذي يفتقر إليه المسلم في اعتقاده وصلاته ونسكه وزواجه وطلاقه وبيعه وشرائه وسائر تصرفاته ومعاملاته، وهو عبارة عن مبدأ الالتزام الأخلاقي الذي لا ينفك عنه سلوك أو تصرف شرعي، فمبنى التقوى على طلب الأكمل واتباع الأحسن “ليبلوكم أيكم أحسن عملا”، وكمال التقوى وثمرتها وجود الاستقامة وهي حمل النفس على أخلاق القرآن والسنة.

                                          تقبل الله منا ومنكم وإلى لقاء قريب بإذن الله والسلام

التعليقات

  1. محمد عبد الرحيم عبد الرحمن الماليزي

    السلام عليكم ورحمة الله,
    أخي الكريم جزاكم الله خير الجزاء

    أنا صديقكم الماليزي، إلتقينا في المغرب سنة 1986-1990، وفي ذلك الحين كنت طالبا في محمد الخامس، وسكنت في أكدال وزرت بيتك في تفلت مع ألأخ محمد رضوان، منذ زمان لم أراك…
    الآن لا زلت طالبا في مرحلة الدكتوراة في اللغة العربية
    وأدرس في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا…

    لا تنسني من صالح دعائك…
    والسلام

  2. الدكتور احمد الربابعةاردني

    أشكر أستاذي الذي كنت أول طالب دكتوراه يشرف عليه بجامعة دار الحديث الحسنيه على هذه العبارات الجميلة.

  3. عبد الميجد عبد الباقي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    وصلى الله تعالى على سيدنا ومولانا محمد المكين وعلى آله وصحبه ذوي الرضوان والتمكين ومن تبعهم بإحسن إلى يوم الدين
    وبعد:
    فجزى الله خيرا جميع القائمين الساهرين على هذا الموقع الإسلامي، الفتي النافع، وتقبل الله منا ومنهم جميعا، ومن كاتب هذا السلسة الذهبية المباركة؛ أستاذنا الفاضل الدكتور عبد الحميد عشاق الذي عودنا في تأليفه وحواره؛
    بل ووعظه وإرشاده، بالتزام المنهج، وتراه وهو يسدد ويقارب طالبا التيسير والتبشير والوسطية، وكم رافقه التوفيق في استدلالاته الأصولية الدقيقة ورومه الدؤوب الإشارة إلى قواعد الشرع الحنيف، الشيء الذي يعين القارئ والمستمع على أخذ الدررالعلمية بنواصيها، والاعتباروالاتعاظ من المواعظ بحذافيرها،
    أجزل لله مثوتبكم، وأختم مقتبسا بهذه الفقرة المفيدة البليغة ـولها مثيلات كثيرة من منبركم هذا ـ قال في التنوير:
    ليس يدل على فهم العبد كثرة عمله…
    وإنما يدل على فهمه ونوره غناه بربه؛
    ورجوعه إليه بقلبه؛
    وتحرره من رق الطمع؛
    وتحليه بحلية الورع؛
    فبذلك تحسن الأعمال؛
    وتزكو الأحوال.
    ماأروع هذه الحكمة وما أصدقها.

  4. عالية

    بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه
    سيدي الفاضل:
    كلما كتبتم في هذه السلسلة المباركة، كلما اكتشفنا معكم عظمة المنظومة المعرفية الإسلامية؛ هذه المنظومة ذات الأبعاد المتعددة والمتكاملة، التي "ثورت الفكر" وصححت الكثير من المفاهيم، وأرجعت العقول والفهوم إلى "حالة السواء"
    والنفس الأصولي والروحي الذي يطبع أفكاركم جد مهم:
    فنحن في أمس الحاجة إلى عملية "معرفة وفهم وتفهيم" لقواعد وأصول وجوامع وكليات الإسلام "قرآنا وسنة وممارسة"
    كما أننا في حاجة إلى فهم الجوهر الروحي الإيماني ومدى "حاكميته" في قضية "قبول الأعمال"
    إن عظمة الدين الذي ننتمي إليه تتمثل- حسب تقديري المتواضع- في قدرته الرائعة على تحقيق التوازن؛ وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة "وكذلك جعلناكم أمة وسطا"؛ وهو المعيار الذي يسدد كتاباتكم بعد توفيق الله تعالى.
    أرجو من الله تعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الحال والمقال.
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أرسل تعليق