Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

الفكر في ما يخضع للتجريب والتمحيص

بعد حديثنا في الحلقة الماضية عن الفكر في ما لا يخضع للتجريب والتمحيص، من قضايا الإيمان بالغيب ومجال الفلسفة والآداب والعلوم الإنسانية بصفة عامة، والتي يمتلك في شأنها الفكر مساحة واسعة للتأويل  والتحوير، يثبت بها وينفي ويحق ويبطل، وينسج التصورات والاتجاهات، التي قد لا يكون لها من مسوغ علمي ومنطقي سوى أنها تعكس رغبة متحكمة في نفسه، وهو لا يشعر إلا أنها المسلك الصحيح والاستعمال السليم للقدرات العقلية، وتراث الإنسانية وخبراتها المتراكمة عبر التاريخ.

وفي هذه الحلقة سنحاول التعرف على حدود مسؤولية الفكر في مجالات البحث، التي تخضع للتجريب والتمحيص، وهل استطاع أن يحتفظ بحريته أو جزء معين منها، تجاه نتائج التجربة وتحكمها الشبه مطلق فيما يقع تحت سيطرة التجربة المخبرية، وصرامتها المبددة للظنون والأوهام، بل وللعديد من الفرضيات المبنية بطريقة علمية.

ولعلنا نحتاج إلى أن نذَكِر بأن كل ما يخضع للتجريب، يشكل مجالا هاما من حياة الإنسان يرتبط على الخصوص بخدمة الجسد تغذية ولباسا ومسكنا ومركبا، وما دار في مدارها من الحاجات المادية، وتبقى الجوانب الروحية للإنسان مغلقة أمام آليات التجريب والتمحيص، من النوع الذي يلزم النفس بمثل ما تلزمها به العلوم التجريبية وحقائقها البينة ونتائجها التطبيقية الملموسة.

نعم يمكن للتجارب المخبرية على المادة الحية والجامدة، أن تكون أدلة على الحقائق الغيبية ومظهرا لإحكام صنع الله في الأنفس والآفاق، لكنها لا تثمر ذلك إلا في النفس الباحثة عن الحق الخالية من شوائب الهوى الجامح والأحكام المسبقة، المستعدة لمراجعة قناعاتها ومعهوداتها.

فالمعرفة التجريبية تتجه أساسا لرفع مقدرة الإنسان لاكتشاف وتسخير السنن الإلهية الجارية في الطبيعة للارتقاء بمستوى معيشته، لا بحياة قلبه الذي اختص مضمون الوحي المنزل، بتنميته وتزكيته بجرعات إيمانية من خشية الله ومراقبته وعبادته، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ”  [سورة الانفال، الآية: 24].

وإذا كان من تأثير المنهج التجريبي في الفكر الإنساني، إمداده بحقائق ثابتة وأحكام يقينية في الدائرة المادية المحدودة، فإن العقل المادي الذي تأسس مع بزوغ ظاهرة العلم المخبري لم يشبع نهمه المعرفي ما انتهت إليه طرقه ومناهجه، التي استعصى عليها أن تخوض في كل المجالات وتفصل في جميع القضايا الشاغلة لفكر الإنسان منذ فجر التاريخ.

كما أن الفكر البشري ارتبك كثيرا واختل توازنه أمام نتائج المنهج التجريبي، الذي أحدث تحولا نوعيا وسريعا ومبهرا في نمط الحياة البشرية على مختلف الأصعدة، فانحاز إلى العلم الحديث القائم على التجربة، وغال فيه حتى جعله وحده مسلك اليقين، وانبرى يزدري المعرفة الدينية المبنية على التصديق بالغيبيات التي لا تخضع لاختبار التجربة وتقنياتها المعلومة.

ومما عمق هذا التوجه ومنحه شرعية ومصداقية شيوع الخرافة وبيع صكوك الغفران في الممارسة الكنسية لدى رجال الدين المسيحي، واتساع الهوة بين توجيهات الإسلام الخالدة وسلوك المسلمين، وتفاحش تخلفهم عن الأخذ بأسباب المنهج التجريبي والتقنية الصناعية.

وعرفت الإنسانية فترة استأثر فيها التفكير التجريبي باسم العلم وصفة العقلانية، وألحقت الأديان دون تمييز باتجاه اللاعقلانية واللاعلمية، فقد كتب السير فتز جيمس ستيفن (1884): “إذا كانت الحياة الإنسانية في نشأتها قد استوفى العلم وصفها فلست أرى بعد ذلك مادة باقية للدين، إذ ما هي فائدته وما هي الحاجة إليه؟ إننا نستطيع أن نسلك سبيلنا بغيره، وإن تكن وجهة النظر التي يفتحها العلم لنا لا تعطينا ما نعبده، فهي كفيلة أن تعطينا كثيرا مما نستمتع به ونتملاه.. إننا قادرون على أن نعيش عيشة حسنة بغير الديانة.. ”  [1].

ولما عجز الفكر البشري عن فرض رغبته على المنهج التجريبي وأحكامه وتجاربه؛ فإنه تكلف فعل ذلك ببناء نظريات وفلسفات وإيديولوجيات، على أسس نتائج العلم التجريبي وتوجيهها لمعاداة الدين واعتماد تفسيرات مادية مناوئة لتصوراته ومعارفه في شتى الميادين.

وقد أفضى هذا الموقف إلى خبط منهجي مكشوف يتلخص في “أنك لو حاولت إقامة الأدلة لإثبات الدين، فإنهم سيقولون لك إنك تجهد نفسك عبثا؛ لأن الدين ليس بشيء يمكن إثباته علميا لعدم إمكان خضوعه لمقاييس العلم الحديثة. ولكن هؤلاء أنفسهم عندما يقيمون الأدلة ضد الدين، يجعلون من ذلك الدين نفسه.. ميدانا يمكنهم إقامة الأدلة العلمية لرفضه!!” [2] وهذا الاتجاه ينطلق من هوى في النفس يجنح بالفكر إلى اعتبار العلم المادي مقوضا للفكر الديني ومتعارضا معه، مما يجعله يضيق بكل حقيقة علمية تلتقي مع حقائق الدين الحق وتلتحم معها، ويلهث وراء كل شبهة علمية قد تبدو في عين من يطلب ذلك متناقضة مع التصورات الدينية العامة أو الجزئية.

أذكر أن أحد أساتذتي في المرحلة الإعدادية أراد أن يستدل على كون العلم الحديث يتعارض مع مقولات الدين في كثير من الظواهر الطبيعية فقال لنا: كان الناس يعتقدون بأن المطر ينزل بأمر الله، في حين كشف العلم عن كونه نتيجة تبخر ماء البحر تحت أشعة الشمس وتصاعد البخار في صورة سحاب إلى السماء لينزل على الأرض ماء، فقلنا له هذا ما يقوله القرآن الكريم: “هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ”  [سورة الرعد، الآية: 13].

وهذا الاتجاه يمثل انحرافا واضحا عن النظرة المنصفة والحكم المتزن، فهو يسعى إلى جعل العلم التجريبي أداة طيعة في يد الإنسان يتحدى بها الله وينتقد دينه، ويتجاهل حقيقة أن هذا العلم لا يعدو كونه محاولات محدودة، لفهم قوانين الله في الخلق، وتدبير شأن مخلوقاته، والكشف عما خفي من أسرار كل ذلك، وتسخير العلم بها في القيام بمهمة الاستخلاف في الأرض، بحيث إن القرآن الكريم اعتبر البحث العلمي في الكون من أقوى أسباب إدراك الحقائق الإيمانية وتنمية اليقين بها؛ “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” [سورة العنكبوت، الآية: 19].

وخلاصة القول أن العلم التجريبي مهما اتسعت مجالاته وتكاثرت نتائجه وتعددت منتجاته فهو عاجز عن السيطرة الكاملة على أهواء النفس، والحيلولة دون سوء توظيف معطياته في بناء إيديولوجيات غير علمية، وعلى قدر كبير من اختلال الرؤية وانحراف الغاية.

                                                                       والله الهادي للتي هي أقوم

————-

1. عباس محمود العقاد، “عقائد المفكرين في القرن العشرين”، نقلا عن كتاب، العلم في مواجهة المادية قراءة في كتاب حدود العلم لسوليفان، عماد الدين خليل مؤسسة الرسالة، ص:6.

2. خان وحيد الدين، الدين في مواجهة العلم، دار الاعتصام، ط1، (1392 /1972)، ص: 14.

أرسل تعليق