Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

قطوف فقهية مالكية من الحقبة المرينية (4)

      بعد تربع مختصر ابن الحاجب الفقهي على عرش المختصرات الفقهية المالكية بمنطقة الغرب الإسلامي ردحا من الزمان، حيث لقي من الاهتمام والعناية من لدن المغاربة ما لم يلق كتابا آخر عبر العصور حفظا وتدريسا وشرحا، ظهر على الساحة مختصر فقهي آخر استطاع أن يحتل الصدارة الأولى بين كتب المختصرات الفقهية المالكية خلال القرن الثامن الهجري، وأن يجلب العقول الفقهية إليه وتشرإب إليه الأعناق من مختلف البقاع، ويُهوَس به الفقهاء المالكية المشارقة والمغاربة منهم على السواء، الكتاب هو مختصر خليل المصري أو “سيدي خليل” كما يسميه الفقهاء المغاربة، استطاع هذا الكتاب أن يعوض مختصر ابن الحاجب (تـ 646هـ) ويحتل مكانته في ظرف وجيز، وأصبح من الكتب المدرسية الأولى التي يعتمد عليها في التدريس والفتوى، وهو عبارة عن اختصار لمختصر ابن الحاجب المصري الذي تكلمنا عنه بإسهاب في العدد السابق.

      مؤلف الكتاب هو أبو الضياء خليل بن إسحاق الكردي المصري الشهير بالجندي لكونه كان من الجند يلبس لباسهم المميز الذي كانوا يعرفون به آنذاك، وتذكر المصادر التي ترجمت له أنه كان من الزهاد المتقشفين الذين سبلوا حياتهم لخدمة العلم، ويوصف بكونه كان محيطا بالمذهب المالكي مشاركا متفننا فيه، صدرا مبرزا في علوم الشريعة واللغة، تصدى أولا  لشرح فرعي ابن الحاجب بادلا فيه جهدا جبارا حيث جاء شرحه شرحا مفصلا مفيدا في ست مجلدا سماه “التوضيح” وهو مطبوع ومتداول، اعتمد فيه على شرح ابن عبد السلام التونسي لمختصر ابن الحاجب (تـ749هـ) الذي كان يعاصره، وأضاف إليه عزو الأقوال كما يذكر الفقيه محمد الحجوي[1]، بعد ذلك تفرغ خليل لاختصار مختصر ابن الحاجب الفقهي الذي يعتبر في الأصل مختصرا للمدونة الكبرى للإمام سحنون؛ ولقد استغرق عمله هذا خمسا وعشرين سنة وفق ما تذكر عنه المصادر المعتمدة.

      جمع الشيخ خليل رحمه الله في مختصره الشهير فروعا عديدة من كتب المذهب المالكي إذ تروي المصادر التي ترجمت له أنه ضمن كتابه مائة ألف مسألة منطوقا ومثلها مفهوما، وهناك من قال أنه جمع فيه أربعين ألف مسألة، وفي هذا النطاق يذكر محمد الصغير الفاسي الفهري (تـ 1134هـ/1722م) أن ابن الحاجب جمع ستا وتسعين ألف مسألة، وأن تهذيب البرادعي جمع ست وثلاثون ألف مسألة، وأن في رسالة ابن أبي زيد القيرواني أربعة آلاف مسألة[2]، بل من العلماء من قال أن في المسألة الواحدة الواردة في المختصر الخليلي من تجمع ألف، وألف مسألة مع أن مختصر ابن الحاجب يجمع أربعين ألف مسألة فقط كما روي عن ابن دقيق العيد (تـ 702هـ)[3]، مما يظهر أهمية هذا المصدر بين المصادر الفقهية المالكية المعتمدة.

      ولقد نهج الشيخ خليل أسلوب الاختصار الشديد في مؤلفه حيث بالغ في اختصاره فجاء عبارة عن ألغاز يعجز عن فهمها العالم كالجاهل كما قيل، لكونه كان يتحرى فيه الصواب واستقصاء المسائل بدقة وبراعة من مختلف المصادر الفقهية المالكية، مما جعله كتابا يضم بين دفتيه الكثير من الفروع الفقهية التي لا توجد في غيره من المصادر الفقهية؛ ورغم ما يوصف به هذا المؤَلَف من التوسع والإفراط في الاختصار؛ فإنه لقي من الفقهاء المالكية من القبول والاهتمام والعناية منذ صدوره إلى القرون الأخيرة ما يبين أهميته وإثراءه للفقه المالكي عبر العصور، حيث عكف عليه الفقهاء وأولوه عناية خاصة لا تقدر بثمن حفظا وشرحا وتدريسا، وتداولوه في حلقات الدروس العلمية في مختلف الجهات.

      أما بالنسبة للفقهاء المغاربة فقد كان وما زال مختصر الشيخ خليل أو “سيدي خليل”  كما يُصطلح عليه عندهم من المصادر الفقهية الدفينة المعتمدة لديهم، وكان ديدنهم الذي استظهروه عن ظهر قلب وتنافسوا في شرحه عبر العصور، مما دفع الشيخ اللقاني (تـ1041هـ) إلى أن يقول قولته المشهورة في حقهم بكونهم أصبحوا من فرط تعلقهم وعشقهم لسيدي خليل “خلليين لا مالكية”، وكان الذي أدخل مختصر الشيخ خليل إلى المغرب بعد الانفتاح الواسع الذي عرفه المغرب على الشرق بعد سقوط العواصم العلمية الأندلسية بيد النصارى، الفقيه محمد بن عمر بن الفتوح التلمساني المكناسي (تـ805هـ)[4]؛ ومنذ ذلك الحين واهتمام الفقهاء المغاربة به يزداد ولم ينقطع وظل هو المصدر الفقهي المالكي المفضل لديهم، لدرجة أنهم كانوا يشترطون في المفتي الذي سيتصدى للفتوى أن يختم المختصر الخليلي على الأقل مرة واحدة في السنة أو مرتين في السنة[5].

      والجدير بالذكر، أن مختصر سيدي خليل يمتاز عن باقي المختصرات الفقهية بكونه لا يدرس للطلبة إلا مرفقا بشروحه المختلفة لكونه صعبا للفهم لكثرة ألغازه، كما أنه لا يسمح للطالب أن يقرأه على الشيوخ إلا بعد استظهاره عن ظهر قلب مرارا وتكررا، توفي الشيخ خليل المصري رحمة الله عليه سنة (776هـ)[6].

      أيها القراء الأفاضل هذا ما يسر الله ذكره في هذا العدد وسنكمل الحديث عن بعض شروح هذا الكتاب النفيس الذي عشقه الفقهاء المغاربة وتعلقوا به في العدد المقبل بعون الله وقدرته..

                                 والله من وراء القصد ويهدي السبيل

———————-

 1.  للتوسع انظر: محمد الحجوي الفاسي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي. 4/286، دار الكتب العلمية، بيروت: 1995م.

 2.  للمزيد انظر: محمد الصغير الفاسي الفهري، المنح البادية في الأسانيد العالية والمرويات الزاهية والطرق الهادية الكافية، مخطوط الخزانة العامة بالرباط، رقم: ك 1249.

 3.  للتوسع انظر: نور البصر لأبي العباس الهلالي. طبعة حجرية. والمحاضرات المغربية لمحمد الطاهر بن عاشور، ص:84. طبعة تونس.

 4.  للمزيد انظر: ابن غازي المكناسي، الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، المطبعة الملكية، الرباط: 1964م.

 5.  انظر: أبو العباس الهلالي، نور البصر، ص: 156، الطبعة الحجرية.

 6.  انظر: عمر الجيدي، مباحث في المذهب المالكي بالمغرب، ص: 98، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط: 1993م، وانظر ترجمته المفصلة في الديباج المذهب، ص:115. نيل الابتهاج، ص: 112. الفكر السامي: 4/286-287-288.

التعليقات

  1. بدرية اليعقوبي

    السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
    فضيلة الدكتورة الكريمة تحية حب ودعاء لك بمزيد من العلم والفقه، شكر الله لك جهودك المتميزة في تعريفنا وتنويرنا بأحد الثوابت المعتمدة ببلادنا وهو (المذهب المالكي) وفقهاءه الذين خدموه وحافظوا عليه إلى أن وصل إلينا، أرجو منك فضيلة الدكتورة المالكية أن تكتبي لنا أكثر عن هذا المذهب وفقهه وفقهاءه في مختلف العصور، ولك الشكر والتحية الخاصة من مدينة العلم والعلماء فاس؛
    ولا يفوتني أن أشد على يديك على هذه القطوف الفقهية المالكية المرينية الرائعة……..

  2. حبيب العلمي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    لقد تتبعت كل ما خطته أناملك سيدتي ووجدت أنك قد أبدعت في وصف تاريخ دولة بني مرين مفخرة كل مغربي…
    واليوم وأنا أقرأ هذه القطوف الفقهية المالكية من الحقبة المرينية تذكرت ما قرأته في كتاب "الإكسير في فكاك الأسير": نشر المركز الجامعي للبحث العلمي بالرباط… الذي ألفه محمد بن عبد الوهاب ابن عثمان المكناسي، حيث ذكر ابن عثمان جامع هذه الرحلة:
    أن كارلوس الثالث قدم له مخطوطات عربية برسم سلطان المغرب سيدي محمد بن عبد الله، وأشفعها بالاعتذار عن كتب الاسكوريال التي لا يمكن إخراج شيء منها، حيث أنها محبسة وإلى نظر البابا مباشر ة…
    وقد سجل نفس المؤلف شعوره حيث عاين خزانة الاسكوريال، وعبر عن هذا في الرحلة قائلا:
    "فخرجت من الخزانة بعد أن أوقدت نار الأحزان بفؤادي نارها، ونادت يا للثارات فلم يأخذ أحد ثارها، يا ليتني لم أرها".
    وهكذا يرسم ابن عثمان إحساسه الفردي إزاء هذه المجموعة المغربية، بعدما تحدث عن المساعي الرسمية في هذا الصدد.

    نفس شعور محمد بن عبد الوهاب ابن عثمان المكناسي انتابني وأنا أطالع في أعداد جريدة ميثاق الرابطة ما تكتبينه عن الحضارة الأندلسية ولسان حالي يقول: "فخرجت من الأندلس بعد أن أوقدت نار الأحزان بفؤادي نارها، ونادت يا للثارات فلم يأخذ أحد ثارها، يا ليتني لم أرها"…

  3. محمد الشرقاوي

    السلام عليكم

    حضرة الأستاذة الفاضلة الدكتورة علية الشويمي لقبا الأندلسي قلبا

    لك الشكر الجزيل على ما تكتبين لنا نحن عشاق تاريخ بلدنا المغرب والأندلس

    ولك الشكر على حرصك على التدقيق والتمحيص والبحث عن المراجع والمصادر الدالة على المرحلة التي تدرسينها

    لك الشكر على كل شيء

    وجعلك الله ذخرا لهذا البلد

أرسل تعليق