Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

عميان ابن المقفع

      ظاهرة “القراءة الجديدة” للقرآن الكريم عجيبة من عجائب الدهر، تبعث على الدهشة والحيرة، ذلك أنها تؤكد حقيقة أن التاريخ يعيد نفسه بكل سلبياته وسيئاته وإن اختلفت العصور والعقول!!
ويمكن اختصار هذه الظاهرة في الدلالات التالية:

      فمن هؤلاء “الظاهرة العجيبةد” من يرى أن القرآن الكريم نص لغوي كباقي النصوص اللغوية البشرية، وبذلك فهو قابل لجميع التأويلات والتفسيرات!!

      ومنهم من يرى أنه نص له دلالات تاريخية صرفة، ترتبط بزمانها ومكانها وأشخاصها وأسباب نزولها، ومن هنا وجب تفسير القرآن تبعا لهذه الدلالات وأخواتها فقط!!

      ومنهم من يرى أن معنى النص القرآني يتغير حسب الأحوال النفسية لكل قارئ له!!

      ومنهم من يرى معانيه تقتصر في ارتباطها بالبيئات والثقافات والحضارات التي تفاعلت معه دون سواها!!

      ومنهم من يرى بأنه ليس ثابتا من الثوابت، ومن هنا يمكن اعتباره متغيرا من المتغيرات يقرأ كل عصر فيها نفسه!!

      لا أريد أن أثقل على القارئ الكريم بتفاصيل ومظاهر هذه الظاهرة العجيبة، لكن الذي أحببت الإشارة إليه أن هذه الدعوة التي يعتبرها أصحابها جديدة وحديثة قد سبق وأن سجلها تاريخ الفكر البشري، سواء في العالم الغربي أو العالم الإسلامي.

      فقد دعا مارتن لوثر إلى الحرية في “قراءة” الإنجيل، إيمانا منه بأن الكتاب المقدس يتميز بتعدد معانيه، وهذا ما أدى إلى نشوء نظرية الاستقلال الدلالي للنصوص التي وجدت ضالتها المعرفية في النص اللغوي.

      ومعلوم أن البروتستانتية نشأت كحركة إصلاحية دينية لمواجهة طغيان البابوية وأسلوبها الغفراني الذي يستخف بعقول الناس وعقيدتهم، ثم ما لبثت أن تطورت لتفتح الباب مشرعا أمام كل فرد “لقراءة” الكتاب المقدس وتأويله وتفسيره بحرية كاملة، معلنة بذلك موت الوساطة الكهنوتية التي كانت تدعي الحق الخالص في بيان وفهم أسرار النص الديني.

      أما تاريخ الفكر الإسلامي فحافل أيضا بالدعوات إلى قراءة النص الديني “قراءة” جديدة، بل ظهرت بإزاء هذه الدعوة مدارس تأسست لخدمة ما عرف بقضية التأويل التي تفننت فيها بعض الفرق الكلامية وطبقة من الفلاسفة.

      وأنا هنا لا أتحدث عن التأويل الموضوعي للنصوص، فهذا النوع مارسته جميع المدارس بدون استثناء، بما في ذلك مدرسة الحنابلة التي كانت تنكر وجود المجاز في القرآن والسنة واللغة، ولكني أتحدث عن التأويل الذي أساء إلى التصور الإسلامي جملة وتفصيلا، شأن ذلك ما قام به الفارابي في فصوصه، وابن سينا في إشاراته، والباطنية في مخاريقهم، وغلاة الصوفية في رموزهم، والفرق الكلامية الأخرى في فساد تأويلهم.

      إن قضية “القراءة الجديدة” للنص الديني سواء في سياق المدرسة الغربية أو المدرسة الإسلامية هي في حد ذاتها محاولة فاشلة للبحث عن الإله الإغريقي “هرمس”، ذلكم الإله الوسيط المتخصص في فهم وترجمة كلام الآلهة ونقلها لمن دونهم من البشر في محاولة معرفية لرأب الصدع بين الذات المتكلمة والذات المستقبلة، وهذه العملية هي ما اصطلح عليه فيما بعد “بفهم الفهم”، أو بالهرمنيوطيقا (herméneutique)، والتي هي أدعى للممارسة المنهجية في النص اللغوي البشري أكثر منه في النص الديني.

      وما يبعث على الدهشة والغرابة هو أن جل الداعين إلى “القراءة الجديدة” للقرآن الكريم في عالمنا الإسلامي ليسوا من أهل الاختصاص في القرآن وعلومه، فقد تأثروا بأصول نظرية تأويل النص الديني واللغوي كما هو عليه الحال في الفكر الغربي، ثم حاولوا “قراءة” القرآن الكريم على ضوئها، شأنهم في ذلك شأن عميان ابن المقفع الذين تلمسوا أطراف الفيل، “فقرأه” كل واحد منهم بما وقعت عليه يده ظنا منه أن هذه هي حقيقة هذا المخلوق العجيب!!.. ورحم الله الحافظ ابن حجر الذي قال: من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب !

      إن القرآن الكريم هو كلام الله المنزل لهداية البشرية جمعاء، ولبيان معانيه وتفسير آياته وقراءة مضامينه يحتاج العقل البشري لرصيد معرفي متين ورصين، تعب علماء التفسير ـ وما يزالون ـ في رسم ضوابطه وتحديد معالمه لقرون عدة. فما أحوجنا لتجديد وإحياء قراءة كتاب الله بمنهجية علمية تتوافق ومقاصد الشريعة الإسلامية الغراء في فهم نصوص الوحي، لا بقراءة منفلتة انفلات مناهج أصحابها من كل الضوابط العلمية، غايتها قتل النص الديني بتأويلات غير موضوعية، أقل ما توصف به أنها ذات طابع ساذج حين وقعت في وهم التماثل والتساوي بين نصوص الحق وفصوص الخلق!

      فلا يتعبنّ أحد من “القراء الجدد” نفسه في هذه المحاولة القرائية الفاشلة منهجا ومعرفة، وإلا سيكون حاله كحال من قال فيه الشاعر:

               كناطح صخرة يوما ليفلقها     فلم يضرها وأوهى قرنه الوعلُ

أرسل تعليق