Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

الشباب لا يعيش في المطلق

الشباب لا يعيش في المطلق

إنه لا سبيل لاكتشاف ثقافة العالم وخباياه بدون شباب، للمساهمة في بناء الحضارة، والشباب هو الذي يترجم خفقات قلب العصر وومضات فكره، ومن ثم الدخول إلى المعترك العالمي بإنسان متميز معترف به، والأمة التي لم تتحصن بشبابها لن تحقق لنفسها في المستقبل حماية تكسبها ثقافة عالمية تمكنها من دخول معترك الحياة الإنسانية وقد اكتملت لها كل مقومات النهضة.

والأمة بدون شباب متشبع بتعاليم الإسلام الإنسانية لا يبني حضارة؛ لأن الحضارة الحقيقية تنبع من مهج الشباب، وتصب في نفس الإنسان، لينطلق يغني أنشودة الوجود لتخليص العالم من حضارة ناهشة انحدرت بالبشرية إلى هذا المرض العضال الذي يجثم شبحه الرهيب.. فشبابنا لا يعيش في المطلق بل في واقع عيني، لا يتأتى له الإفلات من قبضته، فهو يتفاعل في كل ما يحيط به، ووجوده لا يجعله يكتفي بذاته، فهو ابن العصر الذي يعيش فيه، مقدود على قده ينضج بمعانيه وحقائقه، متفاعل معه، متأثر به ومؤثر فيه، والفروق بين الأفراد والجماعات آخذة في الضعف شيئا فشيئا شئنا أم أبينا.

ولا يكون هناك شباب إلا إذا كان له دور يعيد للإنسانية ما فقدته من إنسانيتها، بعدما نهشتها الحضارة المادية وبدأت تنحدر بها إلى نهايتها، وإنسان اليوم بينه وبين أخيه الإنسان ألف حجاب وحجاب، والشباب هو الأمل ليخلق بعبقريته الفذة، الحياة بوثبة رائعة، مساهمة منه في زحزحة هذه الحواجز، ليسافر الناس بسرعة الصوت ويتفاهمون فيه بسرعة الضوء، فما يعد اليوم حقيقة قتلت حقيقة الأمس، وحقائق الغد تجعل مما يسمى اليوم حقيقة إلا إسما ورسما.

والشباب المشغول بصوت الماضي لا يستطيع مخاطبة المستقبل، ولكن الشباب هو من يفهم أسرار الحياة ويندفع إلى الأمام؛ لأنه أعمق أسرار الحياة، والذي يعلم أن فعل الخير لإرضاء نفسه لا يستحق مجد الحياة ومديح الناس وإشادة وتنويه التاريخ.

وبعد هذا الضياع الطويل في متاهات مبادئ ونظم ونظريات عقيمة، لغتنا وطعامنا وأساليب عيشنا، ووسائل تعليمنا، وحتى أخلاقنا كلنا تجتاز الآن مرارة العجز، وشباب في انتظار اللحظة التي يتم فيها تطوره، ليخرج من الشرنقة فراشة منطلقة تحلق في فضاء الحياة الواسع.

وأخلاق الشباب بمعناها المتعارف، التعفف عن الكذب والتدليس وبيع الضمير، وبيع القلم والنفاق والزيغ عن الحقيقة بالمسخ والتشويه، وكل أمة حينما تتفنن ليفقد شبابها هذه الأخلاق يفتقد الوسيلة إلى أداء رسالته، ويصبح أداة هدم عوض أن يكون أداة بناء، والأمة التي لا تعطي للأخلاق قداستها عند الشباب فإنها تهدم نفسها من حيث تشعر أو لا تشعر.

ومع هذا كله وعلى الرغم منه؛ فإن شباب الإسلام مدعو اليوم قبل الغد، أن يواجه هذه الرتابة الكاسحة، بكامل العقل ومنتهى التعقل، والشباب كمعالم الطريق في تاريخ الإنسانية، إنهم من أفذاذ الإنسانية المفكرة الذين يستطيعون أن يخلقوا في الحياة الإنسانية داخل بلادهم وخارجها أثرا سيبقى عند أهل عصرهم، وعند الخلف من بعدهم، وفي مستطاع الشباب اليوم أن يفكر وأن يعمل بعقله المدرك العارف، أن الأشياء في ذاتها ليست زمانية ولا مكانية، ولكن العقل الإنساني المتحرر هو الذي له القدرة على اكتناه أسرار الوجود، إذا صاحبت ذلك الإرادة الخيرة، والإنسان بطبعه مدني، لا يطيق حياة العزلة عن ألآخر.

والشباب يجب أن يخرج من بداوته، مسترشدا بأحكام الحق والشرع والعقل، لتكون حياة الناس بمأمن عن كل خطر، وليس العالم شعب واحد، ولكنه مجموعة من الشعوب والأمم، ويحتاج إلى شباب يحمل مشروعا للسلام الدائم بين الإنسان وأخيه الإنسان، ليكون كل إنسان محترما في كل قطر من أقطار الدنيا، وحين يلقن الشباب الصاعد الأجيال الآتية كيف تتجنب الانحرافات والافتئات على الكرامة الإنسانية، ويكون هناك عقل شبابي يوجه نداء من ضميره الأخلاقي إلى الإنسانية جمعاء، يتسم بالخصب والعمق والانسجام.

والشباب هو تلك الشخصية البسيطة التي إذا ما قيست إلى القادة والعظماء بمقاييس العظمة الإنسانية، وهي جزء من الشعب تشكل واقعه ومستقبله، يضرب في الأرض باحثا عن مستقبل أفضل له ولغيره، غايته الهدى والعزة والخير، والشباب هو ذلك الذي يقول: من حق كل واحد من الناس أن يعيش إنسانا بكل ما تعنيه هذه الكلمة، من كرامة وتحرر، ورضي الله عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري الذي قال لأحد الشباب: “إن الله فضلك فجعلك إنسانا فلا تجعل من نفسك بهيمة ولا سبعا”.

ومستقبل الإنسانية مرهون بشباب يحدوه العمل وخشية الانزواء إلى النهوض بعمل مجيد واستئناف عهد جديد، والإسهام في الإضافة  إلى المعرفة البشرية في كل مجال وميدان، إنه علم من سدنة العلم، وقائد من قادة الإنسانية، يعمل لخيرها ورفاهيتها، يبشر بمجد الحضارة الإنسانية الزاهرة يدرس إمكانيات البلاد واحتياجاتها، ومن الخير للأمة في هذا المقام ليقوم الشباب خير قيام بما أنيط به، ولكي توتي جهوده خير ثمارها، ينبغي أن تكفل الدولة لعلمائها الشباب من الضمانات والكفالات ما يحقق لهم طيب العيش، حتى يتفرغوا إلى ما هم بسبيله من أبحاث للكشف عن المجهول، والإضافة إلى المعرفة الإنسانية، والشاب إنسان وحبنا له ينبع من حبنا للقيم التي يؤمن بها، حتى يكون إنسانا قادرا على المساهمة في بناء حضاري متميز.

إني أحمل الأسرة والمدرسة والمجتمع كل ما نحن فيه من تخلف فكري، وتأخر ثقافي وانحطاط اجتماعي، لكني أعرف السبب الأكبر من تأخر نا وتدهورنا الفكري، هي تلك التلال المتراكمة على أكتاف الشباب من تقاليد بالية ومعتقدات رثة بعيدة عن كنه الإسلام، والتسليم المذعن الذي أدى إلى شلل العقل وتوقف التفكير، والإسراف في التعصب للرأي الواحد سلبا وإيجابا، وسيبقى وضعنا ذلك حاله حتى يبلغ الشباب رشده، بمستوى أرقى من الثقافة العامة، ويقيض الله له رجالا مخلصين يتيح لهم ذلك المستوى الثقافي وتسمح لهم ظروف زمانهم على أن يطلقوا ما في عقولهم ويحرروا أقلامهم، ويمجدوا الكلمة المتحررة ويطبعوا الحرف غير المقيد.

وخير الشباب من تكمن بين جنبيه، دون أن يدري يقظة الحياة، ونزعة التطور، مترقبة ساعة الانطلاق، وفرصة التحرر، وإن فات الأوان وحان اليأس، والأيام تمر وعجلتها تلف من يحيا فيها خاضعا للظروف والملابسات في ركود ورتوب وهو خير من يقهر الحياة وإن عضه الألم ويمضي يخط مصيره حرا، وينشئ مجدا في أناة يحيل الظلام بشعاعات الفلق، ويلوح للإنسانية في الأفق منه نورا يعلو المنار.

والله المستعان

أرسل تعليق