Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

التصالح مع الذات أولا

      قد تبين مما سبق ضرورة استعادة الأمة لوعيها الذاتي، اعتبارا بأن ذلك يضعها موضع التناغم مع نفسها واختياراتها وتطلعاتها. والجماعة كالفرد لا تستطيع أن تبادر إلى مشروع ما دون أن تعرف ذاتها، وتحدد مكان وجودها، وخارطة أدوارها المستقبلية؛ بمعنى لا مناص لها أن تتسلح قبل كل شيء بوعي ذاتي يكفل لها معرفة حدودها وإمكاناتها وخصائصها وأهدافها ووسائلها وما تريد أن تكون عليه.

      وقلت: إن هذا الوعي أرقى مراتب الوعي؛ لأن ثمرته محاولة فهم القاعدة الروحية والفكرية والحضارية التي ينبني عليها الوعي المجتمعي في البلاد الإسلامية، وفائدته كذلك تحصيل الوعي الصحيح بالعالم، وبناء علاقات سليمة ومتوازنة مع الغير، إذ الوعي بالذات شرط الوعي بالعالم؛ لأنه يمنح الأمة الشعور بالاستقلال والتميز عن الآخرين؛ فتفهم جيدا خططهم وبرامجهم، وهو الذي سيحدو بها إلى استكمال ترتيب “البيت الداخلي” اعتمادا على النفس، واستنادا إلى  القيم الملهمة التي تؤمن بها.

      يبدو، أن هذا هو السبيل الضامن لتجديد فعالية الأمة بهيأتها ومؤسساتها وأفرادها، وانخراطها في النظام العالمي بوصفها محورا حضاريا مستقلا، وشريكا له وزنه وشأنه واعتباره في اتخاذ القرار.

      إن تحرير هذه الخطوة بداية كل وعي، ومبدأ كل ممارسة. وبناء عليه، أتصور أن أزمة الواقع الإسلامي لا ترجع في الحقيقة إلى أزمة برامج، أو مؤسسات، أو إمكانات… بقدر ما ترجع إلى أزمة منهج يستثير الوعي الجمعي، والإرادة الجمعية.

      وليس هذا المنهاج سوى الإسلام الذي بهتت روحه وقيمه وآثاره في حياتنا العامة والخاصة، ومن ثم لا يصح اعتبار الدعوة إلى استلهامه هروبا إلى الوراء، أو هروبا من مواجهة الواقع، أو نزعة إلى إقامة “دولة كهنوتية دينية”، أو عجزا عن رؤية متغيرات الزمان، ومستجدات التطور. بل على العكس؛ إنه السبيل لاسترداد الوعي الغائب والمنشق، والوقوف على الأرض التي مر منها التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي للأمة، واستدعاء الخبرة التي تسمح لنا برؤية الأشياء والمتغيرات رؤية منهجية وموضوعية، ودراسة وتقويم التجارب التاريخية التي جابهتها الأمة على مدى قرنين.

      وهذا يستدعي كذلك أن نعيد النظر بطبيعة الصراع الدولي القائم اليوم، وتحديد مجموع القوى الفاعلة فيه، وتحديد مناطاته وطرائقه ورهاناته، وأن نعيد تقييم الذات بمراجعة قدراتها وتوازناتها الداخلية واستراتيجياتها الخارجية على أساس استيعاب قوانين القوة والضعف، وعوامل الحركة والجمود، وأسباب الوحدة والتفسخ.

      ولنا أن نستنتج مما سبق أن سؤال المرجعية يرمي إلى مناقشة الأسس المعيارية والمنهجية التي قامت عليها التجارب السابقة لإنجاز مشروعها النهضوي، وتقويم حصائد التجارب من حيث المكاسب والنقائص، وإعادة بناء الفعل التاريخي الجديد على أساس الوعي الكلي والمنهجي الذي سبق أن تحدثنا عنه؛ والذي من أركانه أو شروطه: أولوية تحديد الأرض التي نقف عليها، ومراجعة بناء القوى الاجتماعية، والاستجابة لأشواقها إلى مجتمع الحرية والشورى والعدل، وضمان إجماعها وتحالفها من أجل تحقيق حالة من التيار المجتمعي الذي يضع جماهير الأمة موضع الإيمان باختياراتها والتناغم مع ذاتها وإرادتها من جهة، وموضع المشاركة الإيجابية الشاملة التي تمكنها من فرص تطوير مهاراتها التقنية والإنتاجية من جهة أخرى.

      إن ثمة إجماعا يكاد ينعقد على أن حصاد القرن الماضي كان ضحلا هزيلا جدا في المناشط  الضرورية من الحياة؛ فلم يحصل أي تراكم جدي ونوعي في ميدان الخبرة العلمية الصناعية والتقنية، ولا في ميدان البحث العلمي التطبيقي، ولا في ميدان تأسيس البنية الاقتصادية التحتية، ولا في بناء الدولة الحديثة المعبرة عن إرادة الأمة ونمطها المستقل، ولا في حفظ كرامة الإنسان واحترام حقوقه الأصلية، ولا في مجال تعديل نظام القيم والسلوك بما يتناسب والطموحات الحضارية والتنموية للمجتمع.. ولا في أقل من ذلك وأيسره من الضرورات والحاجات التي لا معدى لحياة الإنسان اليومية عنها بحال…

      إنها رحلة من التخبط استغرقت قرابة قرن لم تخرج منها الشعوب المسلمة حتى ببلغتها الضرورية من الماء والغداء والمعرفة؛ ذلك لأن الصيغ في معالجة مشكلات هذه الشعوب واقتراح الحلول لها كانت تتم عادة خارج الأرض التي تقف عليها، بالانحياز إلى هذا التيار أو ذاك من تيارات الغرب أو الشرق. وهذا يعني دون القصد إلى ذلك الاصطدام مع مدنية الأمة وقيمها وتطلعاتها. ومن بدائه العقول والتجربة والتاريخ أن مقومات هذه الشعوب وبنيتها الحضارية ونمطها المعيشي وشاكلتها الروحية والنفسية والثقافية، كل ذلك نبت على أساس الإسلام وانبثق من سنا حركته الأولى.

      لكن للأسف، تأبى الاتجاهات التقليدية إلا أن تتعامى عن هذا القانون، وظلت تعاني حتى اليوم فقدان اللغة المشتركة، والمبادئ المقبولة، والمراجع المعيارية والمدنية.

      ختاما؛ أريد أن أخلص إلى أن تحرير الجواب الواضح عن سؤال “على أي أرض نقف؟” مرحلة إستراتيجية ضرورية؛ لا يستطيع أي تيار من دون حسمها مواجهة تحديات التنمية الاقتصادية والسياسية والتربوية والمجتمعية في العالم الإسلامي.

      إن تحديد الأرض التي نقف عليها يعني ضمان إجماع سواد الأمة على البذل والاجتهاد للخط الذي آمنت به واختارته. ففي المعادلة ثلاث قضايا مركبة تشكل في الأصل شرائط النهوض والإصلاح:

      1-  الحرية= الاختيار= التجانس؛

      2-  الإجماع = الاتفاق= الوحدة؛

      3-  الاجتهاد = الفعالية = الإنتاج.

      إن استثمار هذه القوى الثلاث هو قاعدة الانطلاق لمواجهة مشاغل المرحلة الثانية، مرحلة اقتراح الحلول الملائمة، وتفتيق النظم العملية لاحتواء معضلات الانحطاط التاريخي المعاصر، مما سيحتم على هذا الخط الاجتهادي المستقل بذل أقصى المجهود لاستيعاب مفردات الواقع ونوازله، والارتفاع إلى أعلى مستويات الدقة والكفاءة والاستقامة في صياغة البدائل، وتدبير السياسات، وضبط النسب والأولويات.

      فلا شك أن هناك حاجة ملحة إلى رؤى واضحة في التعامل مع قضية أرض الأقصى وما في حكمها من الأراضي المحتلة، وكيفية تحرير القرار السياسي الإسلامي العربي بعيدا عن الضغوط والأهواء، وكيفية إنجاز مشروع التحديث والخلاص من نير التبعية المقيمة، وكيفية بناء مؤسسات الحق والشورى والعدل، وكيفية احتواء تداعيات التجزئة والانقسامات القطرية والإقليمية، وكيفية إرساء مؤسسات المجتمع المدني المتجانس مع ذاته؛ الذي يوازن العلاقة بين الأمة والدولة، ويستوعب التقنيات المعرفية والحضارية والإنتاجية.

      إنه لا سبيل للخروج من هذا النفق سوى بترتيب خطة استراتيجية واضحة تحدد من خلالها الإجابة على الأسئلة والتحديات المذكورة، أما الوقوف عند حدود الهذر بالكلمات، والاشتغال بنوافل الأعمال، ودغدغة مشاعر المجتمع بأماني “الحقوق” مع انغماس الجميع في علاقات “التقليد الحضاري” واستيراد الأشياء والبضائع.. فتلك مراوحة هزلية فارغة، لن تشفي لنا داء، ولن تقيم لنا أودا؛ لأنها تتم على هامش التاريخ الفعلي للأمة؛ وتفتقد النسبة الشرعية إلى السياق والمنهج والجماعة.

التعليقات

  1. ابو زياد

    السلام عليكم أيها القراء الأفاضل

    لازلنا على دروب الرقي بالنفس والذات مع أستاذنا الفاضل نرتقي معه بهذه المعارض الاصلاحية التي ما فتئ يمدنا بها تباعا نستبشر منها خيرا و نقيس بها درجة التدرج في الرقي بالنفس سواء فرادى و جماعات والكاتب اذ تطرق لموضوع التصالح انما يعلم انه لبنة اساس لارساء الذات تقويمها و ترميمها من باب الاصلاح و التعهد و المساهمة بنوع من الحكمة والحكامة الرشيدة في مسلسل الاصلاح بشكل عام ….
    فلو أسس كل منا علاقته مع ذاته على التصالح معها لكانت نتيجة هذا التصالح ذات اشعاع ومنفعة ذاتية اولا ومجتمعية افقية ثانيا والله والموفق وجزى الله عنا اهل العلم خير الجزاء والسلام

  2. جميلة المغربية

    السلام عليكم
    مقال في غاية النفاسة، يستحق وقفة تأملية ليدرك عمقه وكنهه، لذلك أرجو من فضيلتكم السير في هذه الوجهة خطوة خطوة لإتمام السير، ولبنة لبنة لتشييد البناء، وشكر جميل في الأولين والآخرين.

أرسل تعليق