Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

إثبات النظر في فضل التفكر على التذكر

“أنا أفكر إذن أنا من الذاكرين”.. هذا “الكوجيطو” الإيماني العجيب يمكن أن يعيد شيئا من التوازن للعلاقة بين الفكر والذكر في التصور الإسلامي.

وهكذا فالناظر في التعاريف الاصطلاحية لمفهوم “الفكر” يلاحظ مدى تشعبها وتنوعها واختلاف بعضها عن بعض.

ولعل من أوائل العلماء الذين تحدثوا عن “الفكر” الإمام الغزالي رحمه الله، الذي أكد بعد استعراضه لمجموعة من النصوص ـ من الكتاب والسنة وغيرهما ـ التي ورد فيها ذكر”الفكر”  و”التفكر”  و”التفكير ” على أن معنى الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة. ومثاله أن من مال إلى العاجلة وآثر الحياة الدنيا، وأراد أن يعرف أن الآخرة أولى بالاعتبار من العاجلة فله طريقان:

•    أحدهما أن يسمع من غيره أن الآخرة أولى من الدنيا فيقلده ويصدقه من غير بصيرة بحقيقة الأمر، فيميل بعمله إلى إيثار الآخرة اعتمادا على مجرد قوله، وهذا يسمى تقليدا ولا يسمى معرفة.

•     والطريق الثاني أن يعرف أن الأبقى أولى بالإيثار، ثم يعرف أن الآخرة أبقى، فيحصل له من هاتين المعرفتين معرفة ثالثة، وهو أن الآخرة أولى بالإيثار، ولا يمكن تحقق المعرفة بأن الآخرة أولى بالإيثار إلا بالمعرفتين السابقتين[1].

ومن العلماء الذين عرفوا “الفكر” أيضا العلامة ابن خلدون، الذي بين كيف أن الله سبحانه وتعالى ميز البشر عن سائر الحيوانات بالفكر، الذي جعله مبدأ كماله ونهاية فضله على الكائنات وشرفه.. ثم أورد الآية الكريمة:

“وجعل لكم السمع والاَبصار والاَفئدة” [سورة النحل، الآية: 78 ]، وفسر مصطلح الأفئدة ـ جمع فؤاد ـ بالفكر، وهو على مراتب:

** الأولى: تعقل الأمور المرتبة في الخارج ترتيبا طبيعيا أو وضعيا ليقصد إيقاعها بقدرته. وهذا الفكر أكثره تصورات. وهو العقل التمييزي الذي يحصل منافعه ومعاشه ويدفع مضاره.

** الثانية: الفكر الذي يفيد الآراء والآداب في معاملة أبناء جنسه وسياستهم، وأكثرها تصديقات تحصل بالتجربة شيئا فشيئا إلى أن تتم الفائدة منها. وهذا هو المسمى بالعقل التجريبي.

** الثالثة: الفكر الذي يفيد العلم أو الظن بمطلوب وراء الحس لا يتعلق به عمل. فهذا هو العقل النظري. وهو تصورات وتصديقات تنتظم انتظاما خاصا على شروط خاصة، فتفيد معلوما آخر من جنسها في التصور والتصديق، ثم ينتظم مع غيره فيفيد علوما أخرى كذلك. وغاية إفادته تصور الوجود على ما هو عليه بأجناسه وفصوله وأسبابه وعلله، فيكمل الفكر بذلك في حقيقته، ويصير عقلا محضا ونفسا مدركة، وهو معنى الحقيقة الإنسانية[2].

وإن القارئ لتاريخ الإسلام يلاحظ اهتمام علماء السلف الأولين بمفهوم “الفكر”  أو”التفكر”، فذكروا فوائده، وحثوا الناس عليه، وجعلوه قرينا بأهل العلم، مصاحبا لأهل الذكر، حتى قال الحسن البصري رحمه الله: (ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة) [3].

وقال الإمام ابن قيم الجوزية بعد أن عد فوائد الفكر: (.. فالفكر إذن هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها، وهذا يكشفك عن فضل التفكر وشرفه، وأنه من أفضل أعمال القلب وأنفعها له، حتى قيل تفكر  ساعة  خير  من عبادة سنة ) [4].

وإذا كان الإمام ابن قيم الجوزية قد ربط الفكر بالقلب لاعتبارات إيمانية، فإن الإمام الغزالي وسع الدائرة قليلا فجعل العلم تابعا للفكر، بل الفكر خير من الذكر، فقال: (وأما ثمرة الفكر فهي العلم والأحوال والأعمال. ولكن ثمرته الخاصة: العلم لا غير. نعم إذا حصل العلم في القلب تغير حال القلب، وإذا تغير حال القلب تغيرت أحوال الجوارح. فالعمل تابع الحال، والحال تابع العلــم، والعلم تابع الفكر. فالفكر هو إذن المبدأ والمفتاح للخيرات كلها، وهو الذي يكشف لك فضيلة التفكر، وأنه خير من الذكر والتذكـــر؛ لأن الفكر ذكــر وزيادة ) [5].

————

1.إحياء علوم الدين:  4/ 425 ـ 426.

2.المقدمة، الباب السادس:  3/1008 ـ 1010.

3.مفتاح دار السعادة ، ابن قيم الجوزية:  1/183.

4. المرجع السابق:  1/183.

5.إحياء علوم الدين: 4/426.

أرسل تعليق