Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

وقفة مع ماهية الفكر

تبين التعاريف الواردة بالمعاجم العربية أن التفكير عملية ترتيب وتنظيم لمعارف معلومة بقصد التوصل إلى معارف جديدة ومعلومات أخرى مجهولة. كما في التعريفات للجرجاني”الفكر: ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول”  وجاء في القاموس الفرنسي le Petit Larousse بأن الفكر هو “القدرة على المقارنة والربط بين المعلومات”.

وللفكر صلة وطيدة بالإرادة التي يتحرك في اتجاهها،  حيث يتأثر بطبيعتها إلى أبعد الحدود، وفي هذا الصدد “يقال ليس لي في هذا الأمر فِكْرٌ، أي ليس لي فيه حاجة”   وعرف الفكر بأنه “إِعمال الخاطر في الشيء”   و الخاطر عند الجرجاني هو:” ما يرد على القلب من الخطاب، أو الوارد الذي لا عمل للعبد فيه”   فالفكر يكون برغبة وقصد كما ينشأ انطلاقا من حركة الخاطر اللا إرادية، وهذان الأصلان للفكر ذكرهما الفيروز أبادي في القاموس المحيط ” وخالَجَ قَلْبِي أَمْرٌ نازَعَنِي فيه فِكْرٌ” ثم عرف الفكر فقال: “الفِكْرُ، بالكسر ويُفْتَحُ: إِعمالُ النَّظَرِ في الشيءِ.”

ويرتبط الفكر بالخاطر عند ابن قيم الجوزية في كتاب الفوائد وهو يقول:” دافع الخطرة فإن لم تفعل صارت فكرة فدافع الفكرة فإن لم تفعل صارت شهوة فحاربها فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة فإن لم تدافعها صارت فعلا فإن لم تتداركه بضده صار عادة فيصعب عليك الانتقال عنها”.

ويحتاج الفكر إلى طول نظر وتأمل وتقليب الأمر على جميع وجوهه باعتباره بناء متراصا يشد بعضه بعضا،  بل يبني منه الإنسان ويهدم ويعيد البناء من جديد،  حتى يغلب على ظنه أن بناء الفكرة أصبح كاملا متماسكا، فعند الإمام الغزالي في الإحياء “ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق ولذلك قيل ” العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك،  فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر ” والفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدول تفرق ماؤه فنشفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه،  فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ المزدرع”.

ويرتبط التفكير بمواجهة تحدي مشكل أو إشكال ومعاناة البحث له عن حل أو مخرج، وقد اتجهت بعض تعاريف التفكير كما في (المعجم الوسيط) إلى كونه “إعمال العقل في مشكلة للتوصل إلى حلها”. وأورد الدكتور صلاح الدين عرفة محمود في كتابه: “التفكير بلا حدود” وهو يعرف ماهية التفكير مجموعة من التعاريف التي تربط التفكير بحل مشكلة منها بأن التفكير  هو:”ذلك النشاط الذي يبذله الفرد ليحل به المشكلة التي تعترضه مهما كانت طبيعة هذا النشاط سواء تطلب تفكيرا أكثر أو أقل حسبما يكون الموقف”  .

والتفكير من أخص خصائص الآدميين،  المكلفين بمقتضى تحملهم لأمانة الاستخلاف،  بأن يقرروا مصيرهم في الحياة الدنيا بحسب ما تبلغه عقولهم وتتوصل إليه أفكارهم، ثم يبنوا مناهجهم الفكرية ويحددوا مواقفهم من مضمون الوحي المنزل على امتداد الزمان والمكان،  ويتحملوا مسؤوليتهم كاملة فيما يثبتون وما ينفون،  وما يقدمون وما يؤخرون، وما يؤلفون من معارف وعلوم وثقافات، وما يبلورون من أحكام وتصورات وتصرفات، وكل ما يصنعون بفكرهم في أمور معاشهم ومعادهم.

وفي هذا السياق تدرك خصائص الفكر المذكورة سابقا، وغيرها مما ستتم الإشارة إلى بعضه فيما بعد، والتي ستجلي لنا أهمية البعد التكليفي في فهم وظائف الفكر المتعددة،  والتي تتضافر كلها لتمكين الإنسان من الاضطلاع بالمسؤولية الاستخلافية.

فالفكر يشتغل في القيام بمهام وظيفية كثيرة تتخذ أشكالا ومسميات مختلفة مثل:العلم والتعلم، العقل والتعقل، الاعتقاد، التأمل، التذكر، التدبر، التصور، الاتعاظ ، الاعتبار، الوعي، التيقظ..
وسنقف مع كل واحدة من هذه المهام في الحلقات القادمة بحول الله لبيان علاقتها بمسؤولية الإنسان في أبعادها المختلفة.

والفكر لا يشتغل فقط في دائرة هذه الوظائف وحدها وما تشمله من عمليات مرتبطة بها، وإنما يستمر الجهد الفكري ما وجد الوعي ولا يتوقف إلا حال الصغر أو النوم أو الإغماء وزوال العقل، كما بين ذلك حديث رسول الله (ص):” رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ” .
فما من عمل يقوم به الإنسان إلا ويخضع لتغطية فكرية،  قد ترقى لأعلى مستوى مستطاع ولا تنزل عن حد أدنى، مما يجعل المرء واعيا بفعله وتنقله بين مختلف أطوار إنجازه، ويمارس قدرا من مراقبة ذاته وما يجري حوله متفاعلا مع محيطه، وكل ذلك يجري تحت متابعة عقلية واعية.

فكل إنسان يمارس الفكر بطرق عديدة من حدوده البسيطة إلى مستوياته العليا،  التي يوظف فيها قدراته في أقصى إمكاناتها وأوسع مداها، وبحسب ما يعهد به إليه من مسؤوليات ويكون مؤهلا له من مهمات.

كما أن الطفل الصغير له تفكيره الذي يناسب المرحلة العمرية التي يجتازها، وبهذا التفكير ينشط في تعلم عشرات الأمور كل يوم بل كل ساعة وينمي فكره ويبني تصوراته عن نفسه وعمن حوله من الأشخاص والأشياء.

والناس يستوون في ممارسة التفكير فلا أحد يستغني عنه ما دامت ملكاته العقلية سليمة، لكن طرق التفكير ومناهجها تتباين بينهم تباينا شديدا، فتجاه الحدث الواحد أو الظاهرة المعينة تتعدد التفاسير والتحليلات وتتنوع المواقف وتتفاوت الأفهام إلى درجة التعارض التام.

وهذا مؤشر واضح على كون الفكر إنتاج ذاتي، يختلف من ذات إلى أخرىٍ، وإن اتحدت كل العوامل الوراثية والاجتماعية والبيئية، وبرهان ساطع على أنه مسؤولية شخصية، لا تقبل النيابة إلا في المسائل العامة التي يجوز تفويض البث فيها لمجالس لها صفة تمثيلية لمن انتخبوها، ومع ذلك فقد يكون للفرد رأي معارض لقراراتها واختياراتها.

 

أرسل تعليق