Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

وعي الذات في سياق التاريخ (3)

في الوقت الذي يتراءى لنا أن الموقف كان يستلزم بدهيا ضرورة التفكير في استراتيجية مكافئة ومتوازنة تأخذ بعين الاعتبار أولوية تأسيس القاعدة الحضارية الصلبة، وأولوية إعادة تقييم الذات بمراجعة إمكاناتها وسياساتها وتوازناتها الداخلية، وإعادة بناء القوى الاجتماعية وضمان فعاليتها وإجماعها، وضرورة استنفارها من أجل كسب شروط التقدم، وحملها على الإفادة من علوم التمدن الأوربي وصنائعه، مع الإدراك العميق لنتائجه وخطورته؛ لأن تيار التمدن الأوربي آنذاك كان قد “تدفق سيله في الأرض، فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع، فيخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار، إلا إذا حذوا حذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية، فيمكن نجاتهم من الغرق”[1].

قلت في الوقت الذي يتبدى لنا بدهية هذا الاختيار، نجد اتجاها عاما ميالا إلى هدم جسور التواصل، وتسييج النفس تارة بالجد في الدعاء على الأعداء، وتارة بالتباكي على الأمجاد، وتارة أخرى بالدعوة إلى العزلة والانكماش[2]، والحال أن التمدن الأوربي تدفق سيله على الأرض، لاسيما على المناطق المجاورة مثل المغرب، فلم يكن بد من أن تؤول أمورها إلى مصير “الغرق”!

وحسبنا أن نسوق هنا شاهدا على حالة “الغرق” والتصدع التي أصابت البناء المجتمعي المغربي ما ذكره المؤرخ “أحمد بن خالد الناصري” في آخر كتابه “الاستقصا” وهو يعلق على أسباب هذه الأحوال الجديدة وآثارها: “واعلم أن أحوال هذا الجيل الذي نحن فيه قد باينت أحوال الجيل الذي قبله غاية التباين، وانعكست عوائد الناس فيه غاية الانعكاس، وانقلبت أحوال التجارة وغيرها من الحرف في جميع تصرفاتهم، لا في سككهم ولا في أسعارهم ولا في سائر نفقاتهم، بحيث ضاقت وجوه الأسباب على الناس… حتى لو نظرنا في حال الجيل الذي قبلنا وحال جيلنا الذي نحن فيه وقايسنا بينهما لوجدناهما كالمتضادين…”[3].

كانت هذه العبارات آخر ارتسامات الرجل وتقريراته عن التطورات الجديدة التي صار إليها المغرب، وهي بقدر ما تصوّر مدى الغربة الفكرية التي كانت تستبد بالمثقف أمام الوضع الجديد، تمثل عندنا وثيقة مهمة في رصد مرحلة دقيقة وعميقة من تحولنا الثقافي والقيمي والمجتمعي.

ثمة ملاحظة أخرى أسجلها هنا تتعلق بالمحاولات التي تميزت بوعي عميق للتاريخ وحركته، وعبرت عن نوع من النزوع التجديدي في نظرها وعملها واستشرافها للمستقبل.

فقد حفظ التاريخ أن المغرب شهد ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر محاولات إصلاحية محلية أقدمت على إصلاح أركان الدولة، وتنظيم دواليب الإدارة والحكم، وتجديد نظام الجيش، وإقامة بعض الصناعات الحربية والمعامل العصرية، وإرسال بعثات طلابية إلى أوروبا، وأسهمت في تنشيط حركة العلوم والصنائع. غير أن هذه الإصلاحات والجهود لم تكن ذات أثر بين، ولم تسفر عن طائل مما كان يتوقع منها.

وإذا كان قد اختلف كثيرا في تفسير فشل هذه المحاولات وتلكؤها؛ فإنه لم يختلف بشأن حقيقة ثابتة وهي أن هذه المحاولات كانت تصدر عن تفكير مرتجل، وأنها لم يكن يعوزها الإخلاص والحماسة والبذل بقدر ما كانت بحاجة إلى النظر الشمولي التخطيطي، والرؤية العلمية الدقيقة في تقدير فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، وبعبارة أخرى كانت هذه المبادرات الإصلاحية تفتقد “البرنامج الواضح” الذي يمنحها منهجية التفكير، وسلامة التنفيذ، ويمكنها من معرفة إمكاناتها وحاجاتها، وتحدياتها وخصائصها، وأهدافها القريبة والبعيدة. لذلك ليس مستغربا أن تأتي هذه الإصلاحات جزئية وذات طابع تقني في الغالب؛ لأنها لم تكن ترجع –كما أسلفت- إلى تصور كلي منهجي؛ ولأن دافعها في الجملة كان هو المشابهة مع النموذج الغربي كيفما اتفق!؟

فعلى سبيل المثال فشلت حركة البعثات العلمية التي اتجهت للدراسة في أوروبا على عهد المولى الحسن الأول، ولم يظهر لها أي فائدة في النهوض بقطاعات الأمة، وإنجاز مشروعها النهضوي.

ولتوضيح ملابسات هذه المسألة جيدا، أترك أستاذنا العلامة محمد المنوني رحمه الله يتكلم بوثائقه ومصادره الخاصة عن سبب تلكؤ هذه الحركة، والظروف التي قضت عليها وعلى نظائرها من محاولات التجديد، إذ قال: “كان من المتوقع أن أعضاء هذه الإرساليات يقومون -بعد عودتهم للمغرب- بنشاط على نطاق واسع، ويضطلعون بمسؤوليات رئيسية، أو يؤسسون طليعة حركة سياسية…

وقد كان من بين الأسباب التي أدت بهذه النخبة إلى مصيرها المؤسف أن مشروع البعثات لم يكن يخضع إلى تصميم ثابت، وهذا ما يشير إليه الناصري (في زهر الأفنان) بمناسبة ذكر الطلبة الذين وجههم السلطان الحسن الأول إلى أوروبا، وهو يقول تعليقا على هذه البارقة: “إلا أن ذلك لم يظهر له كبير فائدة، إذ كان ذلك يحتاج إلى تقديم مقدمات، وتمهيد أصول، ينبني الخوض في تلك العلوم والعمل بها عليها.” يضاف لهذا: أن حاشية السلطان كانت لا تنظر بعين الارتياح إلى حركة البعثات، وهذا ما يسجله أحد طلبتها وهو الطاهر بن الحاج الأودي، فقد نصح الحكومة المغربية بالاستعداد لمواجهة التدخل الأجنبي، ولكن الوزراء والكتاب رموه بالإلحاد، ومرة أخرى قالوا للسلطان الحسن الأول: إن أعضاء البعثات بعدما أقاموا بأوربا سنين، عادوا منها جهالا متنصرين”[4].

إضافة إلى هذه الملاحظة، ثمة سبب آخر له قوته واعتباره في تقويم فشل سياسة الإصلاح بالمغرب، وهو أن جميع المحاولات كانت تتزعمها الحكومة منفردة دون إشراك القوى الاجتماعية الحية في البلاد، أي أن الإصلاحات كانت نخبوية إلى أبعد حد، بل ظلت أحيانا كثيرة لا تعدو قرار فرد واحد، ورأي نفر يسير من الناس!! وهذا ما يفسر لنا لماذا لقيت بعض رؤى التجديد مصير الإهمال، وبقيت حبرا على ورق!

فإذا، ما ميز المحاولات الإصلاحية لهذه المرحلة كونها لم تول-في خطتها ومراحل عملها-أي اعتبار للقوة الشعبية (العامة) التي كانت قادرة وقائمة على ساق البذل والاستعداد، لكن، للأسف، لم تجد هذه القوة الهائلة المذخورة من يطلق أشواقها، ويفجر طاقاتها، ويسلك بها مسالك التنظيم والفاعلية. ومعلوم، أن جميع تجارب التغيير التي بلغت شأوا بعيدا في العالم الحديث لم يأت نجاحها من فراغ، وإنما كان وراءها جمهور يغالب ويكادح، وصفوة واعية تصمم وتقود…

يتبع في العدد المقبل

—————————————————-

  1.  خير الدين التونسي “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” تونس، 1972، ص: 50.

  2.  من غريب هذه المواقف ما نجده عند صاحب “الرحلة الإبريزية” حين ختم وصف ما شاهده من المخترعات الحديثة (سكك حديدية، آلات بخارية.. الخ) فقال على سبيل الاعتبار والاستبصار(!): “العقل ذو قسمين: ظلماني ونوراني، فالظلماني به يدركون هذه الأشياء الظلمانية (!) ويزيدهم ذلك توغلا في كفرهم، والنوراني به يدرك المؤمن المسائل المعنوية” (ينظر الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية) لمحمد الطاهر بن عبد الرحمن الفهري، تحقيق وتقديم:  محمد الفاسي، فاس، ط1، 1967، ص: 28).

  3.  الاستقصا: 9/207-208.

  4.  محمد المنوني، مظاهر يقظة المغرب الحديث: 1/385. وللتوسع في دراسة فشل محاولات الإصلاح راجع:

    مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر، بيروت، 4969، ص: 57 وما بعدها.

    أحمد العماري: بحث “التغيير في إشكالية الإصلاح والتجديد بالمغرب خلال القرن 13هـ/19م”، الهدى، ع: 14،   يوليوز، 1986 .

    جرمان عياش، “إمكانيات الإصلاح وأسباب الفشل في المغرب” ندوة الإصلاح والمجتمع المغربي، منشورات كلية الآداب، الرباط، 1983، ص: 335.

أرسل تعليق