Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

وعي الذات في سياق التاريخ (2)

      عطفا على مقالي السابق، وتمثيلا ببعض الظواهر والدلائل التي تعبر-كما قلت- عن تأخر الوعي عن الواقع، أورد هنا ما تناقلته كثير من المصادر[1] من وصف حالة “اكتشاف الذات” لدى المجتمعات المغربية عقب الحملة الفرنسية على الجزائر عام [1246هـ / 1830م]؛ هذه الحملة التي خلفت في روع المناطق المجاورة ما يشبه الصاعقة، إذ أظهرت الدول الأوربية الغازية بمظهر بلاد ذات قوة ونظام، اكتسبت بفضل صناعاتها البخارية وسائل وآلات جديدة ومبتكرة.

      وذلك ما حصل بالمغرب خلال حدثين بارزين على سبيل المثال؛ كلاهما أثر في تفتيق الوعي الانتقادي للذات، وأسهم بشدة في زحزحة جملة من الأفكار والعادات والمعايير كانت إلى حين قريب منطلق المغاربة في النظر إلى أنفسهم وإلى العالم.

      وهذان الحدثان الكبيران هما:

      الأول: هزيمة الجيش المغربي أمام الجيش الفرنسي بوقعة إيسلي [1260هـ / 1844م] التي درس نتائجها، وجلى آثارها العلامة المحقق محمد المنوني رحمه الله بقوله: “… ظهر للملأ مدى الضعف والفوضى التي صار إليها الجيش المغربي في هذا العهد المظلم، بعدما كان الأوربيون لا يزالون ينظرون إليه نظرتهم يوم كان يحرر الشواطئ المغربية ويغالبهم فيغلبهم، حتى إذا كانت موقعة إيسلي انكشف المرض الذي نزل بهذا الجيش.. حتى إن قائد الجيش الفرنسي المارشال بيجو لما أشرف على الجيش المغربي من عل قال: “ليس هذا جندا، إنما هو غوغاء؛ من كثرة ما كان عليه من الفوضى والضعف”[2]؛

      الثاني: وقعة احتلال تطوان [1276هـ / 1860م] التي علق على أحداثها المؤرخ الناصري (تـ 1897م) في “الاستقصا” قائلا: “ووقعة تطاوين هذه هي التي أزالت حجاب الهيبة عن بلاد المغرب، واستطال النصارى بها، وانكسر المسلمون انكسارا لم يعهد لهم مثله”[3].

      لقد أظهرت هاتان النكبتان التفوق الباهر الذي حازه الغرب خلال ثلاثة قرون في المجالات العلمية والمدنية والعسكرية. وبالمقابل، أسفرتا عن تعرية فاضحة لواقع مغربي بئيس، توالت عليه عهود الانحطاط، وفترات الأفول. كانت هذه الصورة المتباينة المعبرة عن مفارقات واسعة بين الفريقين تستثير إحساس أهل الرأي بمدى الضعف الذي آلت إليه بلادهم.

       وكان هذا الإحساس بالصحو واليقظة أشد ما يهجس في نفوس الرحل من العلماء والتجار، لاسيما من الذين قيض لهم أن يسيحوا في الأرض، ويشاهدوا أحوال البلاد الأوربية المجاورة، أو من الذين قيض لهم أن يختلطوا بالأجانب في المراسي والثغور من حجاج وسفراء.

      ولنا أن نرجع هنا إلى ما قيدته بعض الرحلات لنلحظ مدى احتفال أصحابها بما شاهدوه من وقائع وعجائب، وكأنهم أهل الكهف حين خرجوا يتحسسون العالم الأرضي مرة ثانية! فتجد بعضهم يرصد في تقاييده الأنظمة العسكرية الحديثة، ويقف طويلا عند وصف البواخر والقطارات ووسائل التلغراف. وطائفة أخرى تتابع مشدوهة عجائب الإبداع التقني والنظامي، فيقف مثلا “الكردودي” (تـ 1318هـ) عند ميزان الطقس، وينوه بالنظام النيابي في أوربا وتركيا، ويصف “الصفار” التطواني في رحلته نظام الطباعة والصحافة بفرنسا، ويتحدث عن زيارته للبرلمان وعن طريقة تدبيره.

      ويختم أحدهم رحلته متحسرا بعد ذكر ما وقع له في طريقه إلى الحج (عام 1274هـ/1858م) وما شاهده من البواخر، وأسلاك التلغراف، والمطابع، وقضبان السكك… قائلا: “وحاصل الأمر أن النصارى لعن الله دينهم تقووا على المسلمين، وعلت كلمة الكفر بالثغور، وذلت كلمة الإسلام في كل الأمور”[4].

      ويعبر مؤرخ المغرب الشيخ أحمد الناصري (تـ1897م) عن موقف مغاير، إذ يضمن مؤلفه الشهير “الاستقصا” انتقادات لاذعة لطريقة تدبير الأمور في بلاده، وهو وإن كان أحيانا يلاطف بخطابه جناب الحكومة؛ فإنه لا يعسر على اللبيب استشفاف مذهبه ونظره في كثير من المسائل والأحداث. وانتقادات الناصري إن كانت تدل على شيء، فهي تدل على الأسى والمعاناة التي كان يجدها المفكر في نفسه من جراء الفراغ الهائل الذي لا يكاد يفارق السياق التاريخي للأمة، ومن جراء الإحساس بتأخر الوعي المحلي عن اكتشاف نفسه، واكتشاف تطورات العالم من حوله. يقول رحمه الله وهو بصدد التحقيق في علة منع الفقهاء بيع آلة الحرب من الكفار الحربيين: “ينبغي اليوم الفتوى بجواز بيع سلاحنا منهم فضلا عن غيره، لجزمنا بأن ذلك لا يفيدهم في معنى التقوي شيئا… لما تقرر من أنهم صاروا من القوة والاستعداد والتفنن في أنواع الآلات إلى حيث صارت آلاتنا عندهم هي والحطب سواء!!”[5].

      وفي سياق فتواه بتحريم إعلان الجهاد ضد الإفرنج، يضرب رحمه الله هذا المثال للدلالة على شساعة الهوة بين الجيش المغربي وجيوش الدول الغازية: “فكيف يحسن في الرأي المسارعة إلى عقد الحرب مع أجناس الإفرنج، وما مثلنا ومثلهم إلا كمثل طائرين أحدهما ذو جناحين يطير بهما حيث شاء، والآخر مقصوصهما واقع على الأرض لا يستطيع طيرانا ولا يهتدي إليه سبيلا، فهل ترى لهذا المقصوص الجناحين الذي هو لحم على وضم أن يحارب ذلك الذي يطير حيث شاء؟! فهكذا حالنا مع عدونا؛ فإنه بقراصينه الحربية ذو أجنحة كثيرة فهو علينا بالخيار: يهجم علينا في ثغورنا إذا شاء، ويبعد عنا فلا ندركه متى شاء، وقصارانا معه الدفع عن أنفسنا إذا اتفقت كلمتنا…”.

      ولا يسع الناصري -في معرض الاعتبار بنكبة المسلمين في صد الهجوم الإسباني عن تطوان- إلا أن يصف أهل زمانه بضعف البصيرة في الدين، ونقص الغيرة على الوطن والحريم، وخفة الرأي وعدم التمرس بالحرب.. إلى أن يقول: “وأهل المغرب اليوم إلا القليل منسلخون من هذا كله أو جله.. همهم مأكولهم ومشروبهم وملبوسهم كما لا يخفى حتى لم يبق من هذه الحيثية فرق بينهم وبين نسائهم!!”[6].

      هذا لون من ألوان النقد الاجتماعي الذي كان يوجهه بعض العلماء للمواضعات الحياتية العامة لمغرب القرن التاسع عشر، وهو دليل على انبعاث نوع من الصحو والإدراك لهزال واقع الذات من جهة، وقوة تيار التمدن الأوربي وما يحمله من تحديات ومخاطر من جهة أخرى.

      بيد أنه بالرغم من دلائل الصحو هذه لدى طائفة من أرباب الرأي، نلاحظ أن ذلك لم يصاحبه في الغالب اقتناع بضرورة إعمال التجديد الشامل، والنفير لتمدين الأمة، وإعداد العدة، والأخذ بنظم العصر وبدائله. والظاهر أن العقلية المسلمة في هذه الفترة لم تستطع أن تفرق -في مجال الاقتباس الحضاري- بين الجوانب المعيارية التي تميز أمة عن أمة، والجوانب الموضوعية التي يشترك في امتلاكها والاستفادة منها جميع الناس. ولعل التفرقة المعيارية الأصولية بين المسلمين والكفار كانت سببا من أسباب هذا الخلط، وهي التي حالت دون الإفادة من مكاسب المدنية الأوربية.

      يضاف إلى ذلك أن الغرب طبع في أذهان الأمة صورته البشعة الغادرة بسبب أطماعه التوسعية التي لا حد لها!

      لهذه الأسباب وقف المغاربة كغيرهم من المسلمين موقف الحذر والتوجس من المدنية الجديدة، بل نجد أن الموقف الذي كان غالبا إزاء هذا الأمر هو موقف الرفض المطلق، وتسييج النفس بسياسة الاحتراز على نحو ما يعبر عنه موقف الناصري من بعض التقنيات الحديثة في عهد المولى الحسن الأول (1873 / 1894م) حيث يقول: “وفي هذه المدة وفد على السلطان أيده الله عدة باشدورات للأجناس مثل باشدور الفرنسيس، والاسبنيول، والبرتغال وغيرهم. وتكلم الفرنسيس في شأن بابور البر والتلغراف وإجرائهما بالمغرب كما هما بسائر المعمور، وزعم أن في ذلك نفعا كبيرا للمسلمين والنصارى، وهو والله عين الضرر، وإنما النصارى أجربوا سائر البلاد فأرادوا أن يجربوا هذا القطر السعيد الذي طهره الله من دنسهم”[7].

      صحيح أن هذا الموقف ينبئ بالنظر إلى مآلات الأمور عن تنبه يقظ للوجه الآخر لمقترحات التمدين الأوربية، وهو الوجه الاستعماري التوسعي الذي عادة ما يتذرع بشعارات الإصلاح وأمانيه  للاستيلاء على مقدرات البلاد، وانتهاب ثرواتها، والإطاحة باستقلالها وسيادتها المستقلة[8]، وقد كانت دعوة العلماء الرسالية المبدئية التحريض الدائم على جهاد الأجنبي وإعطائه السيف، وحسم مشكلته بمنع مخالطته والتعامل معه. لكن هذا الاختيار ظل سلبيا بوقوفه عند هذا الحد، وعجزه عن التفكير في اقتراح بدائل جديدة تستوعب مشاريع الإصلاح، وتوقعات التحديث في إطار الذاتية الحضارية المستقلة للأمة.

——————————————

  1.  من هذه المصادر على سبيل المثال:
– محمد الطاهر بن عبد الرحمن الفهري (تـ 1868م) “الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية”، تحقيق وتقديم: محمد الفاسي، (ينظر وصفها عند محمد المنوني: المصادر العربية لتاريخ المغرب، ج2/118).

  – إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار “لإدريس بن محمد الجعايدي (تـ 1308هـ) مخطوط بالخزانة الصبيحية بسلا، تحقيق: معنينو، كلية الآداب، الرباط، 1990، قال عنها الناصري في الاستقصا 9/151: “قد اشتملت على كل نادرة وغريبة، وأفصحت عن صنائع الفرنج وحيلها العجيبة” اهـ.

  – “التحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الأصبنيولية” لأحمد الكردودي الفاسي (تـ 1318هـ)، تحقيق: عبد الوهاب بن منصور، المطبعة الملكية، الرباط، 1963، يذكر في خاتمتها (ص: 92): “وقد ألمعنا في هذا التقييد العجيب، ببعض ما شاهدناه من الأعاجيب، واقتصرنا فيه على مالا بأس بذكره للعلم به، ومعرفة جملته وتفصيله، قصد المزيد للاستعداد بأفضل منه والسعي في تحصيله..”.

  – “عناية الاستعانة في حكم التوظيف والمعونة…” علي السويسي السملالي، (تـ1311هـ)، مخطوط، بالخزانة العامة، رقم: د.480، حلله الأستاذ أحمد العماري في بحث ضمن ندوة “الإصلاح والمجتمع المغربي” كلية الآداب الرباط، 1986 يتعجب فيها المؤلف من مغاربة زمانه قائلا (ص: 35) “وعجبا من قوم هم أهل المغرب، جاء عدوهم وسكن أطراف بلدهم، وأنشب فيهم أظفاره وعجزوا عن رده بفضلة أموالهم يتقوى بها جيشهم قبل أن يأخذ النصارى الدين والمال والبلد..”.

  2.  محمد المنوني، مظاهر يقظة المغرب الحديث، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1985، ج 1، ص: 17.

  3.  الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1956، 9/101.

  4.  محمد بن عبد الله الغيغائي، رحلة الغيغائي، مخطوطة بالخزانة العامة، الرباط، ج 98، ص: 66 ينظر وصفها عند: محمد المنوني، المصادر العربية 2/115، وينظر دراسة بشأنها: عبد العزيز التمسماني خلوق، “المؤثرات الخارجية استمرار الإيديولوجية القديمة في مغرب القرن 19، مثال: الغيغائي”، “العلم الثقافي” 19 مارس، 1983.

  5.  الاستقصا، 9/184.

  6.  الاستقصا، 9/190.

  7.  المصدر السابق: 9/162.

  8.  الداعي إلى هذا الموقف إطلاع العلماء على ما آلت إليه البلاد المجاورة التي قبلت عرض الإصلاح من الوقوع في شرك الاستعمار، وما جر عليها ذلك من تفسخ الأحوال السياسية والاقتصادية والأخلاقية، لاحظ على سبيل المثال تعليق الناصري على ما وقع بالجزائر: “.. وإلا فأي إحسان فعله الفرنسيس مع أهل الجزائر وتلمسان، ألسنا نرى دينهم قد ذهب، وأن الفساد قد عم فيهم وغلب، وأن ذراريهم قد نشأوا على الزندقة والكفر إلا قليلا، وعما قريب يلحق التالي بالمقدم” (الاستقصا، 9/91).

أرسل تعليق