Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

سجلماسة كمركز للتواصل الحضاري مع إفريقيا (3)

لقد اعتبرت سجلماسة عبر تاريخها الطويل مركز استقطاب للعلماء ورجال العلم والأدب فضلا عن التجار وأصحاب الأموال، فساهمت بشكل فعال في النهضة المغربية الدينية والعلمية، بل وكانت إحدى الركائز الأساسية في بناء الحضارة المغربية. لذلك كانت بفعل عمقها التاريخي وثقلها الحضاري وبفعل ساكنتها المختلطة النشيطة وبفضل تفتحها على جميع التيارات الفكرية والمذهبية، كانت كعبة لتبادل الرأي ولحرية الاعتقاد وللتسامح الديني، حيث تمازجت بالمنطقة جميع المعتقدات الخارجية منها أو السنية أو الشيعية أو الصوفية كما شارك أهل الذمة بدورهم في هذه النهضة.

وإذا كانت سجلماسة قد حاولت أن تنوع من علاقاتها الثقافية سواء مع المشرق العربي أو مع المراكز الحضرية المطلة على البحر الأبيض المتوسط؛ فإن ذلك لم يكن بالدرجة التي كانت لصلاتها المتميزة بالممالك الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء، إذ رغم صعوبة مسالك الصحراء الكبرى؛ فإنها لم تكن أبدا حاجزا كما يتصور البعض[1]. فمن المؤكد أن الحركة المرابطية التي قادها عبد الله بن ياسين منذ 439هـ/1048م من رباطه بجزيرة عند مصب نهر السنيغال، استطاعت أن تنشر الإسلام في أرجاء واسعة من السودان الغربي، خصوصا بعد فتحها لإمبراطورية غانة القديمة، وسيطرتها على عاصمتها أودغشت[2] ثم على سجلماسة. وفي هذا العهد أيضا أنشئت مدينة تومبوكتو التي أصبحت فيما بعد مركزا للإشعاع الحضاري بالمنطقة، حيث أمها التجار وتدفق عليها العلماء من سائر أطراف العالم الإسلامي.

منذ هذه القرون الإسلامي الأولى إذن وضعت اللبنات الأساسية للتقارب بين سجلماسة وبين الضفة الجنوبية للصحراء الكبرى من خلال تنشيط حركة القوافل التجارية من جهة، وتيسير رحلات العلماء والفقهاء قصد نشر الإسلام بين الشعوب الإفريقية وتفقيهها بتعاليمه السمحة. إن غنى هذا التواصل وإستمراريته على مدى قرون عديدة يجعل من الصعب الإحاطة بمجموع الجوانب المشكلة له واستيعاب جل بواطنه وخفاياه، الشيء الذي يفرض علينا الاقتصار على استعراض بعض مظاهر التقارب الثقافي أو بمعنى أصح ملامسة بعض محددات تأثير سجلماسة على التشكيلة الثقافية للشعوب السودانية.

لقد كشفت الكتابات التاريخية والتحريات الأثرية عن وجود صلات قوية فعلا بين سجلماسة ومدن جنوب الصحراء، حيث كانت الأولى تمدها بما تحتاج إليه من منتوجات متنوعة، كان من بينها خاصة المواد الغذائية، الفخار والألبسة المختلفة. فقد لفت نظر الجغرافيين العرب القدامى أن طابع العري شبه التام كان هو الغالب على سكان بلاد السودان، لكن مع انتشار الإسلام وتأثر السكان المحليين بالنمط المعيشي العربي بدأ تدريجيا تعميم ارتداء الأقمشة، بل ودخلت زراعة القطن إلى أودغشت من سجلماسة، بحيث تحولت إلى مركز هام لإنتاج النسيج مع منتصف القرن 11م.

من أبرز مظاهر هذا التأثير أيضا اعتماد بلاد السودان لأنماط تخطيط المدينة العربية الإسلامية بأسوارها، بمساجدها، بأسواقها وبدورها وشوارعها… وكذلك من حيث اتباع طرق البناء سواء بالطين أو بالحجارة. ويرجع الفضل الأكبر في ذلك إلى التجار والعلماء المغاربة الذين استقروا بحواضر بلاد السودان، حيث شيدوا منازل لا تختلف في شيء عن منازل فاس ومراكش وسجلماسة. فالأبحاث الأثرية التي أجريت بموقع أودغشت أبرزت مدى التشابه التام بين مكوناتها العمرانية وتلك المكتشفة بسجلماسة حتى عرفت المدينتان بالشقيقتين.

وفي هذا الصدد يمكن استحضار إشارة تاريخية قدمها لنا ابن خلدون حيث تحدث عن أحد أعظم ملوك إمبراطورية مالي هو منسى موسى (بداية القرن 14م) الذي جلب من المغرب أحد العارفين بالهندسة المعمارية ويدعى إبراهيم محمد الأنصاري الساحلي المعروف بالطوينجي قصد بناء دار الإمارة. يقول ابن خلدون : “أطرف إبراهيم الطوينجي السلطان منسى موسى ببناء قبة مربعة الشكل إستفرغ فيها إجادته… وأضفى عليها من الكلس ووالى عليها بالأصباغ المشبعة فجاءت من أتقن المباني ووقعت من السلطان منسى موسى موقع الاستغراب… حيث وصله العاهل بمبالغ سنية من المال…”[3].

كما يمكن الحديث عن اهتمام المغاربة بنشر اللغة العربية في الأقطار الإفريقية وذلك من خلال تعريب الدواوين الرسمية، واعتماد العربية في تسجيل العقود وفي فض المنازعات القضائية وفي كتابة المخطوطات والوثائق. كما قام المغاربة بنشر المذهب الصوفي ببلاد السودان وفي هذا المجال نكتفي بالإشارة إلى أثر الطريقة التجانية في تقريب الإنسان الإفريقي بعضه من بعض، بل وتعرف عن قرب بالعنصر المغربي فأنصهر الجميع في بوتقة واحدة ملؤها الأخوة الإسلامية. وكلنا نعرف أبا العباس أحمد بن محمد التجاني الذي ارتحل من مسقط رأسه لطلب العلم بمدينة فاس، فأصبح فقيها عالما ملما بالأصول والفروع، عارفا بالآداب وقد حج سنة 1186هـ/1773م، ثم عاد إلى فاس فصار شيخا للطريقة التي تنتسب إليه. وله يرجع الفضل في تربية العديد من الأتباع في المغرب وإفريقيا السوداء على السواء. وفي عام 1278هـ/1882م ظهر أحد أتباع الطريقة التجانية بالسنيغال، فأسس مملكة مستقلة ويتعلق الأمر بالحاج عمر الفوتي[4] الذي اعتمد في نشر تعاليم الإسلام على وسائل سلمية تتمثل في التجارة والتعليم بجانب حملاته الجهادية ضد القبائل الوثنية.

وفي جانب أخر من العلاقات الثقافية بين المغرب وبلاد التكرور، يكشف لنا الأستاذ محمد حجي[5] في دراسته لكتاب “الفتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور” لمؤلفه العالم الولاتي أبي عبد الله الطالب محمد بن أبي بكر الصديق البرتلي المتوفى عام 1219هـ/1805م عن الصلات الثقافية التالية:

      * تشابه المادة المدروسة لطلاب العلم بالتكرور خلال عهود ولاتة مع مثيلتها التي تدرس بفاس ومراكش، فاللغة المعتمدة هي العربية والمواد هي النحو العربي، التشريع الإسلامي، الحساب والفلك العربيين، الفقه والأصول مع التركيز على مختصر خليل بتفاسيره المعروفة بالمشرق والمغرب فضلا عن ظهور مفسرين محليين مثل أحمد بابا السوداني، القاضي الطالب أبي بكر بن محمد الولاتي المحجوبي. وتدرس كذلك الجرومية والألفية لابن مالك في النحو، كتاب الشفاء للقاضي عياض السبتي، كتاب دلائل الخيرات لمحمد بن سليمان الجزولي وغيرها.

* المراكز العلمية المغربية التي يتردد عليها علماء وطلاب التكرور، حيث لا يكتفون بالدراسة بسوس ودرعة وتافيلالت.. وإنما يتابعون دراستهم العليا بمدن فاس ومراكش وتطوان، فكانوا يدرسون علوم القرآن والحديث واللغة العربية التي يتصل بعضها بالإمام محمد بن غازي المكناسي الفاسي وبعضها بالشيخ محمد بن محمد بن أبي بكر الدلائي.

* الطرق الصوفية التكرورية استمدت جذورها من الطريقة الشاذلية عامة والجزولية بشكل خاص. فالتكروريون يداومون على قراءة أحزاب الإمام الشادلي، أسماء الله الحسنى لابن عباد الفاسي، دلائل الخيرات للجزولي وغيرها. من أشهر المتصوفة ببلاد التكرور نجد عبد المالك بن عبد الله الركاني الشريف الحسني والذي وصل نفوذه إلى منطقة توات وكل الواحات الصحراوية الشرقية. كما يقدم لنا كتاب الفتح الشكور ترجمة لعدة علماء مغاربة أثروا روحيا بشكل واضح على سكان التكرور ومن هؤلاء يذكر الشيخ أبي المحاسن يوسف الفاسي، ابنه محمد العربي الفاسي وحفيده محمد المهدي الفاسي.

———————————————–

  1. Maurice DELAFOSSE : «  les relations du Maroc et du Soudan à travers les âges “, in Hespéris, 1955 ; p 153.

  2. Idem. : p157.

  3. عبد الهادي التازي : “المغرب في خدمة التقارب الإفريقي العربي”، العلاقة بين الثقافة العربية والثقافات الإفريقية، تونس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1985. ص 124.

  4. Abdoulaye Elimane KANE : influences culturelles dans les rapports Maroc Sénégal, Rabat, publ. Instit. Des Etudes Africaines, 1992, p 12.

  5. Mohamed HAJJI: «texte sahraoui nouveau traitant des relations culturelles entre le Maroc et les pays de Takrour aux XVII° et XVIII° siècles », in Actes du IV ème Colloque Euro-Africain sur l’Histoire du Sahara et des relations transsahariennes entre le Maghreb et l’Ouest Africain du Moyen-Age à la fin de l’époque coloniale, Bergamo (Italie), 1986, pp 188-190.

أرسل تعليق