Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

مفهوم التوبة

      في اللغة: التوبة ترك الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار[1] وأصل التوبة الرجوع[2].

      وفي الشرع التوبة ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرط منه والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة[3].

      هذا عن توبة العبد، وتكون التوبة مسندة إلى الله تعالى، بمعنى قبول التوبة مـن عباده، كما ما جاء في قوله تعالى: “فتَلَقّى آدم من ربّه كلماتٍ فتاب عَليه إنّه هُو التوابُ الرحيمُ” [سورة البقرة، الآية: 36].

      وحكم توبة العبد أنها واجبة اتفاقا، ووجوبها على الفور، ولا يجـوز تأخيرها[4] وفضلها يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: “اللهُ أشد فَرَحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دَويةٍ مهلكة معـه راحلته عليها طعامه وشرابه فنـام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش ثم قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنـده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده”[5].

      وهذا المعنى جـاء مفسرا لقوله سبحانه: “إنّ الله يحِبُّ التَّوَّابينَ ويُحِـبُّ المتَطَهِّرين” [سورة البقرة، الآية: 220].

      ولقد ورد مصطلح التوبة في القرآن الكريم سبعا وثمانين مـرة، منها ما هـو مسند إلى الله تعالى بمعنى قبوله لتوبة عباده، ومنها ما هو مسـند إلى العباد بمعنى رجوعهم إلى ربهم وترك ذنوبهم.

      وورد النوع الثاني في اثنين وخمسين موضعا من الذكر الحكيم، وأهم ما يلاحظ على هذا النوع أن التوبة وردت في معظم مواضعها مقترنة بغيرها، وذلـك على الشكل التالي:

       •    بالعمل الصالح أربعة عشر مرة منها قوله سبحانه: “فَمَنْ تَابَ مِنْ بعْدِ ظُلْمِه وأَصْلَح  فإنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْه إنَّ الله غفور رحيم” [سورة المائدة، الآية: 41].

       •    بالاستغفار خمس مرات، كما جاء على لسان هود عليه السلام في قـوله سبحانه: “ويا قَوْمِي اسْتَغْفِروا رَبَّكُم ثُمّ تُوبوا إِلَيْه يُرْسِل السّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرارا ويَزِدْكُم قُوَّة إلى قُوَّتِكُم ولا تَتَوَلَّوْا مُجْرمين” [سورة هود، الآية: 52].

       •    بالإيمان والإسلام خمس مرات كما في قوله عز وجل: “والَّذين عَمِلُـوا السَّيئاتِ ثم تَابوا مِنْ  بَعْدِها وآمَنوا إنّ رَبَّـكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ” [سورة الاَعراف، الآية: 153].

       •    بالصلاة والزكاة مرتين، كما في قوله عز من قائل: “فإنْ تَابُوا وَأَقـامُوا الصّلاةَ وآتوا الزكاةَ فَخَلُّوا سَبيلَهُم” [سورة التوبة: الآية:5].

       •    إتباع سبيل الله مرة واحدة هي قوله عز وجل: “الّذين يحْمِلون العرشَ ومَن حَوْلَه يُسَبّحون بِحمْد رَبهم يومِنونَ بِه ويَستغْفِِرونَ لِلذين آمَنوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيء رحمـةً وعِلْمًا فَاغْفِر للذينَ تَابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَك وَقِهِمْ عَـذَابَ الجحيم” [سورة غافر، الآية: 6].

       •    كما ورد وصف التوبة بالنصوح مرة واحدة هي قوله سبحانه: “يا أيها الذين آمَنُوا توبوا إلى الله تَوْبَةً نَصُوحا” [سورة التحريم، الآية: 8].

      ثم ورد مصطلح التوبة مطلقا في ثلاث وعشرين موضعا لكنه حيث ورد مطلقا ورد إما منفيا كما في قوله سبحانه: “ومَنْ لَمْ يَتُبْ فأولئِك همُ الظَّالِمونَ” [سورة الحجرات، الآية:11]، أو موصوفا بعدم القبول كما في قوله سبحانه: “وَلَيْسَت التوبَةُ للذين يَعْمَلون السَّيئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قال إنّي تُبْتُ الآنَ وَلا الذينَ يَمُوتونَ وهُم كُفارٌ أولئك اَعْتَدْنا لهمْ عذاباً أليماً” [سورة النساء، الآية:18].

      أو ورد متضمنا لمعنى ترك الذنب الموجب للتوبة كما في قوله تعالى في معرض تحريم الربا: “وإنْ تُبْتُمْ فَلَكمْ رُؤوسُ أَمْوالِكُم لا تَظْلِمُونَ ولا تُظلَمُونَ” [سورة البقرة، الآية: 278]، أو بمعنى ما سيكون كما في قوله سبحانه: “ثم تابَ عليهِم لِيَتُوبُوا إنَّ اللهَ هُو التّوابُ الرّحيمُ” [سورة التوبة، الآية: 119]، أو مقيدة بالقرب كما في قوله عـز وجل: “إنمّا التَّوْبةُ على الله للّذين يَعْمَلونَ السّوءَ بجَهالةٍ ثم يتوبُون مِن قَريب فأولئك يَتوبُ اللهُ عليْهِم وكان الله عَليما حَكيماً” [سورة النساء، الآية: 17].

      والخلاصة من ذلك كـله، أن التوبة لكي تكون مقبولة لابـد أن تقترن  بأمور أخرى، وقبل الحديث عن ذلك، تجدر الإشارة إلى أن أركان التوبة كما ذكرها العلماء هي الإقلاع عن المعصية، والندم على فعل تلك المعصية، والعـزم أن لن يعود إليها أبدا، فإن كانت المعصية لحق آدمي، فلها ركـن رابع وهـو التحلل من صاحب ذلك الحق، وأصلها الندم وهو ركنها الأعظم[6].

      هذا عن شروطها الداخلة فيها التي وضعها العلماء، فإذا رجعنا إلى شروط التوبة الخارجة عنها أو المضافة إليها والمبثوثة في نصوصها، نجد منها أو أهمها: الإصلاح أو العمل الصالح كما نجد في قوله عز وجل: “والذينَ يَرْمونَ المحْصَناتِ ثم لَمْ ياتوا بأربعةِ شُهَداءَ فاجْلِدوهُم ثمانينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لهُمْ شهادةً أبَدا وأولئك هُمُ الفاسِقون إلا الّذين تَابوا مِنْ بعْدِ ذلك وأَصْلَحُوا فَإن اللهَ غَفُورٌ رحِيـمٌ” [سورة النور، الآية: 4].

      فها هنا مسألتان ينبغي الإجابة عنهما:

       – الأولى: هل التوبة وحدها بشروطها الأربعة تخرج صاحب المعصية من معصيته؟

       – الثانية: ما دور العمل الصالح في قبول التوبة، ولماذا أضيف إليها في أربـعة عشر موضعا من مجموع نصوصها.

     والجواب عن المسألة الأولى يتمثل فيما اتفق عليه العلماء، من أن التوبـة إذا توفرت فيها أركانها الأربعة قبلت وصارت توبة نصوحا.

     أما جواب المسألة الثانية فمن زاويتين:

       •    الأولى: إن العمل الصالح أضيف إلى التوبة مع أن التوبة وحدها تخرج صاحبها من المعصية، ولقد علل العز بن عبد السلام إضافة العمل الصالح إلى التوبة في آيـة النور بقوله: “اشترط في خروجهم من وصف الفسق الإصلاح بعد التوبة مع أنه يغفر لهم بمجرد التوبة بالإجماع وهم يخرجون من الفسق بها… والجواب أن المراد خروجهم من الفسق في الحكم الظاهر لنا لا في نفس الأمر، فهم يخرجون  مـن الفسق في نفس الأمر بالتوبة، ولا يمكننا نـحن أن نتحقق ذلك منهم وتقبـل شهادتهم حتى يظهروا أثر ذلك عليهم، من مباعدتهم لما كانوا عليه وتمسـكهم بالخير”.[7]

      وهذا الجواب الذي وصل إليه العز بن عبد السلام لاشك في صدقة وانطبـاقه على نص النور؛ لأن المطلوب من الفاسق فيه أن يرفع عنه أمرين: الإثم، ورد الشهادة، والإثم يكون بينه وبين الله المطلع على ما في النفوس، فيكفيه أن تكون توبته منه توبة نصوحا، أما رد الشهادة فهو أمر بينه وبين المخلوقين الذين ليس لهم إلا الحكم بظواهر الأمور، فكان واجبا عليه أن يظهر لهم من نفسه صلاحا يحملهم على قبول شهادته.

      لكن هذا التحليل لا ينطبق على كل النصوص التي اقترنت فيها التوبة بالإصلاح، كما نجد في قوله عز وجل: “وإذا جاءَكَ الّذين يومنون بآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكم كَتَبَ ربُّكُم على نَفْسِه الرَّحمَةَ أنه مَنْ عَمِل منكم سوءا بجهالةٍ ثم تاب مِنْ بعدِه وأَصْلح فإنّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ”[8] [سورة الاَنعام، الآية:55]؛ لأن الأمر يتعلق هنا بما بين العبد وربه فقط، ومع ذلك اقترنت التوبة بالإصلاح.

       •    وهناك جواب ثان عـن المسألة، يتمثل في كون الإصلاح إنما هو بمعنى خاص، يكون من شروط صـحة التوبة، ويتـمثل في “استدامة الإصلاح بعدها في الشيء الذي تيب منه “[9]، وإذا حملناه على هذا المعنى صار داخلا تحت التوبة، وركنا من أركانها، بل متـمضنا لأركانها كلها[10].

      لكن هذا الجواب يُشْكِلُ بالنظر إلى أنه ذِكْرٌ لأمرين حقيقتهما أمر واحد؛ لأنه إذا كانت التوبة متضمنة للإصلاح، فما الفائدة من ذكرهما مـعا واقترانهما في نصوص كثيرة. والجواب على ذلك أن التوبة، إذا توفرت على شروطها الأربعـة –دون العمل الصالح– كانت توبة صحيحة، لكن من تمامها فعل الحسنـات، خاصة إذا كانت المعصية التي يرغب التائب في تركها مـتعلقة بحقوق الآدميين؛ لأن التوبة تسقط حق الله، ويبقى حق العباد إذا فاته رده، ولذلك يستحـب له الإكثار من الحسنات، قال ابن تيمية عن توبة القاتل: “… بل التوبة تسقط حق الله… لكن حق الآدمي يعطاه من حسنات القاتل، فمن تمام التوبة أن يستكثر من الحسنات”.[11]

      وقد يصدق هذا المعنى على جميع الذنوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “وأَتْبِعِ السيئة الحسنة تمَحُها”[12].

      يتحصل مما سبق أن العمل الصالح هو من مكملات التوبة وليس ركـنا مـن أركانها، رغم أن الفرق بين الأمرين يسير بالنظر إلى أن التائب يحرص على أن تقبل توبته، فيبذل ما يستطيع من جهد لتحقيق ذلك، وهو ما وصل إلى الندم عن معصيته إلا وهو راغب في إرضاء الله تعالى الموجب لفعل الصالحات.

      والخلاصة أن فاعل المعصية ينبغي له إن تاب، أن يبذل ما في جـهده وطاقته لتقبـل توبته، خاصـة وقبول التوبة أو عدمه يبقى أمرا غيبيا لا يعلم تحققه إلا الله سبحانه وتعالى، كما أن الله تعالى، وإن كان يغفر كل الذنوب، إلا أنه سبحانه، لا يغفر لكل مذنب، قال ابن تيمية: “… فإن الله أخبر أنه يغفر جميع الذنوب، ولم يذكر أنه يغفر لكل مذنب…”[13]، ومن هنا وجب على التائب أن يجتهد في طلب المغفرة، ولا شك أن أهم مظاهر هذا الاجتهاد هو الإكثار من الصالحات كما أرشد إلى ذلك القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

—————————————–

  1. المفردات/ توب.

  2. قال الإمام النووي: أصل التوبة في اللغة الرجوع، يقال: تاب وثاب بالمثلثة وآب بمعنى رجع، صحيح مسلم، 9/17/59.

  3. المفردات /توب.

  4. صحيح مسلم، هامش 9/17/59.

  5. متفق عليه- صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب التوبة 11/123 من فتح الباري، صحيح مسلم 9/17/61، (اللفظ لمسلم).

  6. النووي- شرح لمسلم- هامش 9/17/59.

  7. فائد في مشكل القرآن، ص:199-200.

  8. كذلك المائدة: 41، طه: 82، ومريم: 60، وغيرها.

  9. قاله ابن عطية المحرر الوجيز 2/297.

  10. سبق قول النووي بأن أركان التوبة هي الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها وعدم معاودة فعلها ولاشك أن هذا كله هو بالمعنى الذي قاله ابن عطية، أي: استدامة الإصلاح بعد التوبة في الشيء الذي تيب منه.

  11. التفسير الكبير، 6/44. وقال الراغب في قوله تعالى: “ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا” [سورة الفرقان، الآية:71]: “أي التوبة التامة وهو الجمع بين ترك القبيح وتحري الجميل” المفردات/توب.

  12. سنن الترمذي-باب ما جاء في معاشرة الناس- 4/125-حديث رقم: 1987.

  13. التفسير الكبير، 6/44.

التعليقات

  1. غبد القادر أوفاي الجزائري

    أشكر الدكتورة الكريمة علي ما قدمت وأفادت
    وأسأل عن سر اقتران التوبة بالاستغفار بالخصوص وشكرا

  2. كلثومة دخوش

    بسم الله الرحمن الرحيم

    أشكر للأختين الفاضلتين حسن تتبعها للموضوع، وما يمكنني قوله جوابا عن سؤاليكما هو الآتي:

    يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الحكيم: "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"، لكن مر معنا في كلام ابن تيمية أن: "الله أخبر أنه يغفر جميع الذنوب، ولم يذكر أنه يغفر لكل مذنب"
    وبناء على ذلك، فإن العبد لا يمكنه الجزم بأن الله قبل عنه توبته، لكنه مطالب بالتوبة مع حسن الظن بالله تعالى، على أن تكون توبته خالصة مشتملة على شروطها كما حددها العلماء، من ندم على المعصية وعزم على تركها مع إرجاع الحقوق إلى أصحابها إن تعلق الذنب بحقوق الآدميين، ثم بعد ذلك هو مطالب بالإكثار من الصالحات لقوله عز من قائل: "إن الحسنات يذهبن السيئات" هذا، مع استحضار عفو الله عن عباده ومغفرته للخطائين التوابين، وفرحه بتوبة عباده كما ثبت في الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    والله تعالى أعلم.

  3. فوزية ياسين

    السلام عليكم

    نشكرك دكتورة كلثومة على هذا الموضوع الرائع، وأضم صوتي للأستاذة سعاد حول كيفية تقبل الله توبة الانسان؟
    وشكرا

  4. سعاد

    سلام عليكم

    شكر خاص للدكتورة كلثومة دخوش على هذا الموضوع الرائع

    كيف يعرف انسان ان الله تقبل التوبة؟

    لكم جزيل الشكروالاحترام

أرسل تعليق