Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

تعليق واحد

علل الفكر .. الوهم

      تحدثنا في الحلقة الماضية عن الهوى، باعتباره مجالا لتطلعات النفس ومراداتها، التي لا تخضع لمنطق العقل ولا لمنطق الشرع، وإنما تتوهم أنها بإمكانها تحقيق ذلك، دون تحصيل أسبابه المشروعة والمتوقفة على مواجهة الصعاب، وركوب الأخطار والانضباط بقيود الأخلاق، وبصفة عامة مخالفة ما طبعت عليه النفس من الولع الشديد بملذات الحياة بلا أدنى عناء.

      فالنفس إذا مالت لمرغوب، وضاقت بما يؤدي إليه من تعب ومعاناة، جمحت مع الهوى المسيطر عليها حينئذ، لاعتقاد وهمي ترتاح به من خيار المواجهة المضنية للعمل بالأسباب التي لا ينفع غيرها، ولا يثبت في الواقع ما يخالفها.

      فالوهم بهذا الاعتبار نتيجة حتمية لاتباع الهوى، وغلبته على الإحساس والتصور الفكري، بحيث يفتح باب تمنيات النفس على تصورات وتخيلات لا وجود لها في الحقيقة، وإنما تقبع في أعماق النفس التي تفتن بها، وتتحرك بوحي منها بنشاط وحماس، قبل أن تكتشف في مدى قريب أو بعيد أنها واهمة.

      ويصف لنا القرآن الكريم سيطرة الوهم على الضالين المكذبين في أكثر من موضع: “وَالذِينَ كَفَرُوا أعْمَالهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْأنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ” [سورة النور، الآية:39].

     فالوجود البشري على الأرض، محكوم بنوعين من الاعتقادات، التي تنطلق فيها القدرات الفكرية التصورية بحرية ومسؤولية، الإيمان بالغيب وفق محددات شرعية صارمة، تنفي غيرها من الادعاءات التخيلية، التي لم يشهد لها دليل الوحي الثابت. والاعتقاد الفكري إثباتا أو نفيا في تفسير معين للحياة، يكون من نتاج العقل غير المدعوم بحقائق النقل، أو الجاحد لها والمحاول تجاوزها. فما ينتهي إليه البشر من مناهج نظرية متناولة لقضايا الإنسان الكبرى، المتصلة بالمعاش والمآل، لا تعدو كونها أوهاما عريضة متلبسة بلبوس عقلاني وعلمي خادع، وهي في الحصيلة النهائية ليس لها بالحق أدنى صلة.

      ويعد من أشنع الوهم وأبعده عن الحقيقة، وأشده ضلالا وعماية في حياة الإنسان، ما كان ناجما عن الخوض في أسرار الوجود البشري وغاياته بالفكر المجرد، اعتمادا على تجاربه وخبراته، المعزولة عن بينات الوحي وتوجيهاته الهادية.

      وأما ما يقع فيه الناس من أوهام أخرى، تطال بعض الحقائق الجزئية، والذي لا يسلم منه بشر، فهو أقل ضررا وأقرب للتمحيص والاختبار، إذا صحت العزيمة وصدق القصد.

      فالباحث في العلوم التجريبية يضع فرضيات، ثم يجري تجارب مخبرية تؤكد صحة الفرضية أو بطلانها، مما يجعل أحكامه وتصوراته مصانة نوعا ما ضد الوهم بحسب نوع التجربة ومجالها. واعتماد المنهج العلمي المحتكم إلى معايير ضابطة، أحيانا عندما لا تمكن التجربة يعمد إلى الافتراض المعلق والمحلق في فضاء النظريات التصورية، التي يغشاها الوهم من حيث عجزت التجربة أن تتدخل للحسم فتندفع أهواء النفس لتعانق قناعات واهية تضفي عليها بطريقة تحكمية مسحة علمية زائفة، إن لم تقحمها في مقاربات العلم ومقرراته.

      فهذا شارل داروين  Charles- Darwin (1809-1882)عندما ساح في الأرض يجمع رفات بني آدم والحيوانات، كانت في ذهنه فرضية أن الإنسان صورة متطورة عما دونه من الحيوانات، ووجد عدة حلقات فارغة حاول ملأها بما سماه الطفرات، أي توقف التطور ليصبح خلقا خارج السياق المتدرج، الذي من شأنه ضمان استمرارية التطور بلا تعثر.

      فهل هذا التطور أحجم عن تغيير جميع المخلوقات والانتهاء بها إلى صورة وحيدة للحياة هي الباقية لأنها هي الأصلح؟ وأن غيرها من الكائنات الأخرى لم يعد لها وجود على ظهر الأرض وإنما في باطنها ؟!.

      كانت هذه الصورة وحدها هي التي لو حصلت لبصمت شهادة الاعتراف لنظرية داروين، أما وإن ذلك لم يقع، وإنما وجدت جميع الكائنات بسيطة ومعقدة على حد سواء في رحاب الحياة  وما زالت؛ فإن القول بتطور الإنسان عن غيره أو أي حيوان عن حيوان آخر،  ليس إلا وهما في عقول من يزعمون أن العلم المادي قادر على تفسير كل شيء، ويرفضون مبدأ الخلق لآدم رأسا، ويرومون هدم حقائق الدين، لا أقول بحقائق العلم ولكن بأوهامه.

      إن العلم التجريبي -بكل تأكيد- عندما يحتكم إلى التجريب، يلاحق أوهاما عديدة، ويكشفها لنا على حقيقتها، فالفكر معرض للوهم في أحكامه ما لم تستند إلى التجربة أو الخبر الصادق عن أنبياء الله، فمن يسرح بصره في الأرض يتوهم أنها سطح مستوي، ومن يرفع عينيه إلى السماء يتوهم أنها قبة زرقاء، ومن يرى الشمس بازغة، يتوهم أنها طلعت من بين الجبال، ومن يراها عند الغروب، يظن أنها نزلت في أقصى الأرض أو في البحر، ومن لا يعاين عقاب الله نازلا بالمعتدين يتوهم أن الله غافل عما يعملون، وهو سبحانه إنما يمهل ولا يهمل، “وَلَا تَحْسَبَنَّ الله غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الاَبْصَارُ”. [سورة إبراهيم، الآية: 42]. ومن يرى ما أنتجه العقل البشري من أنواع المخترعات وفنون الصناعات، يتوهم أنه على كل شيء قدير.

       ولقد خضعت الإنسانية إبان الثورة الصناعية، إلى طغيان أوهام العلم التجريبي عليها، عندما اعتقدت بأنه محقق لآمالها وأحلامها، ومبدد لآلامها وأحزانها، لكن سرعان ما بدأت أوهامها تتلاشى، عندما عجز العلم الصناعي عن جلب السعادة المادية، والسلام الروحي لبني الإنسان، وغدت منتوجاته وماكيناته -مع منافعها الكبيرة- تعكر صفو الحياة وتملأها بأسباب التوتر، والشقاء والدمار الشامل. “وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ” [سورة اَل عمران، الآية: 185].

      والحياة الدنيا بكل مظاهرها ومكوناتها أكبر الأوهام، والتي لا يخلص النفس منها إلا التفكر في أمرها، في ضوء ما عرفه بها الشرع الحكيم. فقد وقع العقل البشري حيالها في أوهام عظيمة، حكى لنا منها القرآن نماذج إضافية: “وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ” [سورة الجاثية، الآية: 24]، فمن ينغمس في أتون الواقع المعيش ظنا منه أنه بذلك يضع حدا فاصلا بينه وبين الأوهام الغيبية، يرمي بنفسه في ظلمات أوهام لا حد لها، تماما مثل من يعتقد في غيبيات من نسج الخيالات السقيمة. “وَأَقسَمُوا بِاالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” [سورة النحل، الآية: 38]، فارتباط وجود الإنسان في الدنيا بمسؤولية الإيمان بالله واليوم الآخر، مما يغيب عن النظر المجرد، يجعل توهم أن لا حياة غير الحياة الدنيا خيار غالبية البشر المؤثرين لعيش هذه الدنيا العاجل على عيش الآخرة الآجل.

      فاللهم أكرمنا بنور الفهم وأحفظنا من ظلمات الوهم واجعلنا من الراشدين.

التعليقات

  1. شهد

    بارك اللة فيك
    موضوع شيق

أرسل تعليق