Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

محمد بن سليمان الروداني.. (1/2)

كنت قد كتبت مقالة في جريدة ميثاق الرابطة حول العالم الفاضل محمد الواوزغتي، المعروف بسيدي امحند أومحند دفين قرية واويزغت بإقليم أزيلال، وتلميذ العالم الفاضل عبد الله بن حسون السلاوي، والعالم الكبير محمد بن سعيد المرغيثي، وقلت أنه على يديه فتح على عالم من أهل سوس هو محمد بن سليمان الروداني، أحد كبار علماء القرن السابع عشر زمن ازدهار العلم بالزاوية الدلائية المباركة.. في هذه الحلقة سنكتشف بعض جوانب من شخصية هذا العالم السوسي الفاضل الذي بهر أهل عصره في تفننه في علم الفلك..

ولد محمد بن سليمان الروداني بمدينة تارودانت عام 1037هـ/1627م، وكان علامة متمكنا في علوم الحال وعلوم المآل، وخلف آثارا نثرية وشعرية، وقد أكسبه تجواله في العالم العربي ألقابا متعددة، فدعي أبا عبد الله محمد بن محمد بن سليمان بن الفاسي رغم أنه روداني قح وذلك لشهرة فاس عند إخواننا المشارقة، وسمي ابن طاهر السوسي المغربي الروداني المراكشي المالكي نزيل الحرمين الشريفين..

محمد بن سليمان الروداني.. (1/2)تتلمذ محمد بن سليمان الروداني على ثلة من علماء عصره، منهم بالمغرب محمد الواويزغتي وأبو مهدي عيسى مفتي مراكش وقاضي القضاة بها مؤلف الفتاوي المشهورة باسمه، وصاحب الحاشية، والشرح على صغرى السنوسي. (انظر م السوسي، سوس العالمة، ص: 183)، ومحمد بن سعيد المرغيتي، ومحمد بن أبي بكر الدلائي، ومحمد ابن ناصر الدرعي، الذي لازم دروسه أربع سنوات في التفسير والحديث والتصوف. ومن شيوخه بالجزائر سعيد بن إبراهيم المعروف بسيدي سعيد قدورة[1].

 سافر محمد بن سليمان الروداني إلى المشرق و لازم في مصر دروس نور الدين الأجهوري، وشهاب الخفاجي، والشهاب القليوبي، ومحمد بن أحمد الشوبري، والشيخ سلطان، وقد أجازوه جميعا.  بعد ذلك  قصد الحرمين الشريفين حيث جاور سنين عديدة بمكة والمدينة، وأكب على التأليف والتدريس قبل أن ينتقل إلى القسطنطينية (إسطنبول) عام 1081/1670/71، وفي طريقه إليها توقف في الرملة، وهي مدينة صغيرة في فلسطين تقع في شمال شرق بيت المقدس حيث حضر أثناءها دروس شيخ الحنفية خير الدين الرملى، وأقام مدة في دمشق حضر أثناءها دروس الشيخين محمد بن بدر الدين الحنبلي ومحمد بن حمزة، ولما وصل إلى القسطنطينية التي أقام فيها سنة كاملة، نال حظوة فائقة بها عند العلماء وأصحاب السلطان على حد سواء.

ولمحمد بن سليمان الروداني تلاميذ كثر في المغرب والمشرق، منهم محمد بن أبي بكر الشبلي، مؤلف كتاب مشرع الراوي، في مناقب بني علوي (انظر كارل بروكلمان، تاريخ الأدب العربي الملحق، 2: 617) ومحمد بن عبد الرحمن الفاسي، وأحمد بن تاج الدين الدمشقي، ومفتي مكة المكرمة الشيخ إمام الدين بن أحمد المرشدي العمري الحنفي.

ترجم لمحمد بن سليمان الروداني كثيرون نذكر منهم: أبو سالم العياشي، الرحلة، 2: 30 – 45، ومحمد اليفراني: الصفوة، ص: 196 – 198، ومحمد القادري: التقاط الدرر، ونشر المثاني، 2: 81 – 88    والحضيكي: طبقات، وم. الناصري: الرحلة، وع. ابن إبراهيم المراكشي: الإعلام، 4: 334 – 359 رقم 401، وعبد الله كنون: النبوغ، 1: 284 – 285، ومحمد ابن تاويت ومحمد عفيفي: الأدب المغربي، وعبد  الحي الكتاني: فهرس الفهارس، 1: 62، 317 – 321، 2: 118، وكارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، 2: 459 (610) والملحق، 2: 691، ومحمد  المختار السوسي: سوس العالمة، ص: 181، وعبد السلام ابن سودة: دليل، 2. 304، ومحمد  الحجوي: الفكر السامي، 4. 115 – 116، رقم: 773.

يكفي أن نعرف أن العلامة الكبير محمد بن سليمان الروداني يعتبر من تلاميذ محمد الواوزغتي لندرك قيمة البادية المغربية في تاريخ المغرب الفكري؛ قال محمد بن سليمان الرُّوداني (المتوفى: 1094هـ) في فهرس شيوخه المسمى: صلة الخلف بموصول السلف. تحقيق محمد حجي دار النشر: دار الغرب الإسلامي بيروت، الطبعة: الأولى، 1408هـ، 1988م (ص: 466) عن ظروف لقائه بشيخه الواوزغتي “كنت مجتازا إلى البلد الذي هو فيه إلى بلد آخر قصدته، وكنت أجد في نفسي كلما نظرت إلى بلده شدة الجذب إليه وقوة الشوق إليه فسألت ما هذا البلد؟ فقيل لي بلد فيه شيخ مربي صفته كذا وكذا فلم أملك نفسي حتى دخلت بلده فلقيني رجل خارج إلي وقال لي أمرني الشيخ أن اخرج إليك وآتيه بك، فلما دخلت عليه رفع إلي بصره فوقعت مغشيا علي بين يديه وبعد حين أفقت فوجدته يضرب بيده بين كتفي ويقول والله علي جمعهم إذا يشاء قدير: أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه. فأمرني بملازمته ومذاكرة أولاده بالعلم فقلت له أني طلبت كثيرا لكن إلي الآن ما فتح الله لي في شيء ولا اقدر على استخراج ولا الآجرومية وكنت إذ ذاك كذلك، فقال لي اجلس عندنا ودرس في كل علم شئت كل كتاب شئت ونطلب الله أن يفتح لك فجلست ودرست طائفة من الكتب التي كنت قرأتها وكنت إذا توقفت في شيء أحس بمعاني تلقى على قلبي كأنها أجرام وغالب تلك المعاني هي التي كانت مشائخنا تقررها لنا ولا نفهمها ولا أتذكرها قبل ذلك وكان مسكني لصيق مسكنه وعلى يد الواوزغتي فتح الله على الروداني أبواب العلم المستغلقة في وجهه، وانقشعت السحب والغيوم أمامه، وأصبح يرى بنور الله.. ولم تفصح المصادر عن المدة التي قضاها الروداني عند الشيخ الواوزغتي، لكن الراجح أن وفاة سيدي “امحند” أومحند” “سنة 1062هـ” كانت سبب رحيل صاحبنا الروداني إلى الزاوية الدلائية ليبدأ مرحلة جديدة..

كان محمد بن سليمان الروداني من أكابر الفقهاء والمحدثين أيضا، فأهله ذلك لان يشغل في مكة، بعد رجوعه من القسطنطينية عام 1082 – 1671 – 7672 منصب مفتي الحرمين الشريفين، فكان له من النفوذ القوى ما يمكنه من الفصل في جميع المسائل الفقهية الخاصة والعامة، ويجعل شريف مكة المكرمة يرجع إليه، ويصدر عن رأيه في جميع القضايا، ودامت تلك المكانة السامية للروداني إلى أن توفي شريف مكة عام 1093/1682، أي سنة واحدة قبل وفاة المترجم، وبعد ذلك زالت حظوته، وحكم عليه بالنفي إلى بيت المقدس. فامتنع من الذهاب إليه متعللا بانعدام الأمن في الطريق، وأخيرا ترك أسرته في مكة وذهب إلى دمشق حيث عاش وحيدا لا يخالط إلا قليلا من الناس، مكبا على التأليف. وهناك ألف كتابه المشهور في علم الحديث الجمع بين الكتب الخمسة والموطأ، وقد طبع هذا الكتاب بالهند، وهو كتاب على نمط جامع الأصول لابن الأثير (المتوفى عام 606هـ)، إلا أنه اتكثر منه تفصيلا.

يقول محمد الأخضر في كتابه الحركة الأدبية  في المغرب على عهد الدولة العلوية (دار الرشاد الحديثة، 1977) أن “الجمع بين الكتب الخمسة والموطأ” يحتوي، فضلا على ما في موطأ مالك بن أنس على أحاديث الكتب الخمسة التي هي: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داوود، وجامع الترمذي، وسنن النسائي. ومن المعلوم أن اصطلاح المحدثين في الأصل يضيف إلى الكتب الخمسة السابقة سنن ابن ماجه، لتتكون الكتب الستة الأساسية في التشريع، وقد تردد رأى المحدثين، خلال العصور، بين اعتماد الكتب الأربعة فقط (بإخراج كتابي الترمذي وابن ماجه فيهما من الأحاديث الضعيفة) أو الكتب الخمسة (بإخراج سنن ابن ماجة فقط)، أو الكتب الستة جميعا[2]، وبذلك يكون المترجم قد تبع المعروف من تطور اصطلاح المحدثين. ويفيدنا محمد الأخضر في كتابه سالف الذكر أن محمد بن سليمان الروداني ألف كتابا آخر أوسع من الأول واشتمل، جامعا فيه بين أربعة عشر من كتب الحديث وسماه جمع الفوائد، لجامع الأصول ومجمع الزوائد[3]. اشتمل على أحاديث الكتب الستة السابقة، والموطأ، ومسند الدرامي، ومسند أحمد ابن حنبل، ومسند أبي يعلي الموصلي (المتوفى عام 307) ومسند البزاز (المتوفى عام 292)، ومعاجم الطبراني (المتوفى 360): الكبير والأوسط والصغير، ويعتبر رجال الحديث كتاب محمد بن سليمان الروداني هذا أحسن وأوفى من كتاب الهيثمي (المتوفى عام 808)، الذي جمع فيه من قبل أحاديث هذه المسانيد كلها.

وقد ألف ابن سليمان الروداني، علاوة على ذلك: أوائل الكتب الحديثية، ومختصر التحرير في أصول الحنفية[4] لابن الهمام (المتوفى عام 861)، وشرحه وترجم لنفسه في فهرسته سابقة الذكر “صلة الخلف بموصول السلف” التي ذكر فيها كل ما قرأ من الكتب والشيوخ الذين أخذ عنهم، وأعطى بالخصوص فكرة عن التعليم في عصره وعن أجواء الحركة الفكرية في مغرب القرن السابع عشر، وله في النحو حاشية على التسهيل، وحاشية على التوضيح، وكلاهما لابن مالك (المتوفى عام 739) وشرحه، وفي صناعة قرض الشعر جدول في العروض، وفي طريق القوم منظومة في التصوف[5].

يتبع في العدد المقبل..

—————————————————————-

1. انظر القادري، نشر المثاني، 1: 216، وك. بروكلمان، تاريخ الأدب العربي، 2: 355.

2. انظر ابن خلدون، المقدمة، طبعة بيروت، ص: 792-793.

3. انظر ع. ابن إبراهيم المراكشي، الأعلام، 4: 336 و339، وم.م السوسي، سوس العالمة، ص: 181

4. شرح هذا الكتاب المسند محمد سعيد بن محمد سنبل الشافعي (أنظر ع. ابن إبراهيم المراكشي الأعلام، 4. 359

5. انظر. م. م السوسي، سوس العالمة، ص: 181.

أرسل تعليق