Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

محمد بن سليمان الروداني.. (2/2)

اشتهر محمد ابن سليمان الروداني بإتقانه لعلم الفلك، فقد صنع بالإضافة على إسطرلابات، أدوات فريدة من نوعها في ذلك العصر، في نفس الوقت الذي اخترع معاصره الفرنسي الشهير باسكال (1623-1662) الآلة الحاسبة. ولإبراز قيمة صاحبنا الروداني في مجال الفلك والصناعات الدقيقة أسوق نصا ثمينا لمعاصره وصاحبه أبي سالم العياشي يقول فيه: “وكانت له يد صناع، يحسن غالب الحرف المهمة سيما الرقيقة العمل الرائقة الصنع، كالطرز العجيب، والصياغة المتقنة، وتسفير الكتب، والخرازة، وقد أخبرني أنه لما كان بمراكش كان يتفرغ في الأسبوع إلا يوم الخميس فيطلع فيه ثلاثة أزواج من السباط وأكثر، فيبيعها ويتقوت بها إلى الخميس الآخر، وله يد طولى في عمل الإسطرلابات، وغيرها من الآلات التوقيتية، كالأرباع، والدوائر، والإنصاف، والمكانات (الساعات).. ومن أعجب ما رأيته من صناعته أنه يجبر قوارير الزجاج المنصدمة بحسن احتيال، ولطف تدبير، إلى أن لا يكاد صدعها يبين، ويصير مثل الشعرة الرقيقة. فانظر أيها القارئ الكريم إلى عظمة هذا الفاضل؛ تبحر في العلوم الدينية واللغوية، وتفوق في العلوم الفلكية، وإتقان للصناعات الدقيقة..” وهذا ما ينبغي النظر إليه في سياقه الحضاري الشامل، فالرجل هنا يساهم في خدمة المدينة الإسلامية عبر تنزيل المعطيات العلمية النظرية في خبرات عملية تنفع الناس، وهذا في نظري هو نموذج العالم بالمفهوم الكوني لكلمة عالم فتأمل!!!

محمد بن سليمان الروداني.. (1/2)

يقول محمد بن إبراهيم السملالي في الإعلام: “ومن ألطف ما أبدعه وأدق ما صنعه وأجل ما اخترعه الآلة الجامعة النافعة في علمي التوقيت والهيبة، ولم يسبق إلى مثلها، ولا حاذى أحد على شكلها، بل ابتكرها بفكره الفائق، وصنعه الرائق.. وهي كورة مستديرة الشكل، منعمة الصقل، مغشاة ببياض الوجه المموه بدهن الكنان، يحسبها الناظر بيضة من عسجد لإشراقها، مسطرة كلها دوائر ورسوم، قد ركبت عليها أخرى مجوفة منقسمة نصفين، فيها تخاريم وتجاويف لدوائر البروج وغيرها، مستديرة كالتي تحتها، مصقلة مصبوغة بلون أخضر، فيكون لها ولما يبدو من التي تحتها منظر رائق، ومخبر فائق. وهي التي تغني عن كل آلة تستعمل في فني التوقيت والهيئة، مع سهولة المدرك لكون الأشياء فيها محسوسة، والدوائر المتوهمة في الهيئة والتقاطع الذي بينها مشاهد فيها، وتخدم لسائر البلاد على اختلاف أعراضها وأطوالها، وحاصل القول فيها أن الوصف لا يكاد يحيط بها، ولا يعلم قدرها ومزيتها إلا من شاهدها وكانت له معرفة بالعلمين، فيرى ما يذهل الفكر ويحير النظر، ويعلم من اهتدى لاستخراج ذلك للعيان بعد أن كانت القرائح الجيدة تحير في تصوره ذهنا، قد أيد بنور الهدى وإلهام رباني.. [1]، وقد كان أبو سالم العياشي أول من أدخل إلى المغرب آلة من هذا النوع أهداها الروداني نفسه، واستعملها بعد ذلك ابن عمه عبد الله العياشي في الزاوية الحمزاوية لتحقيق القبلة، وتصحيح محراب مسجدها[2].

ويقترح علينا الفاضل محمد الأخضر في كتابه “الحركة الأدبية على عهد الدولة العلوية، (دار الرشاد الحديثة، 1977) في سياق حديثه عن رسالة ابن سليمان الروداني التي يبين فيها كيفية استعمال الكرة سماها “النافعة على الآلة الجامعة[3]، أنه قد يكون من المفيد محاولة إعادة تركيب هذه الآلة اعتمادا على رسالة المؤلف، لأخذ فكرة عن تقدم الفلك في ذلك العصر، كما ألف منظومة طويلة في الفلك وشرحها[4] رد فيها على نظريات بعض الرياضيين، معتمدا على قواعد وبراهين من عند. وإنني أرى أن هذه فكرة قيمة جديرة بالتطبيق، ولطالما دافعت بشراسة عن إحداث أوراش تطبيقية لتنزيل الخبرات العلمية الموجودة في كتب التراث العلمي العربي الإسلامي، وهذا ما أحاول القيام به شخصيا –بإمكانيات متواضعة- في مجالات النبات والطب والفلاحة.. ومن غريب الصدف أن الرياضي والفيزيائي الشهير نيوتن (1643-1727) اخترع بعد موت محمد الروداني بمدة قصيرة قانون الجاذبية الأرضية (سنة 1687م). هكذا يتراكم العلم الكوني ويثمر ويقطف ثماره الفضلاء العقلاء أينما كانوا..

كما كان ابن سليمان الروداني رياضيا، وفقيها ومحدثا، ونحويا، ولغويا، كان كذلك أديبا، وقد اكتسب آثاره النثرية والشعرية طابعا خاصا إن لم نقل غريبا، مثلما هو الحال في الحرف الدقيقة التي كان يمارسها، والآلات الغريبة التي يصنعها. وهذه مقطوعة شعرية يجيب بها أحد أصدقائه، وهو يحيى ابن الباشا الإحسائي، بمناسبة مروره بالمدينة المنورة، في ثمانية أبيات من بحر المديد، رويها الهمزة تتفرع عنها عدة أبيات مختلفة البحر والروى، إذا ما قرئت عموديا أو أفقيا أو جزئيا. ويتركب من الحروف الأولى في الأبيات الأصلية كلمتا (يحيا خذ إشارة إلى الآية الكريمة: “يا يحيى خذ الكتاب بقوة” [ مريم، 11].

ى  يفعت.. غرة بدر.. تباها لامع.. وجها..سمى.. الذكاء
أ  ارتقى.. على الأنام.. ضياه ساطع.. عطره.. شدى.. النداء
ى  يقظ.. فطن أريب.. لبيب شامخ.. المجد.. ذكي.. النهاء
ح  حاكم.. نظم اليتامى.. ذكاه بارع.. شعرا.. سنى البهاء
ى  يقتضي.. شكرا علينا.. ثناه باهر.. الحسن.. بهى.. النقاء
أ  أصله.. عند انفحام.. حباه رافع.. قدرا.. ولى.. اللواء
خ  خطبه.. في نسج.. بديع بحره.. طام.. وفي .. العطاء
ذ  ذراشي.. عبد الخزام.. شذاه هامع.. زهرا.. زهى.. الصباء

يعلق محمد الأخضر في كتابه سابق الذكر على هذه الأبيات بقوله: “ولا حاجة إلى استخراج ما في هذه الأبيات من تكلف ومبالغة، بحيث لا يكاد يبقى فيها شيء إذا استثنينا ما تحتوي عليه من ضروب التكرار والحشو. وقد ينبه لذلك أبو سالم العياشي، فرجا من القارئ أن يتساهل مع الشاعر، ويغض الطرف عما في أسلوبه من ثقل، وفي أفكاره من رتابة: “لما اشتملت عليه من أفنان الفنون، ويانع الغصون[5].

وكتب الروداني على إثر تلك الأبيات نثرا جاء فيه: “دونكما بكرا تدانيها، لأنك أخو أبيها، اقترحها فكر بارد، وقدحها زند خامد“. قال تعالى: “يخرج الحي من الميتوفقتها من القصائد عشرا، وفقتها من النوافخ نثرا، لتكون مكان قصيدتك بما لها، والحسنة بعشر أمثالها. ولهذا ساوت بقصائدها الظاهرة، أبيات قصيدتك الباهرة، فإن لاقيتها فيا فوزها بسعادتها، أو ألقيتها فيا خسارتها في تجارتها، فإن قلت الشعر بالشعر ربي، قلت التفضيل عند المالكية حاصل، والتحصيل بعد المعية فاصل، وقول باهرتك أن القريض على العبيد عسير، بمعنى عند وسبق القلم، فكتب مجل الكاف عينا، والثاء سينا، تذنيبا منه بنكتة كالشمس خفاها، والضياء دجاها[6].

والحال أن صاحبنا الروداني لم يبدع في الأدب كما أبدع في الفلك والصناعات الدقيقة، ولا يضره ذلك في شيء لأنه ليس من أهل الأدب العالي المبرزين فيه، لكنه كان هاويا له.. لقد كان فكر ابن سليمان الروداني علميا أكثر منه أدبيا. فكانت كتاباته النثرية والشعرية، بما فيها من تعقيد وضروب تنسيق لا تخلو أحيانا من مهارة وبراعة، تذكر بالطرق الفنية، والآلات الدقيقة التي تنتجها يد الصناع.

لقد كان الروداني شخصية فذة لا محالة، وقد حاولت في هذه العجالة أن أبرز بعضا من جوانب شخصيته الفريدة، لكن ما أثارني في هذا الفاضل هو شغفه التطبيقي بالعلوم النافعة التي تحتاج كبير فكر وواسع نظر وقدرة على التجريب..

توفي محمد بن سليمان الروداني بدمشق في عاشر ذي الحجة الحرام عام 1094-31 أكتوبر 1683[7] ودفن، بوصية منه، في التربة الايجية بسفح جبل قاسيون، رحمه الله وجازاه عن المغرب والإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..

يتبع في العدد المقبل..

———————————————————–

1. ع. ابن إبراهيم المركشي، الأعلام، 4: 349-350. وقد كان أبو سالم العياشي أول من أدخل إلى المغرب آلة من هذا النوع أهداها الروداني نفسه واستعملها بعد ذلك ابن عمه عبد الله العياشي في الزاوية الحمزاوية لتحقيق القبلة وتصحيح محراب مسجدها، أنظر مجلة تطوان، 1963، عدد 8، ص: 162 مقال م. المنوني.

2. أنظر مجلة تطوان، 1963، عدد 8، ص: 162 مقال م. المنوني.

3. مخطوط المكتبة الحمزاوية، عدد 168، أنظر المرجع السابق، ص: 151.

4. طبعت المنظومة في الهند، وعنوان شرحها. مقاصد العوالي يقلائد اللآلي (مخطوط).

5. انظر ع ابن إبراهيم المراكشي، الأعلام 4: 357، نقلا عن رحلة العياشي.

6. نفس المصدر.

7. وليس عام 1682 كما حسبه ع. بن سودة في الدليل ص: 304، ولا عام 1095 كما في بعض المصادر الاخرى. انظر كتاب النبوغ المغربي، عبد الله  كنون، 1: 285.

أرسل تعليق