Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

قاعدة في التأدب مع العلمــــاء

      أعلى الله عز وجل في كتابه المجيد من شأن العلم والعلماء، وعدهم الإسلام ورثة الأنبياء، وحماة الشرع، الذابين عنه ضد تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين.

      ولأجل هذه المكانة الرفيعة، والمهمة المقدسة المنوطة بهم بحكم الميثاق الإلهي، والإراثة النبوية، لزم التأدب في التعامل معهم في مجالسهم، وعند جريان ذكرهم، وعند لقائهم، وعند الرد على ما قد يكونوا أخطأوا فيه؛ إذ العصمة شرعا لا تصح إلا للأنبياء من البشر.

      ومن نماذج التأدب مع العلماء، هذا المشهد المشتهر من زمن مجتمع القدوة الصالح، فعن الشعبي قال: “صلى زيد بن ثابت على جنازة أمه، ثم قربت له بغلته ليركبها فجاء ابن عباس فأخذ بركابه، فقال زيد: خل يا ابن عم رسول الله، فقال: هكذا نفعل بالعلماء، فقبل زيد يد ابن عباس وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا”[1].

      وأما المشهد الثاني فينتمي زمنا إلى عهد الخلف الصالح، وأقصد به ما ورد في كتاب الاكتفاء للكلاعي رحمه الله وأورده كامل السياق لنفاسته، ولتأصيله لما يجب في حق العلماء من التأدب في القول عند تبين خطأهم في بعض المسائل، فقد نقل نصا لابن إسحاق إمام السير والمغازي يهم بدء نزول القرآن مستشهدا بآيات قرآنية في ذات السياق فقال: “وابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالتنزيل في رمضان، يقول الله عز وجل: “شهر رمضان اَلذي أنزل فيه اِلقرءان هدى للناس وبينات من اَلهدى والفرقان” [سورة البقرة، جزء من الآية: 185]. وقال: “اِنا أنزلناه في ليلة القدر” [سورة القدر، الآية: 1]. إلى خاتمة السورة، وقال: “حم والكتاب المبين، إنا أنزلناه في ليلة مباركة اِنا كنا منذرين، فيها يفرق كل أمر حكيم، اَمرا من عندنا، إنا كنا مرسلين” [سورة الدخان، الآيات: من 1 إلى 5]. وقال: “إن كنتم ءامنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم اَلفرقان يوم اَلتقى اَلجمعان” [سورة الاَنفال، جزء من الآية: 41]. يعني، ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ببدر، وذلك صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان.[2]

      قال الكلاعي رحمه الله في سياق الاستدراك على ابن إسحاق: “وفي صورة هذا الاستشهاد نظر؛ فإن ظاهر قوله سبحانه: “شهر رمضان اَلذين أنزل فيه اِلقرءان”، عموم نزول القرآن بجملته فيه، وكذلك قوله: “إنا أنزلناه في ليلة القدر”، و“إنا أنزلناه في ليلة مباركة”..

      ولم يقع الأمر في إنزاله على رسوله صلى الله عليه وسلم هكذا، بل أنزله الله عليه في رمضان وفي غيره مفترقا آيات وسورا، بحسب سؤال السائلين، أو ما شاء الله من هداية العالمين.

      وقد قيل في قوله تعالى: “شهر رمضان اَلذي أنزل فيه اِلقرءان”؛ أي الذي أنزل في شأنه القرآن، أي نزل الأمر من الله عز وجل بصيامه كتابا يتلى، وقرآنا لا يدرُس ولا يبلى، كما يقال: “نزل القرآن بالصلاة”؛ أي نزل جزء منه بفرضها، و“نزل القرآن في عائشة” وإنما نزلت منه آيات ببراءتها من الإفك، ومثل هذا الإطلاق موجود في الأحاديث والآثار كثيرا، وليسلم أن معنى قوله: “أنزل فيه اِلقرءان”؛ أي ابتدئ فيه إنزاله، فقد قيل ذلك وليس ببعيد في المفهوم، ولا مما تضيق عنه سعة الكلام، ثم نُجري ذلك المجرى الآيتين الأخريين وهما: “إنا أنزلناه في ليلة مباركة” و “إنا أنزلناه في ليلة القدر”، وإن بعد ذلك فيهما لما ورد من الآثار المصححة لحكم عمومها حسبما نذكره بعدُ، فما بال الآية الأخرى التي هي: “وما أنزلنا على عبدنا يوم اَلفرقان يوم اَلتقى اَلجمعان”، وقد أعقبها مفسرا بأن المعنّى بذلك يوم بدر، وهو الحق، وهل كان يوم بدر إلا في السنة الثانية من الهجرة، وبعد اثنتي عشرة سنة من البعث ونزول الوحي، أو بعد خمس عشرة سنة، على ما ورد من الخلاف في مدة مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة، وما زال القرآن المكي والمدني ينزل فيما مضى تلك السنين.

      فإن كان ابن إسحاق عنى ما ذكرناه عنه، ونسبناه إليه، فقد بينا وجه رده، واستوفينا التنبيه عليه، وإن كان عنى غير ذلك فقصر عنه تحرير عبارته، أو سقط على الناقل من كلامه ما كان يفي لو بقي إفهامُه، فالله تعالى أعلم.

      “والرجل أولى منا بأن يُصيب و يسلَم، إلا أنه لا يُنكر أن يغلط هذا البشر، ونعوذ بالله أن نقصد بهذا الاعتداء على ذي علم، أو الغض من ذي حق، فإن العلماء هم آباؤنا الأقدمون، وهداتنا المتقدمون، بأنوارهم نسري فنصبر ونستبصر، وإلى غايتهم نجري فطورا نصل وأطوارا نُقَصر، فلهم دوننا قصب السبق، ولهم علينا في كل الأحوال أعظم الحق، إذا أصابوا اعتمدنا، وإذا أخطأوا استفدنا، وإذا أفادوا استمددنا، فجزاهم الله عنا أفضل الجزاء، ووفقنا لتوفية حقوق الأئمة والعلماء..”.

      فهذه قاعدة جليلة ينبغي التزامها، وأصل عظيم علينا احترامه وإتباعه في التعامل مع علماء الأمة الصادقين والربانيين، والذين جعل الله لهم علامة تميزهم عن غيرهم، وسمة خاصة بهم قال تعالى: “إنما يخشى الله من عباده العلماء” [سورة فاطر، جزء من الآية: 28].

—————————–

  1.  انظر الشفاء للقاضي عياض، ص: 294، طبعة دار الحديث بتحقيق: عامر الجزار.

  2.  الاكتفاء في سيرة النبي والثلاثة الخلفاء: 1/267- 268، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، طبعة مكتبة الخانجي سنة 1968م/1387هـ.

أرسل تعليق