Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

علل التفكير الهوى

      التفكير السليم هو ما خلا من علل الفكر المعلومة مثل: الهوى والوهم والتحيز والتشدد والتهويل والمزاجية والجزئية والسطحية والخرافية والتقوقعية والازدواجية والذي بني على أسس باطلة لا سند لها من وحي صحيح ولا تجربة علمية، وغير ذلك من العلل.

      وفيما يلي توضيح للهوى وإعاقته للتفكير السليم.

      يعرف الهوى بكونه ميلا للنفس تتدرج فيه ليصل حدا يصعب معه التفكير والسلوك بمعزل عن تأثيراته التي تدفع بقوة في اتجاه معين قد يكون صلاحا كما ورد في الحديث “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به”[1] وقد يكون فسادا وهو الغالب عليه بحيث إذا أطلق من غير تقييد عني هذا المعنى المذموم، الذي حذر منه الإسلام ودعا لمخالفته، “وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى” [سورة النازعات، الآيات: 40، 41].

فالهوى حالة النفس المنطلقة بما جبلت عليه من حرية، في مجال الشهوات والملذات الحسية والرغبات المادية على وجه الخصوص، والتطلعات الأنانية المنحرفة، فهي نزاعة لحب كل ما هو متاع قريب ويسهل تحصيله دون التفات للعواقب الناجمة عن ذلك، فمن خصائص النفس البشرية التي حددها القرآن الكريم؛ أنها حبب إليها المتاع الدنيوي، يقول الله تعالى: “زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ” [سورة اَل عمران، الآية:14]. كما أنها ميالة لتعشق هذا المتاع وطلبه من طرقه غير المشروعة وفعل السيئات، “إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي” [سورة يوسف، الآية:53]، وهي أيضا قليلة الإذعان للحق كثيرة التردد في الالتزام بمقتضياته وتحمل نتائجه وتبعاته، “اِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى اَلاََنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى” [سورة النجم، الآية:23]. بل إن الهوى إذا طغى على النفس حملها على رفض كل حق لا يسايره ويتعارض معه، بل إننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنه ما من موقف يعرض للنفس إلا وتواجه بصدده اختيارين إثنين: أحدهما إتباع الحق والعدل والصواب، والآخر إتباع ما تهواه النفس من اللذة والراحة والمشتهيات الذاتية، بحيث إذا لم يتحمل الإنسان مسؤوليته في إتباع الحق والرشد، وتنكب طريق ذلك وتقاعس عنه هجم عليه هواه ودفع به في اتجاهه، وهذا ما يتضح من قول الله تعالى: “فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ اََنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ اَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” [سورة القصص، الآية: 50]. كما نجد مثال ذلك بارزا لدى كفار قريش الذين سألوا الله أن يهلكهم بالعذاب إن كان الإسلام الذي بعث به محمد بن عبد الله هو نفسه الحق الذي ارتضاه الله للناس، في حين كان الأليق بهم والأصلح لهم، لولا سيطرة الهوى على فكرهم، أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأهدنا إليه ووفقنا لإتباعه، “وَإِذْ قَالُوا اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أوِ ِاِيتِنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” [سورة الاَنفال، الآية: 32].

      وهكذا يمكن اعتبار الهوى اندفاع النفس في أمر ما، بدافع التشهي والرغبة الجامحة، دون مجهود فكري كاف لتبين الحق من الباطل، والصواب من الخطأ. وقد أكد رسول الله هذه النزعة لدى أصحاب الأهواء فقال: “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله”[2].

      فالهوى لا يبعد أن يكون تراجعا كبيرا للنفس عن القيام بمسؤوليتها في إعمال الفكر، وإخضاع العاطفة ونزوعاتها لأحكامه، والانضباط بضوابط الشرع والوقوف عند حدوده. إنه اختيار التحرر من قيد العقل والضمير والفطرة والأخلاق، واستثقال تكاليف الشرع وفرائضه وتوجيهاته الهادية لأقوم سبيل.

      وهذا المنحى بارز في مواقف أهل الأهواء التي كشفها القرآن في كل الآيات التي تحدثت عنهم.

      فالذي يحول بين الإنسان وإتباع منطق الشرع والعقل هو الهوى المتفلت من ضوابط العقل والوحي معا، مما يسلم قياد النفس للضلال البعيد.

      “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا اَو فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا” [سورة النساء، الآية: 135] ، فمن أسباب غلبة الهوى الانحياز التلقائي للنفس والوالدين والأقربين وإيثار رضاهم على أداء شهادة الحق، مما يفضي إلى الانحراف عن القسط والإنصاف وقول الصدق، ولهذا ذكر الله في ختام الآية بأنه تعالى خبير بما يعملون ليحاسبهم عن  ذلك يوم القيامة.

      ويفهم من آيات أخرى أن الهوى يتولد عن ضعف نفسي، ناجم عن تزايد الرغبة في نيل المنى وإحراز المطالب، مع التقاعس عن استيفاء شروط ذلك، من بذل المجهود وتحصيل الأسباب اللازمة، وهو ما يعد تعطيلا لسنة الحياة القاضية بأن الذي يتمنى الأخذ فعليه بالعطاء ومن يروم الغنم فلا بد له من احتمال الغرم، وأن طلب العلى من غير تعب ضرب من المستحيل “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي أتَيْنَاهُ أيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ  وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِأيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” [سورة الاَعراف، الآيات: 174-175]. فالإخلاد إلى الأرض والسعي في تحصيل المتاع العاجل، واستمراء العجز عن مخالفة النفس، سمة ثابتة عند أصحاب الأهواء، الذين يميل بهم الفكر مع مرادهم اللاهث وراء المكاسب السهلة التي لا تتأتى إلا من طرق الفساد والمحرمات والدنايا، وتجد ثلة منهم تأمل دخول الجنة والنجاة من النار، مع تشبثهم بمعتقداتهم الواهية وإصرارهم على سلوك الغي والعصيان، “لَّيس بِأَمَانِيِّكُمْ ولَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا  وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ انْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا”  [سورة النساء، الآيات:123 – 124].

      يتأكد مما سبق أن الهوى حالة للنفس تنسلخ معها عن مسؤوليتها العقلية والشرعية، وتتهرب من مستلزماتها الفكرية والاعتقادية، وتعزف عن تحقيق شروطها العملية والسلوكية.
ولذلك فإن علاج الهوى وتطهير الفكر من لوثاته، لا يصير متاحا ومتحققا إلا بتحمل النفس مسؤوليتها كاملة في مجاهدته، واتخاذ ما يلزم من الحيطة والحذر، كي لا تقع ضحية له وهي لا تشعر، “وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى” [سورة النازعات، الآيتان40- 4]، فالخوف من عقاب الله هو البلسم الشافي للهوى، إذ تمتنع النفس تلقائيا عن الانطلاق في أي عمل، إلا بعد تبين حدوده الشرعية وما يلزم فيه من الكيفيات والأوصاف، التي تجعله مطابقا لمراد الله مخالفا لمراد النفس الراكنة بطبعها إلى المشتهيات والملاذ.

      ومن خلال الحديث: “تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا لا يضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود مربدًا[3] كالكوز مجخيا[4] لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه”[5]. يتبين أن الهوى ينشأ في النفس تقبلا لمنكر، وإهمالا لتغييره في القلب ومع توالي تعرضه له، يتحول إلى رضى مشوب بالتلذذ ما يلبث أن يصير رغبة حثيثة وميلا راسخا، تختفي معه القدرة على المخالفة والإنكار، بل قد ينتقل إلى نهج في الفكر، يسوغ ذلك الهوى بأدلة تبدو له ولمن يسير على دربه أنها مقنعة، قال الشاطبي: “مخالفة ما تهواه الأنفس شاق عليها، وصعب خروجها عنه، ولذلك بلغ أهل الهوى في مساعدته مبالغ لا يبلغها غيرهم، وكفى شاهدا على ذلك حال المحبين، وحال من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه، حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال، ولم يرضوا بمخالفة الهوى”[6] وهي حالة توقع النفس في تأليه الهوى والخضوع لأمره ونهيه، ” أَفَرآيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ”  [سورة الجاثية، الآية:23 ].

      فالهوى إذا استبد بالنفس عاق الفكر عن عمله بل وظفه لتسويغ مراداته المتهاوية، وغدا خادما مذعنا له، ومتخليا عن دوره في التوجيه لفائدة الهوى، وأحكامه الجانحة عن الرشد والعدل والسداد.

      وقانا الله شر أهواء نفوسنا ومكن للحق والهدى في قلوبنا آمين.

—————————————-

 1. جامع العلوم والحكم وقال ابن رجب الحنبلي: حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.

 2. مسند أحمد بن حنبل – وأخرجه الحاكم في المستدرك من حديث شداد بن أوس وقال صحيح على شرط البخاري.

 3. مربادا: شدة البياض في سواد.

 4. مجخيا: أى مائلا عن الاستقامة والاعتدال.

 5. مسلم، أحمد، الجامع الكبير للسيوطي، وابن حبان.

 6. الشاطبي، أبو إسحاق. الموافقات، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، ط1. دار ابن عفان، 1417هـ/ 1997م.

أرسل تعليق