Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

عبد الله بن إبراهيم التاسّافتي (3/3)

أنهيت المقال السابق على إيقاع ولع عبد الله التاسافتي بعلم المعادن والتنقيب على مواقعها، وجمع المعلومات حول ذلك.. وهذا لاشك عنصر حياة في هذا الرحالة الكبير، ولكي تكتمل الصورة في بعدها الإنساني أود أن أذكر هواية من هوايات التاسافتي تتعلق بالتنقيب على أماكن الكنوز ووصفها وذكر سياق العثور عليها، لكنه لا يقول أنه عثر بنفسه على شيء منها بل اكتفى بذكر آخرين عثروا عليها. وهكذا نراه يعطي لائحة عن ما وجد أصحاب الباشا عبد الكريم بن منصور “مطامير” عثروا عليها في بلد تالامت. ويخبرنا كذلك بأن أرغن أو هرغة سوس عثروا على كنز “دفينة” يحتوي على قطع نقدية ذهبية وفضية وعلى كمية من الأسلحة المتنوعة ويضيف قائلا: “ويقال إنها من مال الإمام المهدي الذي عندنا في مدينة تينمل بوادي نفيس“، وفي زاكورة زار المؤلف قصبة خربة وكتب ما يلي: “وذكرت فيها كنوز كثيرة مملوكة بعفاريت الجن الروحانيين”.

يتساءل المرحوم علي صدقي أزايكو في مقدمة تحقيق رحلة الوافد: “وبعد هذا، هل يمكن أن نفترض إمكانية وجود عامل مشترك بين التاريخ والآثار والمعادن الثمينة وعلم الفلك، هو الذي جعل مؤلف الرحلة يعطيها مجموعة أهمية ظاهرة؟ ونعتقد أنه ليس من باب المغالطة أن نتساءل بتحفظ عن الدوافع غير المعلنة، التي قد يحتمل أن تكون وراء اهتمامات مؤلف الرحلة. ألا يكون الدافع إلى ذلك هو البحث عن ثروة تمكن من تحقيق طموح سياسي جنين،  طموح قد يستمد مشروعيته إن صح القول من التاريخ الموحدي الذي عرف ولادته ونموه في تينمل بوادي نفيس؟ حقا إننا لسنا مؤهلين لإعطاء الأسئلة المطروحة أجوبة مقنعة، ولكننا نعتقد أنه بإعطاء هذه الأسئلة تفسيرا مجردا من كل طبيعة سياسية يفرضها السياق التاريخي سنكون قد جردناه تعسفا من بعدها السياسي. هذا البعد الذي يوحي به النص بين السطور غني من هذا الجانب بالعبر التاريخية..”.

إن المقصد الكبير من كتابة رحلة الوافد حسب مؤلفها عبد الله بن إبراهيم التاسّافتي كان هو إثبات مجمل الوقائع التي نتجت عن عدم امتثال أبيه، شيخ الزاوية تاسّافت، لأوامر السلطان المولى إسماعيل. وقد ذكر هذا في الصفحة الأولى من رحلة الوافد، حيث يقول: “وبعد فهذه ورقات على نبذة قليلة مما تمس إليه الحاجة من أخبار ما جرى على والدنا رحمه الله تعالى من أول مبدأ سبب هجرته والخروج عن وطنه إلى وفاته بها، ومكثنا من ورائه بأمر الله تعالى هناك، على إذنه والأشياخ، إلى رجوعنا للبلاد.. وضعتها تذكرة للإخوان، ولمن لا يغفل عن دوائر الزمان.. “.

أما الفوائد التي يمكن استخلاصها من الرحلة فمتعددة:

عبد الله بن إبراهيم التاسّافتي (3/3) أنها تضم معلومات وأخبار تاريخية وجغرافية وسياسية وقبلية واجتماعية عن منطقة وادي نفيس أو عن الجهات المجاورة لها، وكذلك عن كل الأماكن التي زارها المؤلف، قبل تحرير مؤلفه. فكتاب الرحلة يشتمل بالفعل على سيل من المعلومات الثمينة عن التاريخ الاجتماعي لسكان جبل أطلس مراكش، في القرن الثامن عشر؛ ويمكن اعتباره كذلك من أهم المصادر التي تعكس آنذاك سياسة المخزن تجاه سكان الجبال بصفة عامة، وتجاه أشياخ الزوايا الذين كان موقفهم من السلطة المركزية يشوبه الكثير من التحفظ.

من الأخبار المحلية المهمة التي نقرأها في رحلة الوافد قصة النزاع الذي وقع بين باشا مراكش عبد الكريم بن منصور التكني وشيخ زاوية تاسافت الحاج إبراهيم المسمى الزرهوني. والذي إلى محاصرة جبال كنفيسة جبال درن الغربي من جهة السفح الشمالي والجنوبي، انتهى بدخول حركة ابن منصور إلى وادي نفسي وتغريم سكانه، وإحراق زاوية تاسافت، وإتلاف بعض ممتلكاتها، والاستيلاء على مدخراتها وذلك في صيف عام 1715م..

نعرف من رحلة الوافد أيضا  نمو سلطة بعض الشيوخ أو إيمغارن مثل يحيى بن عبد الكريم الهرغي، كبير قبيلة هرغة تينمل، وصديق شيخ زاوية تاسافت فإن تدخل المخزن في أطلس مراكش يمكن إدماجه في سياق السياسة الوقائية للمخزن، الرامية إلى الحيلولة دون نمو أية سلطة، كيفما كانت، خارج مدار نفوذه، وفي منطقة الجنوب بالذات، التي لم تنس فيها بعد ذكرى الأحداث التي شهدتها في بداية القرن الثامن عشر بزعامة محمد العالم على الخصوص. وربما يفسر هذا النفوذ المحلي بعض الجوانب التي أحاطت باستهداف زاوية تاسّافت..

ويلخص علي صدقي أزايكو في مقدمة تحقيقه لرحلة الوافد مجال ومضمون الرحلة قائلا:   نعني بمجال الرحلة، الإطار الجغرافي والمجتمعي الذي تعطينا عنه أكثر ما يمكن من المعلومات. وهذا المجال الجغرافي يضم أساسا وادي نفيس، وخاصة حوضه الذي توجد فيه تينمل، بالإضافة إلى روافده العليا: أكنضيس وأوكدمت وأغمار، وأخيرا بلاد إيداوساطوك. أما المجال المجتمعي فيتكون من مختلف المجموعات البشرية المستقرة بوادي نفسي وروافده مضافة إليها مجموعة إيداوساطوك وإمسكالن وإيمدلاون وإيسكساوان وإيكدميوَن كل هذا يكون جغرافيا وبشريا نفس المجال تقريبا، الذي شهد بداية الموحدين الأولى. إن أهمية هذه المصادفة بالنسبة إلى الباحث، تكمن في كون هذا الأخير، يمكنه أن يتتبع تطورا مجتمعيا يكاد يستحيل تتبعه في مناطق أخرى من سلسلة جبال الأطلس. ومما يساعد على أن يكون هذا التتبع ممكنا أكثر، وجود مصادر أخرى وسيطة، يمكنها أن تملأ ولو جزئيا، الثغرات الفاصلة بين العصرين”.

من جهة أخرى، تحتوي الرحلة على معلومات مفيدة عن سكان وادي نفس، وإيداومساطوك وإيمدلاون، وإيمنتاكن وعن المجموعات المجاورة. وتعطينا كذلك إشارات حول اقتصاد الجبل، وأخرى عن بعض ما عرفته المنظفة من مجاعات. كل هذه المعلومات وغيرها، يمكن استغلالها في إطار دراسة شاملة لإعادة بناء صورة تجسم على وجه التقريب أنماط عيش سكان الجبال في ذلك العصر، وهذا عمل يحتاج إلى نفس طويل..

تكشف لنا رحلة  الوافد أيضا عن الدور الرئيسي الذي كان الشيوخ أو إيمغارن يقومون به في الحياة السياسية لمجتمعات المنطقة. فعددهم المرتفع نسبيا، واحتكارهم للشؤون العمومية، والغياب شبه التام لمجالس إينفلاس أو أيت أربعين أو الجماعة، دليل على أن هذه المجالس فقدت سلطة القرار. وبذلك بدأن السلطة الفردية تتغلب على السلطة الجماعية منذ ذلك الوقت أو قبله. وستبلغ أوجها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين مع ظهور أسرة أيت تكمنافت أي كنتافة.

إن موقف سكان تلك الجبال من المخزن في هذه الفترة، كان بشكل عام موقفا معارضا، لكن سكان الجبال لا يطعنون في مشروعية السلطة المركزية ما دامت تغض الطرف عنهم.

أما موقف شيخ زاوية تاسافت؛ فإنه قلما يختلف عن موقف إخوانه سكان الجبل، وذلك بالرغم من الحياد الذي يظهره كلما اضطر إلى الإعلان عن موقفه تجاه السلطة المركزية. يوجد مع ذلك الاختلاف دقيق، يتمثل في كون الحاج إبراهيم شيخ الزاوية رغم أنه يعترف بخضوعه لخلائف الله في الأرض، يتلافى ذكر المولى إسماعيل باسمه.

وفيما يخص صاحبنا عبد الله، مؤلف الرحلة يمكن القول بأن موقفه لم يكن إيجابيا من السلطة المركزية، وقد  وصف إمام  وقته، بأنه غير عادل عكس ما كان عليه الأمر في عهد الخليفة عمر.

تشتمل رحلة الوافد كذلك على أخبار تتعلق بمناطق أخرى مجاورة، غير نفيس ونواحيه القريبة. نذكر منها تلك التي تعطينا معلومات هامة ومدققة على التعليم في تافيلالت أيتتامنت وكذلك في سوس الأعلى أي إيمين، واسيف.. هذه المعلومات تكوّن حلقة هامة يمكنها إذ أضيفت إلى أخرى مثل التي توجد في وفيات الرسموكي ومناقب الحضيكي وفوائد التامانرتي ومؤلفات محمد المختار السوسي..، أن تملأ ثغرة تعرقل كل محاولة للتعرف على تاريخ التعليم في هذا الجزء من منطقة سوس..

في الختام أشير إلى  أن الكولونيل جوستنار قد ترجم كتاب رحلة الوافد إلى الفرنسية، غير أنه أخطأ في اسم مؤلفها (La RIHLA DU Marabout de Tasaf: Sidi Mohammed (sic) ben Haj Brahim ez-zerhone, Notes sur l’histoire de l’Atlas, texte arabe de 19éme siécle, traduit et annoté par le colonel justinard, 1 vol. in 80 de 212 p. et 2 carte. (Publication de la section Historique du Maroc. Doccument d’histoire et de géographie marocaines, Geuthner, Parie 1940، وبالفعل فإن اسمه الحقيقي هو عبد الله بن الحاج إبراهيم الزرهوني، وليس محمدا، وقد وقع في الخطأ نفسه الركراكي وعلوش، وكذا عبد السلام بن سودة، في حين نجد أن عباس بن إبراهيم التعارجي في الأعلام والمختار السوسي في ملاحظة تصحيحية كتبها على هامش نسخة مكناس،  يؤكدان أن اسم كاتب الرحلة هو عبد الله بن الحاج إبراهيم الزرهوني التاسافتي.

إذا كان الصمت يحيط بتاريخ ازدياد التاسافتي، فالصمت نفسه يحيط بتاريخ وفاته. لكن محقق رحلة الوافد بدل مجهودا لوضع تاريخ تقريبي لوفاة عبد الله التاسافتي معتمدا على المعطيات التالية: أول تأريخ أعطي بمناسبة الزيارة التي قام بها محمد الجبلي، الكاتب السابق لباشا مراكش عبد الكريم بن منصور، إلى تاسافت سنة 1142هـ 1730م، والتأريخ الثاني مستنتج من الفقرة التالية: “وبين دولة الإمام المهدي إلى وقتنا هذا الذي صنفنا به الرحلة ستمائة سنة ونصف المائة“، ويضيف بعد ذلك قائلا: “خرج الإمام المهدي من وطنه بسوس ببلد هرغة لطلب العلم في المشرق سنة خمسمائة” إننا نعتقد أن هذا التاريخ الأخير هو الذي اعتبره المؤلف بداية عصر أسرة الإمام المهدي..

فإذا أضفنا 500 إلى 650 المذكورة أعلاه نحصل على 1150هـ وهو التاريخ الذي كتب فيه الرحلة في نظر علي صدقي أزايكو، وهو كذلك أقرب تاريخ من تاريخ وفاة المؤلف. يمكننا أن نستخلص إذن أن عبد الله بن إبراهيم، مؤلف الرحلة، الذي كان لا يزال حيا في سنة 1150هـ/1738، وافته المنية في تاريخ متأخر قد لا يكون بعيدا عن التاريخ المذكور سابقا وآنذاك سيكون قد تجاوز الستين من عمره، إذا أخذنا بعين الاعتبار ما افترضناه بخصوص تاريخ ولادته. رحم الله التاسافتي وجازاه عن تاسّافت والمغرب خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه.

أرسل تعليق