Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

صمود الإسلام

الصراع بين العقائد أمر قديم قدم الإنسان فمنذ أن أخذت الإنسانية تتمايز في شكل مجتمعات خاصة كل واحد منها ينطبع بطابع خاص حسب ظروفه، وحسب المؤثرات التي تحيط به، منذ ذلك الوقت والصراع لنشر العقيدة أو للدفاع عنها محتدم قوي، لا يهدأ إلا لينهض من جديد، ولا ينام إلا ريثما تتهيأ أسباب الصراع لمرة أخرى.

وحظ العقائد المتفاعلة من الانتصار أو الانهزام مرهون بقوتها في نفوس أنصارها، ومتوقف إلى حد بعيد على الأسباب المادية التي يتوفر عليها أنصارها، والمحاربون في سبيلها فقد اضمحلت كثير من العقائد وزالت من الوجود؛ إما لأنها لم تكن ذات ارتكاز في النفوس؛ وإما لأن المدافعين عنها يفقدون القوة المحسوسة ولا يستطيعون تنظيم الدفاع  أو الهجوم والإسلام بحكم طبيعة الكون تعرض لهذا الامتحان في تاريخه الطويل، واصطرع منذ فجر الدعوة مع العقائد التي وجدها مسيطرة إذ ذاك، واستطاع أن ينتصر عليها، وأن يزيحها من طريقه، وبقى سيد الموقف قرونا طويلة؛ لأن قوته السياسية والعسكرية تفوق القوات المناهضة؛ ولأن عقيدته تنسجم مع الإنسان إلى حد بعيد، وعمل الزمن عمله في هذه القوى من حيث اطمئنان المسلمين إليها، واعتقدوا أن لا قوة تستطيع إعادة الكرة عليهم، وغفلوا عن سر عظمتهم الماضية، وضيعوا السنن الكونية التي أمرهم الله بالاعتبار بها، فلم يكد ينتصف القرن السابع حتى ظهرت لها حسابها ولم يفكروا في الاستعداد لها حتى فاجأتهم..

صمود الإسلاموهكذا اكتسح قبائل التتار العالم الإسلامي من شرقه وعاثوا فيه قتلا وتخريبا وتحريفا حتى انطمست معالمه، وقضى على مدنيته الزاهرة المشرقة، وأصبحت مدنه التي كانت عرائس مجلوة خرائب خالية، ولم يقف التتار دون أن يحتلوا العاصمة الإسلامية الكبرى بغداد وصيروها أثرا بعد عين.

وعانى العالم الإسلامي بعد ذلك أمواج الصليبيين الذين تمكنوا من الاستيلاء على بعض سواحله بعد ما خربوا وأفسدوا وقتلوا ونهبوا، ولم ينج من أولائك وهؤلاء ألا رقعة صغيرة كانت فيما بعد هي الخميرة التي اعتمد عليها الإسلام ونهض من كبوته، وقد اعتقد كثير من الناس آنذاك أن الإسلام بحكم قوة العقيدة وبساطتها استطاع أن يكسب الجولة، وأن ينفذ إلى قلوب قبائل التتار الهمجية فاعتنقته عن إيمان وأصبحت من أكبر أنصاره بعد أن كانت من أعدائه.

وهكذا برهن الإسلام عن صمود ما له من مثيل وأبان عن حيوية ومرونة استطاع أن يخرج ناجيا منتصرا وأن خسر أراضي لا تزال مثار الحسرة إلى ألان.

وتعرض الإسلام في تاريخه الحديث إلى امتحان أعظم من الامتحان الماضي وبلاء أقسى من الابتلاء الأول، إذ تداعت عليه الأمم الاستعمارية الأوروبية بخيلها ورجالها وعلمها وثقافتها ونظامها المحكم، ودعايتها الهدامة، وتمكنت من القضاء على قوته السياسية والعسكرية ولم يهل القرن العشرون حتى ظن الظانون وأرجف المرجفون أن سلطان الإسلام قد انتهى، وأن عقيدته قد أصابها الانحلال، وجعلوا يترقبون خروج جماهير المسلمين عن عقيدتهم..

ولكن الإسلام أبان من جديد عن صمود لم يظهر في تمسك المسلمين بعقيدتهم فحسب، بل في انتشار هذه العقيدة بين أمم أخرى فدخل في الإسلام في القرن التاسع عشر ملايين من سكان إفريقيا السوداء وبهذا دلل الإسلام عن صمود قوي، وطاقة جبارة، وحيوية عظمى، وذلك من بساطة عقيدته، وتخلق المسلمين بخلق المساواة والتسامح وغيرها من الأخلاق التي غرسها الإسلام في نفوسهم بتعاليم القرآن الكريم وسيرة الرسول عليه أزكى الصلاة والسلام..

 

دعوة القرآن، ص: 59-63 الطبعة الأولى 1966م، مطبعة الرسالة الرباط..

أرسل تعليق