Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

دور “المعلم” في تكوين الشباب

      من البديهي أن مهمة كمهمة المدرسة الموكولة إليها من طرف المجتمع لا يمكن أن يقوم بها كل شخص، وأن رسالتها المقدسة لا يستطيع أن يضطلع بها كل إنسان، وقد قضت حكمة الله بتوزيع المواهب والاستعدادات توزيعا متكاملا، وتبعا لاختلاف المواهب والاستعدادات اختلفت الملكات وتنوعت الحرف والصنائع، فكان للحقل الفلاحي أهله، وكان للعمل الصناعي أهله، وكان للوسط التجاري أهله، وهكذا كان للتربية والتعليم رجالهما المختصون بهما، والعاملون في حقلهما.

      ذلك أن التجارب الكونية والحقائق العلمية لا يستوي في معرفتها كل الناس، وإنما يعرفها على الوجه اللائق فريق منهم، وهذا الفريق الذي يعرفها ليس كله مؤهلا لهضمها وتلقينها لغيره التلقين الصالح، فكم من مثقف “عملاق” ينقلب إلى “قزم” بمجرد ما يواجه تلاميذه الصغار، وكم من متوسط في الثقافة ينال إعجاب الصغار والكبار. ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى انتقاء طائفة مختارة من نوع خاص، وذات مؤهلات خاصة، توكل إليها مهمة التربية والتعليم في المدرسة، وتوضع بين أيديها فلذات الأكباد، وبالتالي يوكل إليها مصير الأمة والدولة معا…

      فما هو إذن دور المعلم في المدرسة؟ هل هو دور تعليمي أكثر منه دورا تربويا؟

      هل هو دور تربوي أكثر منه تعليميا؟

      أم هو دور مزدوج تربوي وتعليمي في آن واحد وفي كل وقت؟

      الواقع أن كثيرا من المعلمين يعتقدون مع الأسف أن عملهم يبدأ وينتهي في تلقين تلامذتهم جملة من المعلومات أثناء الحصص المقررة.

      ويعتقدون أن ما ألقته الدولة على عاتقهم نيابة عن المجتمع لا يتجاوز هذا العمل اليومي المحدود، وتبعا لذلك لا يهتمون أي اهتمام بالناحية التربوية لتلاميذهم، ولا يلقون أي بال لتكوينهم الإنساني والخلقي، فالمدرسة في نظر هذا النوع من المعلمين هي معمل خاص لحشو أدمغة التلاميذ بما تيسر من المعلومات لا أقل ولا أكثر، والمعلم الذي يؤمن بهذه النظرية لا يجد أدنى غضاضة في أن يكون مستواه الخلقي والتربوي هو نفسه منخفضا إلى أدنى الدرجات، فضلا عن مستوى تلاميذه الذين لا يهمه أمر تربيتهم لا من قريب ولا من بعيد، وهذه النظرة السلبية المنبثقة عن الأنانية الضيقة واللامبالاة تنزل بالمدرسة من عليائها إلى الحضيض، وتحط من مكانتها الأدبية والخلقية، وتنزع عنها حلة القداسة الخاصة التي أضفاها عليها المجتمع.

      حقا إن المجتمع عندما اهتدى إلى اختراع “المدرسة” إنما أراد منها أن تكون حقلا تربويا وتعليميا في آن واحد، بحيث تلقن للأجيال الصاعدة، نيابة عنه، أنفع التجارب وأفضل العقائد وتربي الأجيال الصاعدة على أكرم الأخلاق وأرفع التقاليد، فالمدرسة في نظر المجتمع هي الحصن الحصين لحفظ كيان الأمة المادي والروحي، وهي المؤتمنة على ضمان تسلسل وجود الأمة، واستمرار مقدساتها جيلا بعد جيل، فلا يعقل أن تتنازل المدرسة عن مهمتها التربوية الأساسية، وتكتفي بالجانب التعليمي الآلي الصرف، ولا يقبل منها أن تقف موقفا سلبيا من تراث الأمة الروحي والأدبي، أو تجعله على الهامش بالنسبة لغيره، وصدق ملكنا المربي الرائد جلالة الملك الحسن الثاني عندما قال في خطابه في السنوات الأولى من عهده السعيد، وهو يفتتح “عملية الكتاتيب القرآنية” التي لها ما بعدها: “إن التثقيف لا يمكن أن يكون تثقيفا ذا جدوى وفعالية إلا إذا كان مبنيا على قاعدة من الأخلاق والمبادئ مثل ما بني الإسلام على خمس، وتفرعت عن تلك القواعد الخمس قواعد أخرى للمعاملات والعبادات”.

      إن المدرسة في الواقع هي عبارة عن بستان، وأشجار البستان وأزهاره هي فلذات أكبادنا، والمعلم في المدرسة هو “البستاني” الماهر الرقيب على نمو أشجارها وازدهار زهورها، ولا شك أن مهمة البستاني زيادة على الغرس والسقي يدخل فيها بالأصالة كل ماله علاقة بالتشذيب والتهذيب، حتى يكون بستانه جميل المنظر، طيب المخبر متناسق الأجزاء، وهو مكلف بحماية البستان من تسلسل الجراثيم وتطفلها على الأشجار والأزهار، ولا يقبل من البستاني أن ينظر إليها متثائبا وهي تتعرض للنحول والذبول، دون أن يسرع إلى إنقاذها، ويعالجها العلاج المناسب، وإلا فإن البستان الذي وضع بين يديه سينقلب في زمن قصير إلى ساحة جرداء، بل إلى غابة تسكنها الأفاعي المسمومة، وتسيطر عليها الحشرات الضارة.

      إن قرة أعين الآباء هم فلذات الأكباد من الأبناء، وهؤلاء الأبناء هم رصيد الأمة الوحيد، ورأس مال الدولة العتيد. وأعز أمنية يتمناها الآباء لأبنائهم، وأكبر أمل تعلقه الأمة والدولة عليهم، هما في أيدي “المعلمين” ومن صنعهم قبل غيرهم من بقية الناس، ولا يكفي في القيام بهذا الواجب الملقى على عاتق المعلمين أن يعتنوا بالجانب التعليمي وحده، ويهملوا الجانب التربوي، بل عليهم أن يكونوا “مربين ومعلمين” في آن واحد، لا معلمين غير مربين، وأن يعتبروا أنفسهم “مصلحين ومبشرين” لا مجرد موظفين محترفين، وبذلك يستحقون تقديس المجتمع، وينالون رعاية الدولة، ويؤذون للأمة أجل الخدمات، ويصدق عليهم وفيهم قول أمير الشعراء، أحمد شوقي:

قم للمعلـم وفـه التبجيـلا        كـاد المعلم أن يكـون رسولا

جريدة منبر الرابطة، الخميس 26 ربيع الأول 1413هـ، الموافق 24 شتنبر 1992 العدد الثاني عشر السنة الأولى.

أرسل تعليق