Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

ابن سيدة المُرْسيّ

      شخصية هذه الحلقة عالم موسوعي عاش خلال القرن الخامس الهجري بالأندلس، وخلف آثار علمية في علوم اللغة والأدب والمنطق، واشتهر خصوصا بتفوقه في “فن المعاجم”.. إنه العلامة الأندلسي المغربي ابن سيدة المُرْسيّ..

      هو أبو الحسن علي المعروف بابن سيدة، اختلف المؤرخون في اسم أبيه، فقال ابن بشكوال في كتابه “الصلة” أنه إسماعيل، وقال الفتح بن خاقان في “مطمح الأنفس” أنه أحمد، ومثل ذلك قال ياقوت الحموي في “معجم الأدباء”، وقد غلبت كنيته بابن سيدة على اسم أبيه..

      ولد في مرسية شرق الأندلس، حوالي السنة 398 هـ-مع اختلاف بين المؤرخين-، وكان أعمى، ووالده أعمى، وكان أبوه من النحاة، وتوفي سنة 458هـ.

      درس ابن سيدة على أبيه، وروى عنه، ثم  درس على العالم النحوي الشهير صاعد بن الحسن البغدادي، من الوافدين على الأندلس، ودرس على أبي عمر أحمد الطلمنكي.

      رحل ابن سيدة إلى المشرق، وزار مكة والمدينة، وكان على تبحره في اللغة والنحو، كثير العناية بالمنطق، وأثر المنطق ظاهر في كتابيه “المخصص” و “المحكم”..

      يقول السيوطي في “بغية الوعاة”: “لم يكن في زمانه أعلم منه بالنحو واللغة والأشعار وأيام العرب وما يتعلق بها متوفرا على علوم الحكمة”.

      يجمع مترجمو ابن سيدة على الإشادة بموهبته الشعرية، بل إننا لنجد بعضهم يشير إلى ميله الأولي للنحو واللغة وتمكنه منهما، يبرز أهمية شروحه الأدبية حول بعض المصنفات؛ وإلى هذا كان يهدف ابن خاقان حين كتب في مطمحه يقول: “إمام في اللغة والعربية، وهمام في الألفة الأبية، وله في ذلك أوضاع للأفهام أخلافها استدرار واسترضاع، حررها تحريرا، وأعاد طرف الذكاء فيها قريرا”.

      لابن سيده مصنفات كثيرة في اللغة، والنحو، والعروض، والشعر، والمنطق، لم يصل إلينا منها إلا القليل. وأمّا الكتب التي وصلت إلينا فثلاثة: المخصص، المُحكم والمحيط الأعظم، وشرح مشكل شعر المتنبي، بالإضافة إلى أرجوزة نشر جزءا منها الأستاذ حبيب زيات في مجلة المشرق، عدد 36..

      في الوقت الذي يكتفي فيه الحُميدي والضبي من بين جميع المؤلفين المعنيين بالترجمة الخالصة لابن سيدة والإشارة إلى نتاجه دونما تعيين أو تحديد أو تسمية كتاب واحد من كتبه، يطالعنا ابن خير الاشبيلي في فهرسته وقد صب اهتمامه فقط على إحصاء مؤلفات الرجل دون العناية بحياته، فجاءت مساهمات مترجمي ابن سيدة متكاملة. ويعد كل من الحميدي وصاعد الطليطلي وهما من معاصري ابن سيدة حجة في ترجمته وذكر كتبه، وقد أفاد منهما جل مترجميه من بعدهما..

      يقول المستشرق الاسباني داريو كاباريناس رودريكس في دراسته حول “ابن سيدة” نشرت في مجلة المناهل بترجمة وتعليق الأستاذ حسن الوراكلي:

      إن النزوع الفكري لابن سيدة يبتدئ في ثلاثة مجالات: أولها “صناعة المعاجم”Lexicographie حتى حين يندرج في ذلك فقه اللغة والنحو؛ وثانيها مجال الشعر؛ وثالثها مجال الفلسفة ولاسيما المنطق.. ويبدو أن صاحبنا ابن سيدة المرسي كان شديد الشغف بصناعة المعاجم… يقول المستشرق كاباليناس رودريكيس: “أننا محظوظون بامتلاك نموذجين من آثاره في هذا المجال وهما: المحكم والمخصص (مجلة المناهل، عدد 4، نونبر 1975).

      لابن سيدة شروح منها “كتاب شرح العالم والمتعلم على المسألة والجواب”، ولا شك أنه شرح على كتاب “العالم والمتعلم” المعزو خطأ لأبي حنيفة النّعمان ابن ثابت؛ لأن الذي ألفه، فيما يبدو، هو أحد تلامذته.. والشرح الثاني هو “كتاب شرح إصلاح المنطق” حسبما رواه صاعد الطليطلي وياقوت الحموي والصفدي والسيوطي… كتاب آخر لابن سيدة في مجال الشرح هو شرح كتاب “الأخفش”، ونجده مذكورا عند ياقوت والصفدي والسيوطي، ومع أن “الأخفش” لقب عرف به اثنا عشر نحويا عربيا أحصاهم جلال الدين السيوطي في “المزهر”؛ فإن أشهرهم ثلاثة، اثنان من مدرسة البصرة والثالث من مدرسة بغداد؛ أولهم هو “الأخفش” الأكبر (أو الكبير) أبو الخطاب عبد الحميد بن المجيد المتوفى عام 177هـ، وقد أخد عن أبي عمر بن العلاء، ويبدو أنه كان أول من عنى بإملاء شرح للشعر العربي القديم، وأشهر تلامذته سيبويه وأبو زيد وأبو عبيدة والأصمعي. والثاني هو “الأخفش” الأوسط، ويعد أشهرهم على الإطلاق، واسمه أبو الحسن سعيد بن مسعدة البلخي، وقد تلمذ على سيبويه، وكانت وفاته بين سنتي 210 و221هـ. والثالث هو “الأخفش” الأصغر، أبو الحسن علي بن سليمان ابن المفضل، أخذ عن المبرد وثعلب، وتوفي عام 315هـ، وهو الذي أذاع في مصر أبحاث المدرسة البغدادية، وحسب ما في فهرسة ابن خير الاشبيلي؛ فإن كتابا صنفه “الأخفش” الأصغر في النحو كان موضع عناية ودرس وشرح في الأندلس، ومن المرجح جدا أن يكون هذا الكتاب نفسه هو الذي شرحه ابن سيدة” (المستشرق كاباليناس، المناهل عدد 4، 1975).

      ومن بين الشروح الأدبية التي كتبها ابن سيدة كتاب “الأنيق في شرح الحماسة” شرح فيه ما ضمنه أبو تمام حبيب بن أوس الطائي المتوفى سنة 231هـ من شعر الشعراء القدامى في منتخبه المعروف. أما الشرح الثاني فهو “شرح مشكل أبيات المتنبي”، ويرى كاباليناس رودريكيس أن ابن سيدة ربما اقتدى في شرحه هذا بأبي القاسم إبراهيم بن الافليلي المتوفى سنة 441هـ الذي يعود له الفضل في تأليف أول شرح عرفه المغرب الإسلامي على شعر أبي الطيب المتنبي”..

      إن “شرح المشكل في شعر المتنبي” لابن سيدة  ليس شرحاً لكل أبيات الديوان، وإنما اقتصر فيه صاحبه على ما كان سببا للخصومة، ومثاراً للجدل، مما أشكل من أبيات المتنبي، وما استغلق من معانيه، وما استبهم من تراكيبه. وأكثر فيه من الاستشهادات النحوية والآراء اللغوية، والنقل عن سيبويه خاصة وأبي علي الفارسي. ورأى في هذا الجانب من شعر المتنبي مادة خصبة، تشبع رغبته في البحث عن دقائق النحو والتصريف. وقد ألفه ابن سيده المرسي بعد (المخصص) و(المحكم)، وفي الكتاب إشارات تبين أنه ألفه بعد الفراغ منهما، كقوله في شرح بيت لذي الرمة (وقد أثبت هذا في كتابي الموسوم بالمخصص في اللغة) وقوله في شرح بيت للمتنبي (وقد أثبت الأُيُّل واشتقاقه ووزنه وتكسيره وما فيه من اللغات في كتابي الموسوم بالمحكم).

      كان أول من تحدث عن اهتمام ابن سيدة بالفلسفة، وأشار إلى تصنيفه فيها القاضي الجياني (صاعد الطليطلي)، وقد نقل ياقوت الحموي كلام الجياني فيما بعد عن نسخة من كتابه تعتبر اليوم مفقودة: “كان مع إتقانه لعلم الأدب والعربية متوفرا على علوم الحكمة وألف فيها تأليفات كثيرة”.. وإنا نجد ابن سيدة ينصح باقتناء العلوم الأولى (المنطق، الطب، الرياضة)، وينهى عن العناية بالفلسفة الخالصة لكونها في تقديره ضارة بالدين الإسلامي، وذلك ما يوضحه في هذه الأبيات التي تضمنها حرف النون من أرجوزته المشار إليها آنفا (مجلة المشرق، عدد 36، ص: 188):

      لا تعبـأن مقالــة الفلاسفة          فإنها للغيب غيــر كاشفـة

      وإن تنل منهـا فحد المنطق         أو الحساب أو بطب فاعْلق

      وغير ذا من غامض الطبيعة         مضـرة في هذه الشريـعــة

      ومن حسن حظنا -يقول كاباليناس- أن يشق “المحكم” اليوم طريقه إلى النور بفضل سهر اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية التي رأت كما يقول عميد الأدب العربي طه حسين في تصديره لهذا المعجم: “إن نشر هذا الكتاب خدمة جليلة للغة العربية، فهو إحياء لكتاب خطير يجب أن يحيا، وهو إحياء لعالم جليل من أئمة اللغة في الأندلس، ومن حقه أن يظهر فضله، وينتفع الناس بعلمه في هذه العصور الحديثة، كما انتفع به القدماء قبل أن تعرف المطبعة ويسهل النشر، ويتاح للناس إحياء ما مضى من مجد أجيالهم القديمة..” (المحكم، ج1، القاهرة 1958). ويمكن اعتبار كتاب “المحكم” كإحياء لمنهج الخليل الفراهيدي…

      وهذا نموذج من “محكم” بن سيدة يقول: “والرَّغْرغة: أن تشرب الإبلُ الماء كل يوم، وقيل: هي أن تَردّد على الماء في اليوم مرارا. وقيل: هو أن يسقيها يوماً بالغداة ويوماً بالعشي. قال ابن الأعرابي: هو أن يسقيها سقيا ليس بتام ولا كاف.

      ورَغْرغ أمراً: أخفاه. (الغين واللام) الغُلّ، والغُلّة، والغَلَل، والغَليل، كله: شدة العَطش وحرارة الجوف. وقيل: هو العطش قَلَّ أو كَثُر. رجل مَغلول، وغليل، ومُغْتَلٌّ. وبعير غالٌّ وغَلاّن: عطشان. غَلّ يَغَلّ غُلّة، واغْتلّ. وربما سُمِّيت حرارة الحُب والحُزن: غَليلا. وأغلّ إبله: أساء سَقيها فصدَرت ولم تَرْوَ. والغل: الغِش والعَداوة والحقد والحَسد. وفي التنزيل: “ونَزعنا ما في صُدورهم من غِل”.

      قال الزَّجّاج: حقيقته، والله اعلم: أنه لا يَحسد بعض أهل الجنة بعضا في عُلو المرتبة؛ لأن الحسد غِلّ، وهو أيضاً كَدر، والجنة مُبرَّأة من ذلك. غَلّ صدرُه يَغلّ غلاًّ. ورجل مُغِلٌّ: مُضِبٌّ على حِقْد. وغَلّ يَغُلٌّ غُلولا، وأغلك خانك. وخص بعضهم به الخون في الفيء. وأغلّه: خَوّنه، وفي التنزيل: وما كان لنبي أن يَغلّ. والإغلال: السرقة، وفي الحديث: لا إغلال ولا إسلال. وأغلّ في الجلد: أخذ بعض اللحم والشَّحم معه في السَّلخ. وذهب السكين غَلَلاً: دخل بين اللحم والإهاب. والغَلل: داءٌ في الإحليل، مثل الرَّفَق، وذلك ألا يَنْفُضَ الحالب الضرع فيترك فيه شيئا من اللبن فيعود ماء أو خَرَطاً. والغُلّة: ما تواريت فيه. عن ابن الأعرابي. والغَلَل: الماء الذي يَتَغلغل بين الشَّجر وقيل: هو الظاهر الجاري.

      وقال أبو حَنيفة: الغَلَل: السَّيل الضعيف يسيل من بطن الوادي، أو التلع في الشجر، وهو في بطن الواد، وقيل: أن يأتي الشجَر غَللٌ من قبل ضَعفه واتِّباعه كل ما تواطأ من بطن الوادي فلا يكاد يرى، ولا يتبع إلا الوطاء. والغِلاَلة: شعار يُلبس تحت الثوب؛ لأنه لا يتغلّل فيها، أي: يُدخل. وغَلَّل الغِلالة: لبسها تحت ثيابه، هذه عن ابن الأعرابي. والغُلّة: الغِلالة. وقيل: هي كالغِلالة تُغَل تحت الدِّرع، أي: تُدخل. والغَلائل: الدُّروع. وقيل: بطائن تلبس تحت الدروع. وقيل هي مَسامير الدُّروع التي تجمع بين رُؤوس الحَلَق؛ لأنها تُغَل فيها، أي: تُدخل. واحدته: غَليلة (المحكم لابن سيدة، تحقيق عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، 2000 م- بيروت)..

      وتجدر الإشارة إلى أن كتاب “المخصص” يشتمل على أبحاث زراعية مبثوثة جديرة بالذكر والانتباه، وهي كبيرة الفائدة في الدلالة على شمول المعرفة عند ابن سيدة المرسي، وعقليته العلمية في التحري والتتبع والاستقراء، وقد تناولت هذه الأبحاث موضوعات الأرض، ونعومتها وما يتعلق بها من خصب وجدب، وخفوض وارتفاع واستواء، ومن صحة ووبال، وحرث وإنبات، وما يتعلق بها من جهة العشب والكلأ. وهناك أبواب في الشجر من حيث أوصافها وتوريقها وتنويرها… إلى غير ذلك مما يتعلق بأمور الأشجار والأوراق والثمار وعيوب فيه، مما يبرز القيمة العملية لأعمال ابن سيدة.

      وفيما يلي مقتطف من كتاب “المخصص”، ويبدو من خلاله العلامة ابن سيدة متمكنا من المادة اللغوية بشكل منقطع النظير، مع استدعاء أقوال علماء اللغة بشكل طريف (ابن السكّيت، ابن عبيد، أبو علي القالي، ابن دُريد…)، مما أضفى على كتابه أصالة وعمقا واستيعابا.. والغريب هو كيف لا تستفيد مدارسنا ومعاهدنا من مثل هذه المعاجم الرائعة التي لو استغلت وعم نفعها لساهمت في النهوض باللغة العربية ببلادنا كما كانت في السابق وأكثر.. وهي بالإضافة إلى فوائدها اللغوية الصرف تنطوي على خبرات إنسانية وكونية نظرا للحمولة العلمية والثقافية للمصطلحات الواردة فيها، وما أعظمها من فوائد لو كنا ندرك قيمتها وضرورتها في حياتنا..

      يقول ابن سيدة حول مادة: “الأبْنِيَة من الخِبَاء وشِبْهه”: أبو عبيد: من الأبْنَية الخِبَاء وهو من وَبَر أو صُوفٍ ولا يكونُ من شَعَر وقد أخْببت وخَبَّيْت وتَخَبَّيْت. ابن السكّيت: أَخْبَيْنا خِبَاءنا نَصَبْنَاه واسْتَخْبَيْنَاه نَصَبْنَاه ودَخَلْنَا فيه. ابن دريد: الخِبَاء مشتَقِّ من خَبَأْت خَبيأ وقال تَخَبَّأْت خِبَاء. قال أبو علي: أصل هذه الكَلِمة التَّغْطِية ومنه أَخْبِيَة النَّوْر والزَّرْع وهي أوْعِيَتُه، وأن تكون هَمْزة في موضُوعها أوْلَى بالاشتقاق. أبو زيد الخِبَاء: ما كان على طَريقة واحدةٍ، وقالوا: تَخَبَّيت كِسَائِي جَعَلْتُه خِباء. ابن دريد: الأخْبِية: بُيوتُ الأعْراب، فإذا ضَخُم الخِباء فهو بَيت، وقد تقدَّم تَكْسيرُه، فإذا كان أعظمَ من ذلك فهو مِظَلَّة. أبو عبيد: الإِطْنَابة المِظَلَّة. قال أبو علي: وبه سُمَّيَت إِطْنَابةُ القَوْس، وهي السَّيْر الذي يكونُ على رأسِ الوَتَر. ابن دريد: فإذا جاوَزَ ذلك فهو دَوْحة وذلك تَشْبِيه له بالشَّجَرَة العَظيمة. أبو زيد: يقال للَبْيت العَظِيم مِظَلَّة مَطْحُوَّة ومطَطْحِيَّة وطاحِيَة، وقد طَحَيتها طَحْياً وطحوتها لغة والدَّسْوَط بَعْد المِظَلَّة وهو أَصْغَر بُيُوت الشَّعَر، والبَيْت من بُيُوت الشَّعَر ما زاد على طَرِيقة واحدَة. ابن الكلبي: بُيُوت العَرَب سِتَّة مِظلَّة من شَعَر وخِبَاءُ من صُوف وبِجَاد من وَبَر وخَيْمة من شَجَر وأُقْنة من حجر وَقُبَّة من آَدَم. غيره قَبَّبت القُبَّة بَيَنْها ابن الأعرابي: قبَّبتها نَصَبْتها وقَبَّبتها أحْسَنْتُ وَضْعَها. أبو زيد: الحِفْش البيت الصَّغِير من بُيُوت الأعْرابِ وجمعه أحْفاش وحِفَاش، وحَفَّش الرجل أقام في الحِفْش وأنشد. كُنْتُ لا أُوبَنُ بالتَّخفِيش وقد قدَّمت أنه الشَّيءُ البالي. أبو عبيد: الطَّراف من أَدَم. ابن دريد: جمعُه طُرُف. صاحب العين: الطِّرَاف بَيْتُ سَمَاؤُه من أَدَم له كِسْرانِ ليس له كِفَاف، وهو ضَرْب من ابْنِيَة الأعْراب. ابن دريد: القَشْع البيت من الأَدَم، وقيل القِطَع من الأَدَم. قال أبو علي: وهو القَشْعة،

      وأنشد:

           إنْ يَكُ بَيْتِي قِطْعَةً فَوْقَ قَشْعَةٍ         وغَضْناً كأنَّ الشَّوْكَ فِيه المَواشِمُ؛

      والمَوَاشِمُ الإِبَر. غيره بَيْتُ أَرْبُعَاويًّ على طَرِيقَة وطَرِيقَتَيْن وثلاثٍ وأربع، فما كان على واحِدَة فهو خِبَاء، وما زاد فهو بَيْت. أبو عبيد: الفَلِيجة شُقَةُ من شُقَق البيت، لا أَدْرِي أَيْنَ تكُونًّ وأنشد:

          تَمَشَّى غَيْرَ مُشْتَمِل بِثَوْب         سِـوَى خَلِّ الفَلِيجـةِ بالخِلاَل

      أما الكتاب الثالث الشهير لابن سيدة المرسي  فهو” شرح المشكل في شعر المتنبي”، وهذا مقتطف منه:

      قال أبو الحسن علي بن إسماعيل النحوي المعروف بابن سيده: قال أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي رحمه الله تعالى:

      أبْلَى الْهَوَى أَسفًا يومَ الْنَّوى بَدَنـىِ         وَفَرَّف الْهجْرُ بَيْنَ الْجَفْنِ والوَسن

      يذهب الناس إلى أن أسف البعد هي الذي أبلاه على عادة البِلَى وإنما قصد المبالغة، أرد أن البِلَ يعمل في الجسام فحالا على الأيام. وقد عمل فيه ليوم واحد، وهو يوم النَّوى، عمله لسنين. وقال:

          ظَلْت بهاَ تَنطَوِي عَلَى كَبدٍ         نَضِيجـةٍ فَوق خِلْبِها يَدُهـا

      ظلت: أقمت، والخِلبُ: غشاوة الكبد والبيت مضمَّن بالأول وهو أبعد بان عنك خرَّدُها.

      فالعامل في أَبْعدَ، ظلت كأنه قال: ظلت بها بَعْدَ ما بان خُرَّدُها، والمعنى: بعدما بان خردها، ظلت منطويا على كبد قد أنضجها التوجع وأذابها التفجيع، و(عليها يدها): إنما توضع اليد على الكبد خشية من ضعفها. يريد بذلك، وكذلك يُفْعَل بالفؤاد، كقول الآخر:

      وضعتُ كفِّى عَلَى فُؤادي مِـنْ         نار الهوى وانْطَويت فَوق يَدِي

      وأكثر الناس على أن (نَضِيجَة)، صفة للكبد في اللفظ والمعنى، لا حظَّ لليد في النُّضج، وإنما يريد أن اليد موضوعة على خِلب الكبد فقط…

      وقد عثر الأستاذ حبيب زيات بدمشق على أرجوزة لابن سيدة ضمن مجلد مخطوط يتألف من ثلاث وثلاثين ورقة في جملة أجزاء وجزازات شتى، وليس من شك في أن العثور على هذه الأرجوزة يعد اكتشافا هاما لمعرفة شخصية ابن سيدة، وقد كتب على المخطوط المكتشف بخط ناسخ يسمى الهريري من حلب: “هذه أرجوزة أبي الحسن علي بن إسماعيل النحوي اللغوي البارع المعروف بابن سيدة المغربي المرسي صاحب كتاب “المحكم في اللغة” رحمه الله تعالى آمين”. وقد زعم الأستاذ حبيب زيات أنه لم يشر أحد من الذين ترجموا ابن سيدة وأحصوا مصنفاته، غير أن هذا الزعم حسب المستشرق الإسباني داريو  كابانيلاس  رودريكيس (مجلة المناهل، عدد 1، 1974) يبطله ما ورد من وصف للأرجوزة المذكورة في فهرسة ابن خير الاشبيلي المتوفى سنة 593هـ، وهذا نصه: “جزء فيه أرجوزة الأستاذ أبي الحسن علي بن إسماعيل بن سيدة الأعمى المرتبة على حروف المعجم المبنية على قولهم ما اسمك بكذا، حدثني به شيخنا أبو الحسن يونس بن محمد بن مغيث رحمه الله عن القاضي أبي عمر أحمد بن يحيى بن الحذاء التميمي، وناظمه-أي ابن سيدة”.

      والموضوع الجوهري للأرجوزة لغوي، وقد مهد له بن سيدة نفسه في مقدمة استغرقت عشرين بيتا، بعد البسملة وتخيل الناظم في هذا التمهيد أن ركبا من أهل المشرق (أكارم الأنفس، ند المنطق) تركوا أوطانهم، لعل (حب العي أو نبوة من الزمن) كان هو ما حملهم على ذلك مثلهم كمثل أنبياء كثيرون هاجروا أوطانهم في الأزمنة الماضية وضاعف الإله، بعد ذلك، سلطانهم في تلك المواطن التي استقروا فيها:

          وكم نبي تارك أوطانه         شد الإله بعد ذا، سلطانه

      ولكي تتاح الفرصة لأفراد الركب للتعريف بأنفسهم تصور الناظم أنهم سئلوا، فردا فردا، عن كل ما من شأنه أن يكشف عن حياتهم، فتوالت إجاباتهم واحدا إثر الآخر، أنهم إذ كانوا فيما مضى فتيان مرحين لعوبين، يعيشون في كبريات الحواضر الواقعة على ضفاف الأنهار أو المطلة على مياه البحر الزرقاء، فإن كلا منهم، اليوم شيخ قبيلة ورب أسرة وفارس يجيد تسديد السهام، وشاعر ورجل البذل والعطاء، يذكر اسم الأب والخال ومسقط الرأس ويذكر المطية والقسي والوحش والطير الذي كان يقتنص وما كان يأكله منها ويهديه، وما كان يقدمه إلى حبيبته من هدايا أيام الشباب، ثم هو يذكر اسم حبيبته، وما كان ينشدها من شعر عند الإهداء، وما كانت تنشده هي في الجواب. كل ذلك بألفاظ مبدوءة بنفس الحرف الذي تداوله من حروف المعجم كل رجل منهم في دوره”، (المستشرق كاباليناس رودريكيس، المناهل عدد 1، نونبر 1974)..

      ولإعطاء صورة عن المنهج الذي سار عليه ابن سيدة في هذه الأرجوزة أورد الأستاذ حبيب زيات أولها وآخرها: أي فصل الهمزة وفصل الياء.. من ذلك الأبيات الثلاثة الأولى من فصل الهمزة:

          إن تسألوا باسمي فإني أحمدُ         في كـل لأواء الزمــــان أحمــد

          ووالـــــدي أربــــــد الهمــــــــــام         في كـل أنـواع العلـى إمــــام

          ونسبــي في بيئـة اليحــامِـــــد         أهل التقى والبأس والأيــادي

      أما الأبيات التي يستهل بها فصل الياء، وهي شبيهة بالأبيات السابقة من حيث المضمون أو الشكل، فهي:

          واسمي إن تسأل بذلك يشكر         ووالدي ملك الملــوك يعصــــر

          ونسبـي فـي بيئـة اليحــامـــد         أهل الندى والبأس والمحامد

          ولـي خـــال في بنـي يربـــــوع         في فـدك حـلَّ وفــي ينبــــوع

      ويستنتج مما نشره الأستاذ الزيات من الأرجوزة، أن ابن سيدة قصر غرضه على عرض لغة البدو في الصحراء، فجاءت شاهدا على حافظته القوية ومعرفته بوحشي العربية ونادرها..

      إننا إزاء عالم كبير في مجال اللغة والأدب العالي والمنطق وأيام العرب، ولا شك أن كتبه في حاجة إلى إحياء وتعميم ودراسات متعددة الأبعاد من أجل دفع الإفادة منها إلى أبعد الحدود..

      رحم الله العلامة ابن سيدة ونفعنا بعلمه، والله الموفق للخير والمعين عليه.

أرسل تعليق