Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

وجوه مشرقة من حضارتنا (3/3)

      إن الحضارة الإسلامية –خلال قرون طويلة- كانت شمسا ساطعة على الأمم والشعوب؛ بحيث أنارت زوايا كانت مظلمة في حياة تلك الشعوب، وأسهمت في بناء الحضارة الإنسانية إسهاما لا ينكره التاريخ المنصف، سواء في المجالات العلمية والأدبية والفنية والعمرانية، فكان لها الفضل الكبير على ما نشهده اليوم من الحضارة المادية المزهوة القائمة على العلوم التجريبية والكونية والإنسانية أيضا من: الفلسفة والتاريخ والأدب وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم التي دعمت توجيه الحضارة الإنسانية وجهة أنتجت صورة لحضارة أقل ما يقال عنها أنها حادت كثيرا عن روح الحضارة المتوازنة التي يطمح كل إنسان متوازن أن يعيش في كنفها، ويسعد في رحابها، تلك الحضارة التي افتقدنا جوانب مهمة منها بعد أن كانت واقعا -لقرون خلت- أظلت البشرية بظلالها الوارفة، ونشرت بين أفرادها الأمن بأبعاده المتعددة الروحية منها والنفسية والاجتماعية والتربوية… ولا يعني هذا الكلام أن حضارتنا حظيت بالكمال ولم تكن لها هفوات ونقائص، إنما القصد بتناول الموضوع هو التعريف بها لأبنائها من جديد، والحفر في الذاكرة لإبراز الجوانب المشرقة والقوية فيها، لقطع الطريق على أولئك الذين أرادوا حذف حضارتنا من قائمة الحضارات، كما أرادوا صرف أنظار جيلنا وأبنائنا عن تلك الوجوه المشرقة والمعالم الوضاءة لحضارتنا، واستقطابهم إلى شكل واحد من الحضارة تكشفت اختلالاتها للعيان، ولم تعد تنطلي الحيل والأساليب المعتمدة في تسويقها إنجازا عظيما للبشرية لم يسبق، ونسوا أو تناسوا أن الحضارة التي عاشت وعاش الناس -تحت شمسها الدافئة، وأنوارها الساطعة- قرونا وقرونا بين ذلك كثيرة، لا يمكن أن تختفي بالمرة، وتلغى من سجل الحضارات…

      نعم، يمكن أن تصاب بالضمور والانحسار والجزر بعد المد، ككل كائن ينمو، بفعل ما قد تتعرض له من المتغيرات الداخلية، أو المؤثرات الخارجية، فيقع التراجع لوقت، ريثما تتهيأ الأسباب لتعود إليها عافيتها وإشراقها من جديد، وحتى تنجلي صورة الحضارة التي نتحدث عنها واضحة، وتأثيرها في الحضارات ناطقا، ينبغي أن نطرح الأسئلة الآتية:

      •  ما هي أسباب القوة التي مكنت لحضارتنا أن تسطع على العالم؟

      •  وما مظاهر هذا الإشراق؟

      •  إذا كان نور الشمس لا يغيب في واضحة النهار، فكيف ضعفت- اليوم -إشراقات شمس الحضارة الإسلامية؟

      إن الإجابة عن هذه الأسئلة وأضرابها يستدعي التأمل في تاريخ الإنسانية لمعرفة مدى التجاذبات والتأثيرات المتبادلة بين الحضارات، ومتى كانت الحضارة حاملة لعناصر القوة في ذاتها من جهة، وكان أهلها يمتلكون أسباب الدفع بها إلى أخذ المواقع المتقدمة، كان لها التأثير الأقوى على بقية الحضارات، وبقراءة بسيطة، ودون الغوص في بحر التاريخ لاستجماع الحجج والبراهين على تعزيز موقف معين، يظهر بجلاء، أثر الحضارة الإسلامية في الحضارات التي عايشتها والتي جاءت بعدها في شتى المجالات نذكر منها:

      1.  في مجال العلوم أقبل المسلمون -إثر اتساع رقعة الإسلام، والاحتكاك بالحضارات- على تعلم العلوم على اختلاف أنواعها، فاستوعبوا علوم اليونان والإغريق، وسبروا أغوارها، وأنشأوا علوما جديدة كعلم الجبر، وتفوقوا في علوم الفلك والرياضيات، وانتزعوا ريادة علم الكيمياء، فضلا عن إبداع في علم الطب الذي نال إعجاب الأمم بنظرياته وقوانينه، لدرجة أن كتاب “القانون في الطب” لابن سينا ظل يدرس في أوروبا لستة قرون متواصلة..

      ولم يقتصر الأمر على ترقية تلك العلوم؛ بل عمدوا إلى نشرها بما أقاموا من الجامعات، وما ألفوا من الكتب التي لولاها ما تمكنت الأمم من الاطلاع على علوم قدماء اليونان والرومان؛

      2.  تطوير العلوم عمل المسلمون بعد استيعابهم للعلوم السائدة على تطوير تلك العلوم؛ والإبداع فيها أيما إبداع، حيث طوروا علم البصريات، ووضعوا أصول المنهج العلمي التجريبي الذي يعتمد –في الوصول إلى الحقيقة العلمية– على التجربة العملية والبرهان العلمي، بعكس المنهج الفلسفي اليوناني الذي يعتمد على التأمل النظري، وبذلك يكون المسلمون قد قدموا للعالم أسس النهضة التي اعتمدت عليها نهضة أوروبا كلها، يشهد بذلك عدد غير يسير من علماء الغرب المنصفين غير المتعصبين أمثال: “جوستاف لوبون” الذي يقول: لم يلبث العرب –بعد أن كانوا تلاميذ معتمدين على كتب اليونان– أن أدركوا أن التجربة خير من ألف كتاب.

      ويقول في موضع آخر: ما أنجزه المسلمون في ثلاثة أو أربعة قرون يزيد على ما حققه الأغارقة في زمن أطول من ذلك بكثير.

      وتقول “زيجريد هونكه”[1] إن أوروبا مدينة للعرب وللحضارة العربية، وتزيد قائلة: وفي مراكز العلم الأوروبية لم يكن هناك عالم إلا ومد يده إلى الكنوز العربية يغترف منها وينهل، كما ينهل الضامئ من الماء العذب.

      ويتحدث “جيمس بيرك”[2] عن انبهار الغرب بحضارة المسلمين في الأندلس فيقول: استمر تدفق طلاب العلم على إسبانيا في طوفان منتظم.

      وفي نفس السياق نجد المستشرق “سبانسر فامبري” يدلي بشهادة رائعة يشيد فيها بإبداع المسلمين للعلوم في شتى المجالات ويقول: لا يستطيع أحد أن يتأمل القبة الزرقاء[3] دون أن يلفظ اسما عربيا، ولا يستطيع عالم طبيعة أن يحلل ورقة من الشجر أو يفحص صخرة من الصخور دون أن يذكر درسا عربيا، ولا يقدر أي قاض أن يبت –اليوم- في خلاف دون أن يستدعي مبدأ أصلته العرب، ولا يسع أي طبيب أن يتأمل أحد الأمراض المعروفة منذ القدم إلا أن يهمس بآراء طبيب عربي.

      وهذه الشهادات المنصفة عن حقيقة إشراق شمس الحضارة الإسلامية على العالم، لما تملكه من قوة ذاتية، ولما توصلت إليه من الاكتشافات العلمية في مختلف المجالات وتطويرها ووضع أسس النهضة الحديثة، تؤكد لأجيال أمتنا أن هذه الحضارة حقيقة ساطعة، كما تؤكد أن السبب في خفوت أنوارها -اليوم- راجع إلى التدافع بين الأمم حول من يحمل المشعل الحضاري، فتتقدم أمة، وتتأخر أخرى، بمقدار أخدها بالأسباب المادية والمعنوية، وامتلاكها لشروط الإقلاع، كأنما هي في تنافسية على المواقع المتقدمة، وأمام دورات للصعود والأفول والتداول الحضاري ، وصدق الله العظيم إذ يقول: “وتلك الايام نداولها بين الناس” [سورة اَل عمران، الآية: 140].

——————–

  1.  زيجريد هونكه، من كتاب “شمس الله تشرق على الغرب”.

  2.  جيمس بيرك، من كتاب “عندما يتغير العالم”.

  3.  يقصد بالقبة الزرقاء (السماء وما تحتويها من نجوم وأفلاك) إشارة إلى تفوق المسلمين في علم الفلك.

التعليقات

  1. رشيد فلفاس

    وبالنسبة لأسباب قوة الحضارة الإسلامية وتفوقها على غيرها فمنها:
    أولا: ارتباطها بالوحي الإلهي واهتداءها بهديه، ذلك أنها حضارة خرجت من رحم القرآن، وكما لا يخفى فكل العلوم الإسلامية كانت تدور في فلكه، وكل العلماء المسلمين كانوا رجال دين قبل كونهم رجال علم.. وبعكس حركة التاريخ عند جيراننا فإن كان العلم عندهم حقق تورثه بعد القطع مع الكنيسة فبمجرد ما أعلن العلم عندنا طلاقه مع المسجد لأسباب سياسية بالدرجة الأولى بالإضافة إلى أسباب أخرى فقد المسلمون سبب قوتهم.
    وهكذا تصبح مقولة لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ذات معنى في هذا الباب فلا يمكن النهوض إلا إذا عقدنا صلحا بين المسجد والمختبر بين العالم والعابد. وصار العالم يهتدي و يتخلق بأخلاق القرآن ويبتغي بأبحاثه رضا الله عز وجل، وصار الفقيه عقلانيا في خطابه مستغلا فتوحات العلم في الدعوة إلى الله.
    لأن الإسلام أوجد توليفة فريدة بين العلم والعقل الروح والجسد وهو الأمر الذي نجده مفتقدا في حضارتنا المعاصرة.
    ثانيا: الحضارة الإسلامية كانت حضارة مفتوحة عكس الحضارة العبرانية التي كانت وما زالت مبنية على مفهوم عرقي ضيق أو الحضارة الرومانية التي كانت تعتبر غير الروماني مجرد بربري أو الحضارة الإغريقية منبع الديمقراطية التي كانت تحرم الفقراء والعبيد والنساء من الحقوق المدنية. الحضارة الإسلامية لم تكن خاصة بعرق أو قوم أو جنس (وان عرفت بعض الانزلاقات العابرة مثلا أفضلية الجنس العربي) وهذا ما يفسر العدد الكبير للموالي وغير العرب في قائمة علماء الأمة. فقد كانت تكفي الشهادتان للانتماء للأمة بل يمكن أن يحتفظ بديانته، ويستفيد من كل الحقوق المخولة للمسلم أن التزم بحسن الجوار وأدى واجباته الواضحة والمفروضة من السماء. والتاريخ يشهد على ما شهده العالم الإسلامي خاصة في الأندلس من تسامح ديني تحت الراية الخضراء…

  2. رشيد فلفاس

    بسم الله الرحمن الرحيم
    نشكر لأستاذنا الفاضل مواظبته على إمدادنا بالجديد وإثارته مواضيع فكرية غاية في الأهمية تدل على عميق انشغاله بقضايا الأمة الراهنة والحساسة.
    ففعلا قدمت الحضارة الإسلامية الشيء الكثير للبشرية والمنتوج الحضاري الذي يتجلى فيما توصل إليه الإنسان المعاصر من علوم وآداب وفنون وقيم حقوقية من الصعب اعتباره منتوجا غربيا خالصا بل هو منتوج كوني ساهمت فيه كل الحضارات ويذكر الخصوم قبل الحلفاء، كما جاء في مقال الأستاذ الفاضل أن الإنسان المسلم كانت مساهمته جد فعالة.. لا كما يروج البعض بأن المسلمين اقتصروا على نقل التراث اليوناني وإعادة إنتاجه…

أرسل تعليق