Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

المصداقية

قال الله تقدست أسماؤه: “مِنَ الْمُومِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ اوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا” [الاَحزاب، 24].

من لطائف هذه الآية أن الله تبارك وتعالى قابل فيها بين الصادقين والمنافقين؛ فمن لم يتخلق بالصدق في قوله وفعله ونيته وعهده كانت فيه شائبة من نفاق.

ومن أعلى درجات الصدق وأرفعها وأشرفها الصدق في مقامات الدين؛ كالصدق في الخوف من الله تعالى والزهد والرضا والحب واليقين والتوكل. فإن هذه الأمور لها مبادئ ينطبق الاسم عليها بمجرد النطق بها. ثم لها غايات وأسرار وحقائق، والصادق من نال حقيقتها وتحقق بمعانيها ومقاصدها كما قال سبحانه وتعالى: “اِنَّمَا الْمُومِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ” [الحجرات، 15].

فمثلا ما من إنسان مؤمن إلا ويصرح بأنه يخاف الله أو يخشى عذابه، ولكن قد لا يظهر على بعضهم شيء من ذلك عند إرادة معصية أو جرم، ولذلك قيل للفضيل بن عياض: ما أعجب الأشياء؟ قال: قلب عرف الله ثم عصاه، وقال عامر بن عبد قيس”عجبت للجنة نام طالبها، وعجبت للنار نام هاربها”، وكان يوسف بن أسباط يقول: “لأن أبيت ليلة واحدة أعامل الله عز وجل بالصدق أحب إلي من أن أقاتل بسيفي في سبيل الله عز وجل“.

والصدق المصداقية من جذع لغوي واحد، فالمِصداقيّة من الصدق وهو مطابقة القول للواقع أو للفعل، والمصداقية  مصدر صناعي من مِصْداق بمعنى جدارة الشخص أو الأمر بأن يكتسب الثِّقة… فإذا عشنا بصدق والتزمنا الصدق مع أنفسنا ومع الناس تنمو ثقة الآخرين بنا، وتزداد مصداقيتنا كما قال أحدهم من أهل الحكمة النظرية: “إن المصداقية من أصعب وأعز الصفات اكتسابا كما أنها من أشد الصفات الإنسانية هشاشة؛ لأنها تبنى دقيقة بعد دقيقة وساعة بعد ساعة وشهرا بعد شهر وعاما بعد عام ؛ لكن إذا لم يعن بها ضاعت في وقت وجيز وربما في معاملة واحدة، وقد يأتي وقت يكون فيه بعض الناس قد استنفدوا مصداقيتهم كلها ويكتشفون أنه من المستحيل أن يستعيدوها (…) وجوهر الإنسان يشع من داخله ليعبر عن حقيقته ومعدنه، فهو ليس ما يقول الناس عنه، كما أنه ليس ما يحاول تمثيله أمام الآخرين(…) ولكنه إشعاع غير مرئي ينبعث من كل جارحة من جوارحه معبرا عن حقيقته وجوهر شخصيته مهما تظاهر بخلافه، وهذا الإشعاع الظاهر الجلي هو الذي يشعر به الآخرون بحدسهم المرهف، فيتعرفون على هذه الشخصية دون عناء، سواء تكلمت أو صمتت وسواء  تحركت أو سكنت..“.

المصداقية

وعليه، كما نضيف رصيدا نوعيا إلى حسابنا عندما نحترم أنفسنا، فإننا نسحب قدرا من هذا الرصيد وننقص منه حين نكذب على الآخرين أو نغدر بهم أو نخفي أعمالا نخجل من إعلانها..

وبموازاة ما نلتزم به من قيم الصدق، تنمو ثقة الآخرين بنا، وتزداد مصداقيتنا. فالثقة قيمة عزيزة جدّا تعبر عن مصداقيتنا وثقة الآخرين بنا، وهي تزداد بقدر ما نضعه في حسابنا لديهم من قيمة لمواقفنا السابقة معهم، ومما خبروه منا من وفاء وشرف والتزام ومسؤولية تجاه مصالحهم وحقوقهم، سواء حضروا أم غابوا. وهذا ينطبق على جميع مناحي العلاقات الإنسانية الاجتماعية كما ينطبق على علاقتنا مع أولادنا وطلبتنا وزملائنا…

وبالمقابل، عندما تسقط المصداقية؛ ولا تسقط المصداقية إلا بانخرام الالتزام الأخلاقي، والالتزام الأخلاقي- كما يقول- إمانويل ليفيناس هو”أن تشعر بالمسؤولية تجاه حقوق الآخرين“؛ قلت: عندما تسقط المصداقية في جميع الميادين، تفقد الكلمات معناها وتصبح اللغة لغوا، وربما كنا محلا لقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ” [الصف، 2-3].

إن التزامنا بالصدق هو الذي يمنحنا القوة والثقة والطمأنينة والانسجام الداخلي، فتصبح نفوسنا بذلك أكثر ثباتا وشجاعة وفعالية ومبادرة، ويتحول المرء مرحلة بعد مرحلة من إنسان فاشل مزيف إلى إنسان أصيل ساطع متألق يعرف ما يريد، ويعزم على ما يريد، ويعمل على تحقيقه بجرأة ومثابرة، ولذلك مدح الله المؤمنين بقوله” وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ” [المومنون، 8]، وكذلك أمرهم أن يكونوا مع الصادقين وأن يوفوا بالعهد؛ لأن الوفاء بالعهد من صميم الصدق الذي لا يزيد مواقفهم وأعمالهم إلا قوة وسموّا وتأثيرا.

والله المستعان

الوسوم

أرسل تعليق