Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

السلوك الاستهلاكي في الإسلام.. الأسس والضوابط

ثالثــا: مدلول مصطلح الاستهلاك عند الفقهاء

إذا أردنا التماس تعريف الاستهلاك عند الفقهاء؛ فإننا لن نجده إلا بتتبع السياق الذي استعملت فيه هذه الكلمة في كتبهم، ذلك أن المصنفات الفقهية خالية من ذكر تعريف خاص بالاستهلاك، والسبب في ذلك هو الطبيعة العملية للفقه الإسلامي، والتي جعلته يستغني بالتفسير عن التعريف. ولعل إغفال هذه الحقيقة هو الذي جعل آراء بعض الباحثين المعاصرين تتضارب حول تحديد مدلول الاستهلاك عند الفقهاء، ولذلك سنقوم بإجراء منهجي يقتضي رصد الدراسات التي عنيت بهذا المصطلح. وقد تبين بعد البحث أن هذا المصطلح قد نال اهتمام فئتين:

الأولى: اهتمت بلغة الفقهاء من منظور معجمي؛

الثانية: اهتمت بلغة الفقهاء من زاوية التحليل الاقتصادي؛

فقد حاولت بعض المعاجم المهتمة بلغة الفقهاء صياغة مفهوم للاستهلاك يعبر عن مضمونه عند الفقهاء، فقد جاء في الموسوعة الفقهية: “الاستهلاك هو تصيير الشيء هالكا أو كالهالك كالثوب البالي، أو اختلاطه بغيره بصورة لا يمكن إفراده بالتصرف كاستهلاك السمن في الخبز”[1]. كما عرفه الأستاذان -قلعه جي وقنيي- في كتاب معجم لغة الفقهاء بأنه: “زوال المنافع التي وجد الشيء من أجل تحقيقها، وإن بقيت عينه قائمة”[2].

وبالرجوع إلى كتب الفقه الإسلامي نجد أن مصطلح الاستهلاك قد استعمل في كثير من الأبواب الفقهية كباب الزكاة والرهن والغصب والتعدي واللقطة والوديعة..

ولم يقتصر تداوله على كتب الفقه وحدها، بل تداولته كتب الفقه الاقتصادي والمالي وكتب السياسة الشرعية. وقد تبين من خلال دراسة هذه النصوص الفقهية أن الفقهاء استعملوا هذه الكلمة بالمضامين التالية:

أولا: استعمال الاستهلاك بمعنى الإنفاق

استعمل الفقهاء لفظ الاستهلاك بمعنى الإنفاق عموما، سواء كان هذا الإنفاق بيعا أو هبة أو انتفاعا بالأكل وغيره[3]، وقد يعبرون عن ذلك “باستهلاك الأموال”[4].

يقول الحليمي: “فلا تأمن إن استهلكت المال أن تكون ممن قدر عليك (أي الرزق)، وفي هذا ما يبعث على الاقتصاد”[5].

ثانيا: استعمال الاستهلاك بمعنى الإتلاف

استعمل الفقهاء هذا اللفظ بمعنى الإتلاف، وهم يقصدون به أحد معنين

أ – الإفنــاء والإهــلاك[6]: وذلك بزوال عين الشيء وانمحائها، ولذلك نجدهم كثيرا ما يقرنون بين لفظ الاستهلاك ولفظ الإتلاف، وقد يعبرون عن هذا المعنى باستهلاك العين[7]. فقد ذكر صاحب شرح فتح القدير أن من خرق الثوب خرقا كبيرا يبطل عامة منافعه ينبغي عليه أن يضمن جميع القيمة، وذلك لأنه استهلاك من هذا الوجه، فكأنه أحرقه[8]. كما أجاز ابن حزم الإجارة في كل شيء له منفعة ولا تستهلك عينه[9]، أي لا تزول منفعته وتفنى عينه بمجرد استخدامه كالطعام مثلا. ويصدق هذا المعنى على أدوات الإنتاج التي تحتفظ بشكلها إلى حد كبير بعد استخدامها واستعمالها.

وقال ابن رشد في البيان والتحصيل: “.. إن الطعام وإن كان يشبه العين في الاستهلاك لوجوب الحكم فيه بالمثل، فهو يشبه السلع في أنه يراد بعينه”[10].

ومن قواعد المذهب المالكي الأرض هل هي مستهلكة أم مربية؟[11].

إن تنصيص الفقهاء على مفهوم استهلاك العين[12]، يشير إلى أن الفقه الإسلامي قد عرف ما اصطلح عليه في الاقتصاد الوضعي بالاستهلاك النهائي، وهو الاستهلاك الذي تنمحي فيه عين الشيء وتندثر.

ب- الإفســاد: وذلك بإحداث الضرر وذهاب المنفعة المقصودة من الشيء[13]، بإحداث العيب فيه، فمن قطع طرف دابة فقد استهلكها[14]، يقول ابن رشد: “العبد يستودع الوديعة فيستهلكها بالإفساد لها في غير منفعة، فابن القاسم يقول: إنها في ذمته، لأن صاحبها ائتمنه عليها، وابن الماجشون يقول: إنها في رقبته؛ لأنه تعدى عليها؛ فإنه جناية منه”[15].

من خلال استعراض نصوص الفقهاء واستقرائها يتبين للدارس أن الفقهاء احتفظوا بالمعاني اللغوية لهذه الكلمة، إلا أنهم أغنوا مضمونها. وقد سلكوا في ذلك طريقة التمثيل، فكانوا يقرنون هذا المصطلح باللفظ الذي يفسره، كقولهم استهلاك بالأكل أو هبة أو صدقة، ثم إن الفقهاء قد قيدوا الاستعمال اللغوي فلم يستعملوا منه إلا مفهوم الافتقاد والضياع، إما كليا بالإتلاف، أو جزئيا بإحداث الضرر، ومفهوم الإنفاق عموما من غير تخصيص لجانب من جوانب النشاط الاقتصادي، فهم استعملوه في الإنفاق على إشباع الحاجات البيولوجية كالأكل والشرب[16]، كما استعملوه فيما فيه تثمير لثروة الشخص عن طريق التبادل كالبيع مثلا[17].

وانطلاقا مما سبق يمكن القول: إن الاستهلاك عند الفقهاء له مفهوم عام وهو جعل الشيء هالكا وذلك بإفناء عينه، لا فرق في ذلك بين ما فيه منفعة وما ليس فيه منفعة.

ومفهوم خاص هو يتنوع إلى  جانبين

ماله تعلق بالجانب الاقتصادي وهو الانتفاع باستعمال السلع والخدمات من أجل تحصيل منفعة.

ماله تعلق بالجانب الجنائي، وذلك عن طريق الإتلاف أو إحداث الضرر، وهذا ما يفسر دور أن هذا اللفظ لتأدية هذا المعنى في أبواب الغصب والتعدي.

ومفهوم الاستهلاك بالمعنى الاقتصادي ليس غريبا على الفقه الإسلامي، فقد قسم الفقهاء المال بحسب وظيفته، فما استخدم لتحقيق الحاجات الأصلية، من تغذية ومسكن وملبس سمي مالا استهلاكيا، وما استعمل للزيادة في ثروة الشخص عن طريق الاستثمار سمي مالا ناميا[18].

كما قسم الفقهاء المال بحسب تأثير الاستعمال فيه، فما أدى الاستهلاك إلى إفناء عينه، وذهاب أصله بمجرد استعماله سمي مالا استهلاكيا، أما المال الذي يحتمل الاستعمال المتكرر مع بقاء عينه، وإن نقص الاستعمال قيمته، كأثاث المنزل والسيارة، سمي مالا استعماليا[19].

ومن ثم يمكن القول: إن الفقه الإسلامي قد عرف الاستهلاك -بطرفيه النهائي والوسيط- بمضامينه، وإن لم يعرف بأسمائه.

يُتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى..

——————————————–
1. الموسوعة الفقهية، ج: 4 ص: 129 وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويتية، الطبعة الثانية، 1406هـ -1986م. معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: نزيه حماد، ص: 54 المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالولايات المتحدة الأمريكية، الطبعة الأولى، 1414هـ -1993م.

2. معجم لغة الفقهاء: محمد رواس قلعه جي، حامد صادق قنيي، ص: 66 دار النفائس، الطبعــة الأولى 1405هـ – 1985م.

3. الأموال: لأبي عبيد القاسم بن سلام، تحقيق عبد الأمير علي مهنا، ص: 438 دار الحداثة، لبنان الطبعة الأولى: 1988م.
• المقدمات الممهدات: لابن رشد الجد، ج: 1 ص: 251 دار صادر، بيروت، د– ت.

4. المدونة الكبرى: رواية سحنون عن عبد الرحمان بن القاسم عن الإمام مالك، ج: 174 دار الفكر، م لبنان 1978م.

5. المنهاج في شعب الإيمان: للحليمي، تحقيق حلمي محمد فوذة، ج: 3 ص: 102 دار الفكر، لبنان، الطبعة الأولى، 1394هـ- 1979م.

6. أحكام القرآن: لابن العربي تحقيق محمد علي البجاوي، ج: 1 ص: 245 دار الفكر لبنان، د- ت.

7. تحفة الفقهاء: لعلاء الدين السمرقندي، ج: 3 ص: 93 دار الكتب العلمية لبنان، الطبعة الأولى 1984م.
• بدائع الصنائع: الكاساني، ج: 7 ص: 149.

8. تكملة فتح القدير: لابن الهمام، ج: 9 ص: 341 دار الفكر لبنان، د- ت.
• تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، للزيلعي، ج: 5 ص: 77 دار المعرفة، لبنان الطبعة    الثانية د- ت.
• رسائل ابن نجيم: تحقيق خليل الميس، ص: 309 دار الكتب العلمية، لبنان الطبعة الأولى1400  هـ- 1980م.

9. المحلى: لابن حزم، ج: 8 ص: 182 المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، بيروت د- ت.

10. البيان والتحصيل: لابن رشد، تحقيق جماعة من العلماء تحت إشراف محمد حجي، ج: 8 ص: 156 دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1988م.

11. إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك: للونشريسي تحقيق أحمد الخطابي، ص: 400 نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، 1981م.

12. انظر أيضا اختلاف الفقهاء: لابن جرير الطبري، تحقيق فريد ريك فرت، ص: 52 دار الكتب العلمية، لبنان الطبعة الثانية، د- ت.

13. القوانين الفقهية، ص: 218.
• شرح حدود ابن عرفة للرصاع، ص: 494 طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية،  1412هـ -1992م.
• مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب، ج: 2 ص: 265 مطبعة السعادة، مصر 1382 هـ.
• بداية المجتهد لابن رشد، ج: 2 ص: 232 دار الفكر، د- ت.

14. تكملة فتح القدير لابن الهمام، ج: 9 ص: 341.
• المغني: لابن قدامة، ج: 5 ص: 712 عالم الكتب، بيروت، د- ت.
• الأم: للشافعي، ج: 9 ص: 88 دار الفكر، الطبعة الثانية، 1983م.
• الرسالة: للشافعي، تحقيق أحمد محمد شاكر، ص: 528 دار الفكر، لبنان، د- ت.

15. البيان والتحصيل: لابن رشد، ج: 8 ص: 134.

16. الأموال: لأبي عبيد، ص: 438
• البيان والتحصيل: لابن رشد، ج: 8 ص: 156.

17. المقدمات الممهدات: لابن رشد، ج: 1 ص: 451.

18. منهج الاستثمار في ضوء الفقه الإسلامي، علال الخياري، ج: 1 ص: 125– مطبعة النجاح الجديدة، المغرب، الطبعة الأولى 1413هـ -1992م.

19. الفقه الإسلامي وأدلته: وهبة الزحيلي، ج: 4 ص: 55 دار الفكر لبنان الطبعة الثالثة 1409هـ – 1989م.
• أصول المحاسبة المالية في الإسلام: محمد كمال عطية، ص: 96 مكتبة وهبة مصر، الطبعة الأولى 1416هـ – 1996م.
• منهج الاستثمار في ضوء الفقه الإسلامي: علال الخياري، ج: 1 ص: 125.
• معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء: نزيه حماد، ص: 54.

أرسل تعليق