Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

الحضارة: المصطلح والمفهوم

تعددت تعاريف الحضارة بتعدد الخلفيات الفكرية والمذهبية لمن تناول اللفظ بالشرح والدرس.. ولعل الحاضر في الأذهان من معنى ظاهر للحضارة هو التقدم المادي للمجتمع، لكن هل حقا تقدم المجتمعات البشرية في الحقول المادية هو الحضارة؟ هناك من يرفض ذلك، والمنطق القرآني يرفضه أيضاً. فالبناء المادي عبث لا اعتبار له إذا لم يكن قائماً على أساس القيم الإنسانية المعتبرة وعلى معايير التقوى بالتعبير القرآني “أتبنون بكل ريع ـاية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون” [سورة الشعراء، الآية:128 إلى131] . فالقوة المادية تكون سبب البطش والطغيان إذا لم تكن منضبطة بقيم دينية صحيحة.

إن الجذر اللغوي للحضارة في المعاجم اللغوية، ترد بمعان عدة أبرزها: الإقامة في الحضر، فالحاضرة خلاف البادية، وهي المدن والقرى، إلاّ أنّ هذا المعنى اللغويّ ليس هو المقصود حين الكلام عن الحضارة في النصوص الفكريّة والتاريخيّة والسياسيّة المعاصرة، إذ أصبح لكلمة الحضارة مدلول اصطلاحيّ جديد مختلف عن المدلول اللغويّ الأصليّ..

وقد كان ابن خلدون تـ 808 هـ أول من عرف الحضارة اصطلاحا فقال: “هي تفنّن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه) أي الترف( من المطابخ والملابس والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله.. وهذا تعريف التزم عموما المعنى اللغويّ لكلمة الحضارة.

وكذلك كانت البداية للمعنى الاصطلاحيّ للحضارة في الدراسات الأوربّيّة في فرنسا تحديدا سنة 1734، إذ كان أولا بهذا المعنى الوارد عند ابن خلدون، باستخدام كلمة “Civilisation” للدلالة على صفات أهل المدينة، تمييزا لهم عن أهل الأرياف.

ولكنّ هذا المعنى أخذ يتغيّر بعد ذلك، حين انتشر المصطلح في اللغات الأوربّيّة الأخرى غير الفرنسية وصار يعني «مجموعة من النظم القمينة بإشاعة النظام والسلام والسعادة، وبتطوّر البشريّة الفكريّ والأدبيّ، وبتأمين انتصار الأنوار»، والأنوار في مفهوم مفكِّري القرن 18 هي الثقافة الأوربّيّة والمفاهيم الجديدة الّتي أحدثتها الثورة الصناعيّة. «ففي ذروة العصر الّذي كان الأوربّيون يهيمنون فيه على العالم فكريّاً وسياسيّاً جرى تصوّر الحضارة بصيغة المفرد»، أي ما يتميّز به المجتمع الأوربّي من خصائص، أما غيره من المجتمعات فتنتفي عنه ومنه صفة الحضارة والتحضر.

إلاّ أنّ المفكِّرين والكتّاب الأوربّيين –خاصة المؤرِّخين منهم- بدأوا منذ القرن 19 يستخدمون المصطلح -civilization- للدلالة على ما تملكه أيُّ أمّة من الأمم من خصائص تتميّز بها عن الأمم والشعوب الأخرى. وهكذا بدأ الحديث عن “الحضارات” بدلاً من الحضارة الواحدة. فمثلاً يقول الروسي “نيقولاي دانيليفسكي”(1822-1885): «ليس هناك حضارة واحدة، وإنمّا هناك طُرز من الحضارات لكلّ منها خصائصها ومميِّزاتها..».

فبعد أن كان لفظ الحضارة المصطلح دالا على مواصفات أهل المدينة تفريقا بينهم وبين أهل الأرياف، أصبح يدل على مميِّزات الدول المنظَّمة ذات الثقافة العالية والعلوم المزدهرة -وهو مفهوم القرنين 18 و19 لدى الدول الأوربّيّة- ثمّ أخيراً صار يدل على أنماط المجتمعات البشرية الّتي شهدها التاريخ بصرف النظر عن مدى ثقافتها وعلومها، فحتّى الأقوام المتوحّشة كانت لها حضارتها الّتي تصوغ عيشها.

لكن اشتقاق لفظ “Civilization” من مفهوم “Cities” بمعنى مدينة أو مدن ظل مؤثرا على دلالات اللفظ الأول ففي الوقت الّذي اصطلح فيه معظم المفكِّرين الغربيّين على استخدام كلمة “Civilization” للتعبير عن مميّزات مجتمع أو أمّة وخصائصها الفكريّة والتشريعيّة والروحيّة والتقنيّة… فضّل بعضهم -ولا سيّما الألمان- تخصيص هذا المصطلح للدلالة فقط على مظاهر التقدم المادي (ما تنتجه المصانع وما هو ظاهر من تطور في البنيان والعمران…). ويحلّ المصطلح “Culture” (بالألمانيّة Kultur) لدى هؤلاء محلَّ المصطلح “Civilization” للدلالة على الخصائص المميزة لمجتمعٍ ما..

فالحاصل أنّ هناك تداخلاً كبيراً في تناول الفكر الأوربّي لمفهوم “Civilization”، فهناك من جعله مرادفاً لمفهوم “Culture”، وهناك من جعله قاصراً على نواحي التقدّم المادّيّ، وهناك من جعله شاملاً لكلّ نواحي التقدّم. وهناك من رأى أنّها مفهوم عالمي -أي أنّ هناك “Civilization” واحدة دائماً وأنّ كلّ المجتمعات تساهم فيها بنصيب ما- أمّا “Culture” فهي خاصّة بكلّ شعب، وهناك من رأى العكس»…

إذن فقد تزاحم هذان المصطلحان في الثقافة الأوربّيّة للدلالة على معنى مشترك إلى حدّ كبير، وهو مجموعة الخصائص الفكريّة والتشريعيّة والشعوريّة الّتي تسِم مجتمعاً ما بنمط معيّن من العيش.

وقد حرصتُ على إيراد المصطلحين (Civilization و Culture) باللغات الأوربّيّة؛ لأنّه لم يكن هناك اتّفاق بين الكتّاب والمؤلِّفين العرب على وجه ترجمتهما.

ففي بداية القرن20، ومع هيمنة الاستعمار على الدول العربية، انتقل مفهوم لفظ “Civilization” إلى القاموس العربي متمثلا في ألفاظ متعددة… فبينما تزاحم هذان المصطلحان (Civilization و Culture) في اللغات الأوربّيّة، نجد في الكتابات والمؤلَّفات والترجمات العربيّة ثلاثة مصطلحات تقوم بهذا الدور، هي: “الحضارة والمدنيّة والثقافة”.

فجورج حدّاد في كتابه المدخل إلى تاريخ الحضارة  يضع الكلمات الثلاثة مقترنة في محاولة لتعريفها، فيقول: «الحضارة والمدنيّة والثقافة: فكلمة “حضارة” أو “مدنيّة” مشتقَّة بالأساس من الحضر ومن حياة المدينة، وهناك كلمة باللغات الأجنبيّة لها مفهوم يقرب من مفهوم الحضارة وهي “culture”  وترجمتها بالعربيّة هي الثقافة، ومعناها أوسع، ويفهم منها الطريقة الّتي بموجبها يعيش الشعب ويفكّر، وكثيراً ما تستعمل كلمة “Culture” للدلالة على الحضارة والمدنيّة في اللغات الأجنبيّة».

فمصطلح “civilization” ترجم في أغلب الأحيان إلى العربيّة بكلمة “حضارة”. إلاّ أنّ بعض الكُتّاب العرب المتأثِّرين باصطلاح الألمان ومن هم على نهجهم، يترجمون كلمة “Civilization” بكلمة “مدنيّة”، وكلمة “Culture” بكلمة “حضارة”.

أمّا المصطلح “Culture”، فغالباً ما تُرجم باستخدام كلمة “الثقافة”، وهي الترجمة الّتي تراعي المعنى اللغويّ لا الاصطلاحيّ. وكثير من الكتّاب المعاصرين يرون أنّ كلمة “ثقافة” لا تفي بمعنى المصطلح الغربيّ “culture” لذلك تُرجمت أحيانا كلمة “Culture” إلى العربيّة بـ”حضارة”.

وهكذا تزاحمت المصطلحات الثلاثة “الحضارة” و”المدنيّة” و”الثقافة” في الكتابات العربيّة المعاصرة للدلالة على معنى واحد أو على معان متداخلة. فيقول “جميل صليبا” مثلاً في معجمه الفلسفيّ: «الحضارة بمعنىً ما مرادفة للثقافة. إلاّ أنّ هذين اللفظين لا يدلاّن عند العلماء على معنى واحد، فبعضهم يطلق لفظ الثقافة على تنميّة العقل والذوق، وبعضهم يطلق لفظ الثقافة على مجموع عناصر الحياة وأشكالها ومظاهرها في مجتمع من المجتمعات. وكذلك لفظ الحضارة، فإنّ بعضهم يطلقه على حالة من الرقيّ والتقدّم في حياة المجتمع بكاملها. وإذا كان بعض العلماء يطلق لفظ الثقافة على المظاهر المادّيّة، ولفظ الحضارة على المظاهر العقليّة والأدبيّة، فإنّ بعضهم الآخر يذهب إلى عكس ذلك …”.

وقد حاول بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين تعريف مصطلح الحضارة فاختلفوا من حيث سعة معناه أو ضيقه، فالمودودي مثلا يرى: أن الحضارة هي: “مجموعة المبادئ والأفكار والأصول والتربية التي تثمر لوناً من ألوان الحياة الاجتماعية بمقوماتها المختلفة”، ويرى الدكتور “مصطفى علم الدين في كتابه المجتمع الإسلاميّ في مرحلة التكوين أن: «الحضارة هي نمط عيش مجموعة بشريّة معيَّنة، في بيئة معيَّنة يتمثَّل في النظام الّذي تعتمده المجموعة وفي سلَّم القيم الاجتماعيّة الّتي تحدِّدها لنفسها. وفق هذا التعريف، نستطيع القول إنّ لكلّ “مجتمع” حضارته الذاتيّة المتميّزة». وفي التعريفين معا إغفال للجانب المادي. وهو ما استدركه الدكتور القرضاوي حيث قال “الحضارة لها جسم وروح، وجسمها يتمثل في منجزاتها المادية، كالمخترعات والمصانع.. والأبنية وغيرها، وروحها يتمثل في مجموعة العقائد والمفاهيم والقيم والآداب والتقاليد التي تتجسد في سلوك الأفراد والجماعات. وهو بهذا يتقارب في المفهوم مع “غوستاف لوبون” الذي يرى: أن الحضارة تشمل العقائد كما تشمل المنجزات العلمية والمادية.

وقد نبه بعض المفكرين الإسلاميين إلى مسألة أراها جديرة بالاعتبار، وهي أنَّ أي تجربة بشرية يمكن أن تكون حضارة ما دامت تتوافر فيها الشروط التالية:

•    وجود نسق عقدي يحدد طبيعة العلاقة مع عالم الغيب ومفهوم الإله سلبًا أو إيجابًا.
•    وجود بناء فكري سلوكي في المجتمع يشكل نمط القيم السائدة وهي الأخلاقيات العامة والأعراف.
•    تحديد نمط العلاقة مع الكون ومسخراته وعالم أشيائه.
•    تحديد نمط العلاقة مع المجتمعات الإنسانية الأخرى.

فهل تنطبق هذه الشروط على المجتمعات المسلمة لتكون في مجموعها الحضارة الإسلامية؟

                                                                                يتبع…

التعليقات

  1. saadia lahlali

    merci merci bocoup

  2. شيماء

    هذا جد مفيد
    جازاك الله خيرا

  3. ذ مصطفى بن الحسن

    بسم الله الرحمان الرحيم

    شكر الله لك دة ريحانة جهدك في اختيارك لموضوع قيم وجدي، يسنهض أمتنا من غيبوبتها الحضارية، لتستعيد عافيتها وتسترجع شرف تكليف شهودها الحضاري من جديد، تحقيقا للخيرية التي من أجلها
    أخرجت للناس.

    خصوصا على مستوى المصطلح والمفهوم، الذي يسبق الحديث عن المنهاج الحضاري المفقود المطلوب من منظور مرجعيتنا الاسلامية الدينية المدنية.

    ومساهمة مني في إغناء الموضوع وإثرائه رأيت أن أطرح مجموعة من الأفكار حول مفهوم الحضارة من
    خلال مجموعة من المفكرين لهم وزنهم الفكري والثقافي على الساحة الفكرية والثقافية والعلمية في سياق طرح السؤال الماهيتي التالي:

    هل الحضارة هي المدنية ؟

    والله ولي التوفيق.

    يدعي فهمي هويدي أن "الحضارة الإسلامية شارك في صنعها المسلمون وغير المسلمين وهؤلاء هم الآن أبناء شرعيون لهذه الحضارة". فالقول بأن الحضارة الإسلامية شارك في صنعها غير المسلمين هو قول مخالف للحقيقة، لأن الحضارة هي مجموعة المفاهيم عن الحياة، ومفاهيم المسلم عن الحياة تختلف عن مفاهيم غير المسلم، فكيف يعقل أن يشارك هذا الأخير في صنع مفاهيم وحضارة غيره؟! اللهم إلا إذا وقع الكاتب في الخلط بين الحضارة والمدنية، وفي هذه الحالة يكون قد وقع في خطأ اعتباره للأشكال المادية من سيارات وطائرات وآلات ومخترعات أنها من الحضارة.

    ويقول خالد محمد خالد "أما عن الحضارة فإن المتطرفين في هجومها والداعين لمقاطعتها يقعون في تناقض عجيب ومريب فهم يتحدثون في التليفون ويستضيئون بالكهرباء ويركبون الطائرات في سفرهم إلى الحج، أفلا يعلمون أن هذا كله مما أفاءته الحضاة عليهم من عطاء؟!". ويبدو أن الكاتب وقع ضحية جهله للفرق بين الحضارة والمدنية تماماً مثل زميله السابق أو أنهم هكذا طلب منهم أن يقولوا. فالطائرة والهاتف والكهرباء وكل الأشكال المادية ليست من الحضارة؛ لأنها لا تحمل وجهة نظر مخترعيها، وبالتالي فإن استعمالها لا يترك بصمات فكرية على مستعمليها، ولا يتعارض مع عقيدتهم أو أفكارهم أو حضارتهم. وهي من الوسائل المادية التي تسهل للإنسان _مطلق إنسان_ الانتقال والتخاطب وتوفير الجهد واختصار الزمن والمسافة، ولا تعني لمستعمليها أكثر من ذلك بأي شكل من الأشكال، وبالتالي يمكن للشيوعي الملحد أن يقتني سيارة اخترعها وصنعها الإنسان الغربي دون أن يؤثر ذلك على عقيدة الشيوعي أو فكره، ويمكن للإنسان الغربي أن يشتري دبابة سوفياتية دون أن يتضمن ذلك تنازلاً من الغربي عن فكره وحضارته، ويمكن بالمقابل للرأسمالي والشيوعي ان يشتريا براميل نفط استخرجت من بلاد المسلمين أو آلات متطورة أنتجتها الدولة الإسلامية وبدون أن يؤثر ذلك بالضرورة على مفاهيمهما أو وجهة نظرهما وما ينطبق على الوسائل المادية والمخترعات ينطبق بالتالي على العلوم بشكل عام، باستثناء بعض الجزئيات من العلوم، تلك التي تحمل وجهة نظر مناقضة للعقيدة مثل نظرية داروين مثلاً، أو مثل تعلم الفلسفة.
    ففي العقيدة الرأسمالية والشيوعية لا يعد ذلك مخالفاً لعقائدهم، لكنه بالنسبة للمسلمين يعتبر مناقضاً لعقيدتهم، وهنالك بعض الجزئيات تخالف أحكاماً شرعية لدى المسلمين مثل تشريح الجسم البشري، بينما من وجهة نظر الرأسماليين والشيوعيين ليس فيها شيء، من هنا يتضح أن الحضارة شيء والمدنية والعلوم والمخترعات أشياء أخرى، والخطورة على المبدأ تكمن دائماً في الغزو الحضاري الذي يعني ضمناً الغزو الفكري.

  4. أم إلياس

    أولا ماذا تقصدين باستعمالك للفظ "تزاحم" الوارد مرتين في حديثك؟
    ثم أقول قد يكون ابن خلدون، وهو من المتأخرين، أول من عرف مصطلح "الحضارة" – كما ذكرت – لكن المسلمين استعملوا مصطلحا آخر أكثر دقة وأكثر تعبيرا عنهم وعن أصولهم الدينية وهو مصطلح العمران. وابنُ خَلدون نفسه عرف بوضع أسس علمٍ جديد، وهو "علم الاجتماع"، والذي أطلق عليه "علم العمران البشري"، وذلك لأول مرَّة في التاريخ، وقبل أن تعرف أوروبا علم الاجتماع بأربعة قرون، كما أنه قام بوضع أسس "علم التاريخ"، وقد جاء الاعتراف بفضله في العصر الحديث من علماء الغرب أنفسِهم، فهو ليس مؤرِّخًا فقط، بل واضع لنظريات حديثة في "علم التاريخ" بجانب أنه منشئ "علم الاجتماع".
    وقد تحدث الدكتورعبادي في افتتاحية هذا العدد عن أن : "لكل حضارة أسس ومنطلقات معينة تتحكّم في ولادتها، وتوجه نشوءها ومساراتها، ومن ثم تميزها عن غيرها من الحضارات الأخرى. والحضارة الإسلامية لا تشذ عن هذه القاعدة؛ فلها أيضا أسس ومنطلقات خاصة تحكّمت في ولادتها، ووجّهت نشوءها ومساراتها. ولعل أبرز ما تميزت به التجربة الإسلامية الحضارية في هذا الخصوص، ما يمكن تسميته بـ"محورية النص". فقد تبوأ النص (القرآن والحديث) منزلة محورية في مسار تشكّل الحضارة الإسلامية التي أغنت الحضارة الإنسانية خلال قرون طويلة…".

أرسل تعليق