Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

تعليق واحد

التربية البيئية في التشريع الإسلامي

      2. الاستخدام الأمثل للانتفاع بالموارد البيئية

      إن الإسلام جعل من أهدافه في ربط المسلم ببيئته أن يكون الانتفاع حقيقيا، وأن يحقق الانتفاع مقاصد الإسلام، ولذلك طالب المسلم بحسن إتقان العمل في استغلال الموارد البيئية والاستفادة منها.

      فالانتفاع يعتبر أحد مقومات الاستخدام في الشريعة الإسلامية، ولذلك أحاطت التعامل مع المكونات البيئية بسياج من الأحكام يحفظها من التلف والضياع، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إتلاف كل ما ينتفع به ففي الحديث “ما من إنسان قتل عصفورا فما فوقها بغير حق إلا سأله الله عز وجل عنها، قيل يا رسول الله وما حقها؟ قال: يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها ويرمي بها”[1] وفي رواية “من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله عز وجل يوم القيامة يقول يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة”[2].

       وقول النبي صلى الله عليه وسلم “عصفورا فما فوقها” يشمل الأحياء البيئية التي ينتفع بها الإنسان، فلا فرق بين صغير أو كبير؛ إذ إتلافها إخراجها عن المقصد من وجودها، ولذلك حدد النبي صلى الله عليه وسلم المنفعة في الذبح والأكل والانتفاع، والعبث في القتل دون هدف، فالقتل هو القتل بالنسبة للعصفور ولكن اعتراض الإسلام أن يذهب في عبث لا في منفعة[3].

      ومن هذا المنظور ورد في الشريعة الإسلامية النهي عن أن تصبر بهيمة “فعن إسحاق بن سعيد بن عمرو وعن أبيه أنه سمعه يحدث عن ابن عمر رضي الله عنه أنه دخل على يحيى بن سعيد وغلام من بني يحيى رابط دجاجة يرميها فمشى إليها ابن عمر حتى حلها ثم أقبل بها وبالغلام معه، فقال: ازجروا غلامكم عن أن يصبر هذا الطير للقتل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل”[4] فهذه الواقعة تبين دور التربية في تصحيح مسار الغلام حتى لا يتعود على العبث بالموارد البيئية، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم[5]؛ لأن هذا التحريش توظيف للبهائم في غير ما خلقت له “لا يحل لأحد أن يحرش بين فحلين ديكيــن فمــــا فوقها”[6] وأخرج البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “بينما رجل راكب على بقرة التفتت إليه فقالت لم أخلق لهذا خلقت للحراثة”[7]. فالقول المسند إلى البقرة ليس مقول اللسان بل هو مقول الحال، وهو دليل على وجوب مراعاة سنن الله التي تحظر أن يستعمل الشيء في غير ما أعد له، ويقرب من هذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ الدواب كراسي؛ فقد روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله قال: “إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر؛ فإن الله إنما سخرها لكم لتبتغوا إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجاتكم”[8].

      فالعبث بالكائنات البيئية التي تشكل الموارد التي ينتفع بها الإنسان خرق للسنن الكونية في إطار قوانين التسخير، ومن ثم وجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه للانتفاع بجلد الميتة.

      وقد جسد هذه التربية البيئية الرعيل الأول في سلوكهم فعن جويرة بن أسماء قال: “قطع رجل بالمدينة فَقِيلَ لَهُ: عَلَيْكَ بِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، فَأَتَى وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَذَكَرَ لَهُ حَاجَتَهُ، فَقَامَ مَعَهُ، فَانْطَلَقَ إِلَى أَهْلِهِ، فَمَرَّ بِقِطْعَةِ كِسَاءٍ، أَوْ خِرْقَةٍ مَطْرُوحَةٍ فِي كِسَاءٍ؛ فَأَخَذَهَا بِيَدِهِ فَنَفَضَهَا ثُمَّ تَعَلَّقَهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ فِي نَفْسِهِ: وَمَا أَرَى عِنْدَ هَذَا خَيْرًا؟!؛ فَلَمَّا دَخَلَ دَارَهُ، رَأَى غِلْمَانًا لَهُ يُعَالِجُونَ، يَعْمَلُونَ أَجِلَّةَ الإِبِل[9]، فَرَمَى بِهَا إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: اسْتَعِينُوا بِهَذِهِ فِي بَعْضِ مَا تُعَالِجُونَ؛ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِرَاحِلَةٍ مقتبة[10] محقبة[11] وَأَحْسِبُهُ ذَكَرَ زَادًا”[12].

      وروى أن قوما أتوا قيس بن سعد بن عبادة فسألوه حمالة فرأوه في حائط له يلتقط التمر والحشف، ويميز كل واحدة على حدة، فقالوا: “ما عند هذا خير، ثم كلموه، فقضى حاجتهم، فقالوا: ما أبعد هذا من فعلك الأول؟ فقال إنما أعطيتكم من هذا الذي أجمع[13]. وقعد هشام بن عبد الملك يوما قريبا من حائط فيه زيتون، ومعه عثمان بن حبان، وهو يكلمه إذ سمع هشام نفط[14] الزيتون، فقال هشام لرجل: انطلق إليهم فقل لهم: التقطوه لقطا، ولا تنفضوه نفضا فتفقأ عيونه وتكسر غصونه[15].

      إنها نماذج تعكس حسن استغلال الموارد، والانتفاع بها على الوجه السليم وبالطرق المشروعة، وهذه التربية البيئية لم تقتصر على ديار الإسلام بل تجاوزت ذلك إلى ديار غيرهم، ولم تستثن من ذلك سلما أو حربا، ومن روائع ما يذكر في هذا المجال وصية النبي صلى الله عليه وسلم لجيشه في غزوة مؤتة “لا تقتلن امرأة ولا صغيرا رضيعا، ولا كبيرا فانيا، ولا تقلعن شجرا، ولا تهدموا بيوتا”[16]. وقد سار على هذا النهج أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين أوصى قواده الذين وجههم لحرب المرتدين وفتح الشام، وهي وصية تتم عن الاهتمام بالبعد البيئي وفيها يقول: “يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة “[17]؛ إنها أخلاقيات التعامل مع البيئة كما جسدتها التربية الإسلامية وكما رسمتها قيم الشريعة الإسلامية.

يتبع..

————————————————————-

  1. أخرجه النسائي في كتاب الصيد باب “إباحة أكل العصافير”، ج: 7، ص: 206، انظر سنن النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي دار الفكر، الطبعة الأولى1348هـ/1930م وأخرجه أيضا الدارمي في السنن باب “من قتل شيئا من الدواب”، ج: 2، ص: 84 طبع دار إحياء التراث العرب د. ت.

  2. أخرجه النسائي في السنن كتاب الضحايا ج: 7 ص: 389 وأحمد في المسند ص: 389، وابن حبان، ج: 7 ص: 557، انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: ترتيب الأمير علاء الدين بن بلبان الفارسي: تحقيق كمال يوسف الحوت، دار الكتب العلمية الطبعة الأولى1407هـ /1977م.

  3. الثروة في ظل الإسلام، ص: 33.

  4. رواه البخاري في “باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة”، البخاري بحاشية السندي.

  5. رواه أبو داود في كتاب “الجهاد باب في التحريش بين البهائم”، سنن أبي دواد، ج: 3 ص: 26.

  6. أخرجه عبد الرزاق في المصنف باب التحريش بين البهائم، ج: 6 ص: 454/الطبعة الأولى 1395 هـ /1972م منشورات المجلس العلمي.

  7. أخرجه البخاري في باب “استعمال البقرة للحراثة”، البخاري بحاشية السندي، ج: 2 ص: 45.

  8. رواه أبو داود في كتاب “الجهاد باب في الوقوف على الدابة”، سنن أبي داود ج: 3 ص: 27.

  9. جمع جل بالضم والفتح وهو ما تلبسه الدابة لتصان به.

  10. مقتبة: أي مجهزة بكل ما يلزم ركوبها ومعلفة.

  11. الحقب: الحزام الذي يلي حقوق البعير أي بطنه أو حبل يشد به الرحل في بطنه.

  12. إصلاح المال لابن أبي الدنيا “باب إصلاح المال” الحديث رقم 126.

  13. إصلاح المال، ص: 207.

  14. نفط الزيتون: تحريكه وضربه بقوة حتى يسقط ثمره.

  15. إصلاح المال، ص: 208.

  16. رواه مسلم في كتاب الجهاد: “باب يحرم قتل النساء والصبيان”.

  17. خطب أبي بكر الصديق ورسائله ووصاياه ومسنده وفتاواه: جمعها وحققها وعلق عليها الأستاذان أحمد محمد عاشور وجمال عبد المنعم الكوني، ص: 58 دار الاعتصام 1994م.

التعليقات

  1. عزالعرب بوكيلي مخوخي

    أرجو أستاذي الفاضل سيدي عبد الله معصر أن تتحفوا القراء بأقوال أهل الله في هذا الموضوع القيم… ومزيدا من العطاء والاجتهاد والابداع .

أرسل تعليق