Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

أما آن للإنسان أن يترشد (2)

      قال الله تقدست أسمائه “سأصرف عن اَياتي الذين يتكبرون في الاَرض بغير الحق وإن يروا كل أية لا يومنوا بها وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يَّروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بأياتنا وكانوا عنها غافلين” [سورة الاَعراف، الآية: 145].

      هذا الحديث لَحَق وتكميل لحديث سابق في الموضوع نفسه في هذه السلسلة. ونظرا  إلى أن بعض القراء الأفاضل رغب في إلقاء مزيد من الضوء عليه وشرحه وبسطه، رأيت أن ألحق به إضافات مفيدة استلهاما واستهداء بمعاني آية الأعراف.

      لقد قلت فيا سبق: إن تبين الرشد، وفهمه، وإدراكه، والعزم عليه، والعمل به تحد كبير، وابتلاء عظيم للإنسان المعاصر، ذلكم لأن العالم الذي نعيش فيه هو عالم استلاب الرشد وتغييبه في المقام الأول.

      إن عبادة المال، والربا، والثراء السريع، والتسلق الاجتماعي، وحب الدعة والترف، والفراغ، والإدمان، وتعاطي المخدرات، والقمار، والاكتئاب، والعنف، والحسد، والأنانية، والجنس والصور الخلاعية، والمثلية، والشذوذ… كلها أشكال للاستلاب الثقافي الذي تتورط فيه الحشود البشرية كل يوم، وتستحوذ عليها مؤثرات خارجية تسحق قدرتها على تبين الرشد، واختيار سبيله، والاستمرار عليه.

      ولكن السؤال الذي يتداعى إلى الخاطر: كيف فقدنا الرشد؟ وهل الرشد والرشاد من الصعوبة بمكان إلى درجة أننا نقترب من ظلال الآية: “أليس منكم رجل رشيد” [سورة هود، الآية:78].

      أما آن للإنسان أن يترشد؟ كيف وصلنا إلى حال من قال الله فيهم: “وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا” [سورة الاَعراف: الآية:146] أليس هذا الموضوع جديرا بأن نتأمله ونتدبره. هل تبين المسلمون حقا الرشد من الغي؟ ما حقيقة الرشد؟ وما السبيل إليه على صعيد الأفراد المؤسسات؟ هل يمكن أن يصدق علينا ما أخبر الله به عن قوم، وقد كانوا في حالة من الضياع والتيه “وإِنا لا ندري أَشر اَريد بمن في الاَرض أم اَراد بهم ربهم رشدا” [سورة الجن، الآية:10]، لكنهم حين لامس القرآن شغاف قلوبهم وعرفوا مرامه ومغزاه قالوا: “إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا” [سورة الجن، الآية:2] إلى أن قالوا: “وإنا لما سمعنا الهدى أمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن اَسلم فأولئك تحروا رشدا” [سورة الجن، الآية:14]. فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا… نعم الإسلام هو اتباع الرشد وتحريه.

     فإذن، حقيقة الإسلام كما دلت عليها الآيات تحري الرشد، واتباع سبيل الرشد، ولكن لا يمكنك أن تتبع سبيل الرشد دون أن تتبينه، لا بد أن تكون مفرداته ومعالمه واضحة جلية في ذهنك، والطريق إلى هذا البيان والتبين هو سلوك سبيل العلم والمعرفة كما في القرآن “هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا” [سورة الكهف، الآية: 66]. فلا سبيل لاستعادة الرشد لأنفسنا ولحياتنا ومؤسساتنا إلا من جهة العلم.. فهل من سبيل إلى تعلم الرشد، هل من سبيل أن نميز بين الرشد والغي؟ كيف نتعلم الرشد في التربية؟ وكيف يترشد سلوكنا السياسي والثقافي والاجتماعي؟ كيف تقوم الدولة والمجتمع على مؤسسات راشدة؟ قد يظن ظان أني أسوق هذه الأسئلة قصد الإجابة عنها، كلا المقصود أن يفكر الناس في مغازي الأسئلة وأن يتأملوها وأن يمعنوا النظر فيها، وعندي أن الاشتغال بتحرير الأسئلة أفضل أحيانا من المسارعة إلى الأجوبة. وأحسب أن مقدمة الرشد وشرطه الضروري هو بذل الوسع في النظر، واستنفاد الجهد في تأمل حقائق الأشياء كما قال الله جل شأنه “قل اِنما أعظكم بواحدة اَن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة” [سورة سبأ، الآية:46].

      حين يستغلق موضوع ما على فهومنا، وحين يكون محل التباس واشتباه، فمعنى ذلك أننا لم نعطه ما يستحق من البحث والتأمل، وهكذا  يبدأ الإنسان بداية خاطئة، ولقد قيل إن تخلف أمة وانحطاطها ما هو إلا فكرة خاطئة…

      عود على بدء، ولنرجع إلى قوله تعالى: “سأصرف عن اَياتي الذين يتكبرون في الاَرض بغير الحق وان يروا كل أية لا يومنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بأَياتنا وكانوا عنها غافلين” [سورة الآعراف: الآية:145]، ففي الآية تنبيه على علة العلل التي تجعل الإنسان فاقدا للرشد حتى إنه يرى سبيله وتقوم عليه حجته ومع ذلك لايسلكه، كأن الله جل وعلا يقول إن المانع الأخطر الذي يحجز الإنسان عن رؤية الرشد والعمل به هو التكبر في الأرض بغير الحق. كأن الآية تعلق كل أشكال الضلال والغي على عدم الإذعان للأدلة والتسليم بها، حتى لو رآها المرء وأدرك حجيتها على نفسه، يستنكف ويستكبر في الأرض بغير الحق.

      فالآية تذكر بمشكلة كبيرة يعاني منها الإنسان بمختلف درجاته ومواقعه وتجاربه وهي مشكلة التكبر. والتكبر في الأرض بغير الحق هو عدو الرشد اللدود، والمانع الذي يحجب عن رؤيته، وسلوك طريقه، وهو الذي يجر إلى التكذيب بالآيات والأدلة، والغفلة عنها، وعدم الاعتبار بها.

      حين نفكر في الطريقة التي نمارس بها الدين، وحين نفكر في أولئك الذين يرفعون رايات الدين وشعاراته لإجهاض الدين واستغلاله، وحين نفكر في الصيغ والطرق التي يؤذي بها بعضنا بعضا؛ وقد خرجنا لتونا من بيوت الله وقامت علينا حججه وبيناته، وحين نعتقد أن فرض الدين بالإكراه و الترهيب والقهر هو عين الرشد، والله يقول: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”  فالإكراه في الدين  بجميع أشكاله خلاف الرشد؛ وهو سفه وبغي…قلت حين نتصفح هذه الأحوال والمواضعات الغريبة والمتعارضة التي تكتنف سياقنا المجتمعي العام نتيقن أن هدي النبوة ونسمات الإيمان لم تهب بعد… لأننا هجرنا الرشد منذ أمد بعيد، وطال علينا العهد، ولم يعد لدينا استعداد للتفكير فيه، والعزيمة عليه…

      فاللهم نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد. آمين.

التعليقات

  1. خلوقي صديق من أميركا

    بداية أقدم كامل الشكر للدكتور الفاضل عبد الحميد عشاق الذي أرشدني إلى هذا الموقع.
    الرشد هو الصلاح والاستقامة، وهو خلاف الغي والضلالة، والرشيد كما يذكر الرازي على وجهين:
    • أولهما أن الراشد الذي له الرشد، ويرجع حاصله إلى أنه حكيم ليس في أفعاله هبث ولا باطل؛
    • وثانيهما إرشاد الله يرجع إلى هدايته، والله سبحانه الرشيد المتصف بكمال الكمال عظيم الحكمة بالغ الرشاد، وهو الذي يرشد الخلق ويهديهم إلى ما فيه صلاحهم ورشادهم في الدنيا وفى الآخرة، لا يوجد سهو في تدبيره ولا تقديره، وفى سورة الكهف "من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدا"، وينبغي للإنسان مع ربه الرشيد أن يحسن التوكل على ربه حتى يرشده، ويفوض أمره بالكلية إليه، وأن يستجير به كل شغل ويستجير به في كل خطب، كما أخبر الله عن عيسى عليه السلام بقوله تعالى: "ولما توجه تلقاء ربه قال عسى ربى أن يهديني سواء السبيل".
    وهكذا ينبغى للعبد إذا أصبح أن يتوكل على ربه، وينتظر ما يرد على قلبه من الإشارة فيقضى أشغاله ويكفيه جميع أموره..
    فجزى الله عنا الكاتب خير جزاء

  2. الأمـــين بـــــوسلهــــــــام

    بسم الله الرحمن الرحيم

    لي كامل الشرف أن أتعرف على هذا الموقع اليوم عن طريق الأستاذ الدكتور الفاضل عبد الحميد عشاق الذي أكن له كل التقدير والإحترام منذ أن كنا ندرس سويا بالكلية في عقد الثمانينات.

    هذه الجريدة التي تصدر عن الرابطة المحمدية للعلماء، والتي حاولنا الإنضواء تحت لوائها يوم أن كانت تدعى {رابطة علماء المغرب}لكن لم نتمكن من ذلك.
    واليوم نتساءل: هل من سبيل لتحقيق هذا المبتغى؟
    ونحيي كل الساهرين على هذه الجريدة، ونتمنى لها التوفيق والسداد.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    أخوكم في الله الأمين بوسلهام الناظـور

  3. مجيد الاخ

    السلام عليكم أيها القراء الأفاضل،

    إن الرشد هذه الأيام سراج مفقود في نفوسنا المتلهفة لملذات الحياة الزائلة والأشد أسفا هو أن الكثير منا يرجئ علة فقدان الرشد إلي عيوب هذا الزمان بمادياته ومتاهاته ومبرراتنا اللصيقة باعتباره رأس العلل، ولكني أرى أن العيب فينا وفي عبادة الهوى الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم حيث نلهث وراء غرائزها دونما رشد الى غاية الخلق الالهي فينا وهو عبادة الواحد الأحد واستخلاف الله في الأرض وشكره…لأنه جعل لنا الارض ذلولا والنهار معاشا والليل لباسا….. كل هذه والعطايا غاب عنا الرشد بأن الله هو الغني ونحن الفقراء اليه.
    فالرشد أيها الأخوة الكرام جوهرة ثمينة وكنز مفقود يستدعي منا استنهاض الهمم ولملمة المحفزات الذاتية لمحاربة هذا الفقر المذقع في سبيل حيازته..
    والأخ الفاضل أكثر من طرح الأسئلة بدل الغلو في شرح الموضوع؛ لأن السؤال مهيج للإجابة وما دام الأستاذ تساءل معنا عن الرشد فلأنه قصد غاية الاستفزاز الذاتي لنفوسنا الأمارة الضعيفة قصدا يروم به الإصلاح والصحوة.. وهذا بلا شك مبتغى كل مسلم غيور على حال المسلمين في الوقت الراهن، والرشد غايتنا لنيل رضا الله ورسوله والارتقاء بمنزلتنا بين الأمم لنكون خير أمة أخرجت للناس.
    فجزى الله عنا الكاتب والميثاق أفضل الجزاء.

أرسل تعليق