Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه

يقول عز وجل تقدست أسماؤه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ” [الاَنفال، 20] إلى أن قال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” [الانفال، 24-25].

الغرض من سياق هذه الآيات تربية المؤمنين أن يمتثلوا أمر الله جل وعلا، ويستجيبوا لندائه فأمرت الآية الأولى المؤمنين بطاعة الله ورسوله، وحذرتهم أن يكونوا كالذين سكّرت أسماعهم الذين قالوا سمعنا وهم في حقيقة الأمر لا يسمعون، ثم أمرت الآية الثانية بالاستجابة لله ورسوله، وحذرت المؤمنين من الوقوع في حال يفقدون معها الانتفاع بقلوبهم كمن قال تعالى في شأنهم “فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الاَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور” [الحج، 44].

ومن ذلكم الشغف بحب الدنيا وزخارفها ومفاتنها، والتنافس في جمعها، والتكاثر فيها كما قال جل شأنه “أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الاَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الاَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ” [التوبة، 38] فالحقيقة التي تقررها الآية الكريمة أن حب الدنيا والانغماس في ملذاتها يحول بين الإنسان وقلبه، فلا يرى الحق حقا ولا ينهض للقيام بأمر ربه. ومعنى أن الله جل وعلا يحول بين المرء وقلبه أي يفصل ويحجز بينها، وهذا المنع والحجز إنما يكون في ساعة حاجة المرء إلى قلبه، والقلب في القرآن هو حركة الوعي والإدراك والتمييز؛ هو الإرادة التي يكون بها الإنسان إنسانا، وحاجته إلى قلبه لا تنقطع ولكنه في بعض الأحيان يكون أشد احتياجا إلى قلبه، فإذا بحث المرء عن عدته الوحيدة ووسيلته القصوى؛ وفي ساعة من ساعات الشدة؛ فإذا هو قد افتقدها وأضاعها، ولا يستطيع الوصول إليها بحال فأي حرج أكبر من هذا الحرج، وأي شدة أعظم من هذه الشدة… وهذا تحذير شديد ترتعد له الفرائص وترجف له القلوب، وقد اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية وسأقتصر هنا على بعض ما جاء فيها مع التركيز على الأمثلة التي تبين هذه الحالة الغريبة التي يقع فيها الإنسان بعيدا عن قلبه لا يستطيع أن ينتفع به:

ذكر ابن جرير الطبري بأنه جلّ شأنه أملك لقلوب عباده من أنفسهم، وأنه يحول بينهم حتى لا يقدر ذو قلب أن يبغي شيئا أو يميل إلى شيء إلا بإذنه ومشيئته، ونورد هنا بعض الأسباب الواضحة الجلية التي تحول بيننا وبين الاستجابة لدعاء الله ودعاء رسوله، فمنها:

واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه

السبب الأول: حالة الموت؛ حين تشل إرادة الإنسان، ويعقد لسانه، ويشخص بصره، وتبرد أطرافه، هنالك لا رأي ولا عقل ولا تفكير ولا إرادة. وقد فسر بعضهم معنى الآية بهذا التأويل فقال “بادروا إلى الاستجابة قبل أن لا تتمكنوا منها بزوال القلوب التي تعقلون بها بالموت الذي كتبه الله عليكم“.

السبب الثاني: غلبة الهوى؛ الهوى بجميع أضربه وأشكاله يعمي عن رؤية الحق، ويصم عن سماعه كما قال تعالى “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ” [الجاثية، 22].

السبب الثالثغلبة العصبية، والعصبية هي ما ألف المرء اعتقاده عن أبيه وعشيرته وبيئته وحزبه وجماعته، ونشأ عليه حتى خالط لحمه ودمه وعظمه “إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ” [الزخرف، 21]. وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “فأبواه يهودانه ويمجسانه أو ينصرانه” وإذا أضيف إلى هذا الإلف الهوى والكبر والصلف والعناد انتهى إلى أن قال الله تعالى: “خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ” [البقرة، 6].

السبب الرابعالإدمان على الشر؛ لقد أودع الله في قلب كل إنسان ضميرا ينزع بفطرته إلى الخير ويرغب فيه، وينزع عن الشر ويأباه، ولكن الإنسان قد يدمن على الفساد، ويعوذ بالله ويقع فيه المرة بعد المرة حتى يقسو قلبه ويموت وجدانه ويتبلد إحساسه فلا يحس بكراهية الشر، ولا ينفر منه بل يألفه “كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ” [المطففين، 14]. والرين: الطبع والدنس، والرين الصدأ الذي يعلو السيف والمرآة، وران الذنب على قلبه غلب عليه وغطاه.

قال الحسن البصري: “هو الذنب على الذنب حتى تسود القلب“.

السبب الخامس: الفتنة العامة؛ حتى تعم في كل شبر من جنبات المجتمع، ويستشري أمرها، ويعم وباؤها الناس جميعا، حين ذاك يخرج الأمر من أيدي العقلاء، ويصبح الأمر فوق طاقتهم، وهناك تكون الفتنة في شدتها وضراوتها حائلا يحول بين عقلاء الأمة وحسن التدبير، وإيجاد مخرج هادئ ملائم من الأزمة…

أرسل تعليق