منارات من تاريخ المغرب…(4)
2. الحضارة أخذ وعطاء
الحضارة في الأصل معناها: الإقامة في الحضر، تم أصبح معناها مع توالي الأزمان التقدم العلمي والتقني والأدبي والفني، والرقي الفكري الإنساني، والسمو الاجتماعي والأخلاقي.
ويفسر بعضهم هذه الحضارة بأنها محاولات العلماء لاستكشاف كنوز بطون الأرض والطبيعة، واختراع ما سوف يسعد الإنسانية ويريحها من الأنصاب والأتعاب فوقها، ويجعلها ترقى في سلم النمو والتقدم والرفاهية والرخاء.
ويتم تنقل الحضارات المتواصلة العطاءات بين بني البشر عن طريق الفتح أو الهجرة أو المتاجرة أو الجوار أو التواصل والتحالف. فالحضارة إذا هي كالبساط تنسجه أيدي كثيرة وعقول متفتحة، وطاقات بشرية متألقة تنتمي لمختلف القارات والمجتمعات والهيئات، وكلها تسعى إلى تقوية جسور التواصل والتفاهم والتعايش والترابط بين المجتمعات الإنسانية. وبما أن لها جذورا بشرية مشتركة، حسب ابن خلدون؛ فإنها بذلك تكون من أقوى وسائل التفاهم المنشود بين كافة بني البشر.
ونعطي مثالا على الحوار بين الحضارات والتواصل الحضاري –بكل اختصار– بما تركه أثر العلوم العربية على النهضة العلمية الأوروبية قديما، وبتعامل علمائها معها للاغتراف من معينها الفياض.
لا يختلف اثنان على أنه كانت للعرب حضارة عريقة في المجد، في الوقت الذي فيه أسلاف أصحاب حضارة اليوم يتخبطون في ويلات العصر (الجاهلي)، بسبب الخلافات الدينية والمظالم الحكومية. وقد يدعي البعض أن العرب لم يكونوا خلاقي حضارة ولكن نقلة تراث حضاري قديم. حقا إن العرب أخذوا عن اليونان فلسفتهم وعن الفرس والإغريق ما اشتهروا به من علوم ومعارف مختلفة، ولكن هم الذين ترجموا ودرسوا وهذبوا ووضحوا وصححوا ونسقوا وأضافوا وأبدعوا، ووسعوا نطاق هذا التراث المقتبس وعرفوا دون غيرهم كيف يستغلونه ويستنبطون منه أشياء أخرى لا تصدر إلا عن رجال علماء متوقدي الذهن تواقين إلى الابتكار.
فلم يقتصر علماء العرب على قراءة الكتب، بل أدركوا أن التجربة أحسن شيء بعد قراءة الكتب، فأبدعوا طريقة البحث العلمي القائم على التجربة، وقاموا فعلا بتجارب علمية ناجحة، وتوصلوا إلى اكتشافات هامة “بعد أن عرضوا جميع ما نقلوه على محك العقل، وناقشوه وجربوا المعطيات والنتائج، وساروا في الأرض يقيسون ويحسبون” كما قال بعضهم، فجمعوا بين العلم النظري والعلم التطبيقي.
فاحتل بذلك العلم العربي في العصر الوسيط مكانة مرموقة، كما احتلها العلم اليوناني في العصر القديم، والعلم الحديث في عصر الذرة والفضاء والتكنولوجيا المتقدمة.
واتجه العرب في بداية حضارتهم إلى ترجمة المؤلفات اليونانية والهندية والفارسية والرومانية والسريانية في “بيت الحكمة” ببغداد الذي أسسه المأمون، ليكون مركزا علميا ثقافيا، فكان كعبة العلماء من مختلف الأجناس والأديان، ومعهدا للدراسات العليا، ودارا للترجمة. وقد زخرت مكتبة هذا المركز الثقافي بالكتب البيزنطية والهندية والفارسية التي جبلها إليها المنصور والرشيد والمأمون…
يتبع في العدد المقبل…
أرسل تعليق