Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

قراءة في نَهْجِ التفاسير

      إنَّ أحسنَ علم تُصرَف فيه الهِمم، وتُبذَل فيه الجهود، وتُكرَّس له الأوقات، تفسيرُ كتاب الله تعالى، وبيانُ معاني ألفاظه. ولقد توارَثَ المسلمون عبر تاريخهم هذا العلم، واعتنَوْا به دراسة وفهما، وإيضاحا وتأويلا، وشرحاً وبيانا، فتوالَتْ فيه التصانيف والمؤلفات، وتنوَّعت المناهج والاهتمامات.

      ولقد كان التفسير في عهد الصحابة تفسيرا شفهيّاً، وجزءاً من أجزاء الحديث، ولم يكن مُدوَّنا ولا مُستقِلاًّ بذاته؛ لأن التدوين لم يبدأ إلا في القرن الثاني، فلم يَثْبُتْ عنهم تفسير كامل للقرآن، لعدم وجود الدواعي التي تَستوجبُ ذلك.

      والصحابةُ يُعَدُّون المصدر الثالث لتفسير القرآن؛ لأنهم شَهِدوا نزول الوحي، وسَمِعوا أسئلة السائلين، وإجابات رسولنا الأعظم عنها، ولَزِموا مجالسه، وعايشوا الملابسات والظروف التي أحاطت بالقرآن وأسباب نزوله، ووصَفَهُم الله فقال: “وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها” [سورة الفتح، جزء من الآية: 26].

      ومع كلِّ هذه المُقوِّمات التي امتلكها الصحابة في الاجتهاد، فقد كانوا متفاوتين في فهم معاني القرآن، نظرا للملابسات التي اكتنفت النصَّ القرآنيَّ، وتفاوتِهم في قوة الذكاء والاستنباط الإشاريِّ، والصَّفاء الروحيِّ، ومعرفةِ مفردات العربية وتراكيبِها وأساليبِها.

      يقول مسروق –كما في تفسير القرطبي 1/35-: (جالستُ أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتُهم كالإِخاذ –وهو المكان الذي يَجتمع فيه الماء، كالغدير ونحوِه– فالإخاذُ يُروِّي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العَشَرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم).

      ومن مميزات تفسيرهم -رضوان الله عليهم-، احترام بعضهم للرأي الآخَر، فكانت الشورى مبدأهم، والإجماع ديدنهم، ولم يكونوا يفترضون فرضيات وهمية، ولا يتخيلون تخيلات سطحية، وإنما كانوا يَتعرَّضون –بالشرح والتبيين– لِمَا كان غامضا مبهَما، أو مشكِلا مشتبها.

      أما التابعون -وهم الذين صَحِبُوا الصحابة- فقد كانوا بحقٍّ خير خلَف لخير سلف، إذْ رَوَوْا لنا روايات جمة مأثورة عنهم في تفسير القرآن، فما أجمعوا عليه فهو حجة يجب الأخذ به، وما اختلفوا فيه فليس بحجة، ويجب الرجوع فيه إلى أقوال الصحابة وعموم لغة العرب. والحقُّ أن التابعين تتلمذوا عن الصحابة في مدارس عديدة، من أشهرها: مدرسة مكة، والتي أسَّسها عبد الله بن عباس، ومدرسة الكوفة، وكان فاتحَها عبد الله بن مسعود، ومدرسة المدينة، وكان أستاذَها أُبَيُّ بن كعب.

      ولما انقضى عصر النبوة والصحابة والتابعين، اشتدَّتْ حاجة المسلمين إلى تدوين تفسير كامل شامل للقرآن الكريم، فجاء المفسرون بالرأي فسلكوا بتفاسيرهم مسالك واتجاهات تترى، من أهمها:

      1- التفسيرُ الموسوعيُّ: وهو الذي يَتوسَّعُ فيه صاحبه فيبحث –في كل ما يتصل بالآية من قريب أو من بعيد– في مباحث عديدة، وفنون كثيرة، مثل: (مفاتيح الغيب) للفخر الرازي (تـ606)، و(روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) للآلوسي (تـ1270).

      2- التفسيرُ البلاغيُّ واللغويُّ والنحويُّ: وهو الذي يتَّجه فيه صاحبه اتجاها بلاغيا أو لغويا أو نحويا، فيَعتَنِي فيه بالإعجاز البلاغي للقرآن، ويُظهِرُ فيه أوجهَ الإعراب ورصانةَ الأساليب، ومدلولَ التراكيب، ومعانيَ المفردات، وتوجيهَ القراءات، ومن أمثلة هذا المنهج: (الكشَّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) للزمخشري (تـ538)، و(البحر المحيط) لأبي حيان الأندلسي (تـ745)، وتفسير أبي السعود (تـ982)، المسمى: (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم)، و(بيان معاني القرآن) للزجاج، و(بيان معاني القرآن) للفراء.

      3- التفسيرُ الفقهيُّ: وهو الذي يَعتنِي فيه صاحبه اعتناءً خاصاً بآيات الأحكام، يستنبط منها القواعد والأصول، ليبين للناس الأحكام القرآنية الفقهية، التي كَلف الله بها عباده، ولم يَظهَرْ هذا النوع من التفاسير إلا بعد عصر التدوين، وأولُ من صنف فيه الإمام الشافعي، وسماه (أحكام القرآن)، وهذا التفسير جمعه أبو بكر البيهقي صاحب السنن، من مصنفات الإمام الشافعي، ثم تَبِعه أبو الحسن علي بن حجر السعدي (تـ244)، فألَّف (أحكام القرآن)، وجاء أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق الأزدي البصري (تـ282)، ثم أبو جعفر الطَّحاوي (تـ321)، وأبو بكر الجَصَّاص (تـ370)، وأبو الحسن الكياالهراسي (تـ504)، وأبو بكر بن العربي المالكي (تـ543)، وعبد المنعم الغرناطي (تـ597)، وأبو محمد مكي بن أبي طالب (تـ437)، وكلُّهم سموا تفاسيرهم: (أحكام القرآن)، إلا القرطبي (تـ671) فسماه (الجامع لأحكام القرآن).

      4- التفسيرُ العلميُّ: وهو الذي يُرَكِّزُ فيه صاحبُه على الاصطلاحات العلمية، والاكتشافات الحديثة، في مختلف الفنون والعلوم الأساسية، وكان أبو حامد الغزالي من نشطاء هذا المسلك، حيثُ صرَّح في كتابيْه: (الإحياء) و(جواهر القرآن) بأن في القرآن إشارة إلى مجامع العلوم التي لا نهاية لها، فهو البحر الذي لا شاطئ له، وتبعه (الرازي) فأَعْمَلَ عقلَه في معظم آيات الآفاق والأنفس، وفسَّرَها بما وصل إليه العلم في عصره.

      وفي غضون ظهور عصر الاكتشافات والثوْرَات العلمية، نجد الشيخ جمال الدين القاسمي يُخصِّص في مقدمة تفسيره (محاسن التأويل) فَصْلا في (بيان دقائق المسائل العلمية الفلكية الواردة في القرآن الكريم)، وتبِعه الشيخ محمد رشيد رضا في (المنار)، فذكر في الوجه السابع بعض أنواع إعجاز القرآن. ثم جاء الدكتور عبد الله درَّاز، فسَطَّر عنوانا أورد فيه (حقائق علمية) تَوَصَّل إليه العلم الحديث، في كتابه: (مدخل إلى القرآن). وجاء الشيخ الشعراوي فألَّف كتاب (معجزة القرآن)، تحدث فيه عن أبرز أوجه الإعجاز العلمي في القرآن، وأكَّد أن القرآن لا يَجمُدُ أبدا، وإنما يُعطي –دائما– للجيل القادم شيئا جديدا لم يُعطه للجيل الذي سبقه، وهكذا.

      وقد أيَّد هذا الاتجاه من التفسير معظم العلماء الذين عنوا بالدراسات العلمية الحديثة، كالشيخ طنطاوي جوهري في (الجواهر في تفسير القرآن)، والشيخ محمد الغمراوي في كتابه (الإسلام في عصر العلم)، والأستاذ حنفي أحمد في (التفسير العلمي للآيات الكونية)، والطبيب عبد العزيز إسماعيل في (الإسلام والطب الحديث)، والأستاذ عبد الرزاق نوفل، في (القرآن والعلم الحديث).

      أما المعارضون لهذا المسلك من التفاسير، فقد أَنْكَرُوا على الذين جعلوا العلوم الحديثة والنظريات العلمية ضمن علوم القرآن، وفسروا آيات القرآن على مقتضاها، ووضَّحوا أن هذا لا يليق بالقرآن. ومن أبرزهم: أبو إسحاق الشاطبي (تـ790)، وشيخ الأزهر محمد شلتوت، وعباس العقاد، وأمين الخولي، ومحمد حسين الذهبي.

      5- التفسيرُ العقليُّ الاجتماعيُّ: وهو الذي يعتمد فيه صاحبه على العقل المجرد، فيُعطيه الحرية المطلقة في فهم النصوص الشرعية، ويُركِّزُ على ما في الكون من سنن الاجتماع، فيحاول أن يجد الشفاء للأمراض الاجتماعية المتفشية في المجتمعات.

      وقد لجأ المعتزلة إلى هذا المسلك في التفسير، فتراهم يلجأون إلى تأويل النصوص التي تُخالِف مبدأهم، ويُقحِمُون العقل فيما لا طاقة له به، ويُعطونه سلطة التشريع في الأحكام والنُّظُم، ويَرُدُّون بعض الأحاديث الصحيحة. وقد تبعهم في العصر الحديث: الإمام محمد عبده، إذْ أَلقى مجموعة من الدروس في الجامع الأزهر، تَصُبُّ في قالب التفسير العقلي، وبيَّضها تلميذه محمد رشيد رضا، ونُشِرَتْ في مجلة المنار، واقتفى أثرهما الأستاذ محمد بهجت البيطار، وشيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي، والأستاذ محمد فريد وجدي.

      6- التفسيرُ العقدِيُّ البِدْعِيُّ: كتفسير المعتزلة والشيعة والخوارج، الذين يُطَوِّعون في تفاسيرهم الآيات القرآنية لخدمة مشاربهم وأهوائهم ومعتقداتهم.

      7- التفسير الصوفيُّ: وهو الذي رَكَّزَ فيه مُصنِّفوه على الورع، والزهد، ومجاهدة النفس، والرياضة الروحية، والإشارات القدسية… مثل: (لطائف الإشارات) لأبي القاسم عبد الكريم القشيري (تـ 465/1072) والذي يمكن اعتباره أول تفسير صوفي كامل وصلنا. طُبع هذا التفسير الإشاري في مصر سنة 1969م بتحقيق الدكتور إبراهيم بسيوني، وطبع بعد ذلك عدة مرات. وهو يتكون من ثلاثة مجلدات (أكثر من 2000 صفحة). ويرى الدكتور محمد كمال جعفر أنه لا بد قبل تقرير شروط قبول التفسير الصوفي التنبه إلى أن التفسير الصوفي يرتبط بنوعية اعتقاد المفسر، ويمكن إجماله في نوعين:

      أ- التفسير النظرى: وهو التفسير المبنى على نزعة فلسفية حيث تتوجه الآيات القرآنية لديهم وفق نظرياتهم وتتفق مع تعاليمهم.

      ب- التفسير الإشاري: وهو تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك ولا يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة.

      والفرق بين التفسير النظري والتفسير الإشاري في أثرهما على تفسير القرآن، أن التفسير النظرى يبنى على مقدمة علمية تنقدح في ذهن الصوفي أولا ثم ينزل القرآن عليها بعد ذلك، أما التفسير الإشاري  فلا يرتكز على مقدمات علمية بل يرتكز على مجاهدات رياضية، يأخذ الصوفي نفسه بها حتى يصل إلى درجة إيمانية تنكشف له فيها من سبل العبارات هذه الإشارات، وتتوالى على قلبه تحليل الآيات من المعاني الربانية.

      كما أن التفسير الصوفي النظري يرى صاحبه أنه كل ما تحتمله الآية من معاني وليس وراءه معنى آخر يمكن أن تحمل عليه إلا هذا، على حسب طاقته أما التفسير الإشاري فلا يرى الصوفي أن كل ما يراد من الآية بل يرى أن هناك معنى آخر تحتمله الآية ويراد منها أولا وقبل كل شيء ذلك المعنى الظاهر الذي ينساق إليه الذهن قبل غيره.

      ويرى الدكتور جعفر في شرطه لقبول التفسير الصوفي أن تأويل الصوفية للقرآن أو الفهم الخاص له إذا خلا من أي هدف سياسي أو اجتماعي، سواء كان لرد اعتبار أو كوثيقة أمن أو بسط سلطان أو كسب ثروة أو احتفاظ بمراكز نفوذ تتعلق بأشخاص أو بجماعات، إذا لم يكن له مثل هذا الهدف وإذا كان لا يعارض نصا قرآنيا آخر، ولا يعارض الاستعمال العربي، ولا يؤدى إلى تحريف أو انحراف، وإذا كان وجوده يضيف ثروة روحية أو عقلية، وإذا كان لا يدعى من السلطة ما يجعله أمرا ملزما، بفرض واحديته في الأحقية، إذ كان كذلك فهو تأويل مقبول، ليست له غاية إلا تعميق الفهم عن الله الذي ما زال كتابه منبعا لا يغيض ومعينا لا ينضب للحقائق والأسرار[1].

      7- التفسيرُ الموضوعيُّ: وهو نوع من أنواع التفسير الذي بدأت أصولُه تترسَّخ، ومناهجه تتضح، منذ نصف قرن من الزمن، وأُقِرّ تدريسه في الجامعات. يتولَّى المفسرون من خلاله إبراز الهدايات القرآنية لحَلِّ المشكلات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية في عصرنا الحاضر. فهم يريدون  إصلاح الواقع على هدي موضوعات القرآن، وإدراك الأبعاد الواقعية للموضوعات القرآنية. وهم يبدأون من حسن تشخيص حاجات الواقع، وينتهون إلى حسن تقديم العلاج القرآني لهذا الواقع. وبهذا يُقَدِّمُون للمسلمين فكراً وحضارة، وحلولاً قرآنية لمشكلات واقعية، وحقائق قرآنية عن قضايا اجتماعية وحضارية.

      ورغم أن هذا اللون من التفسير ينطلق من النص القرآني، إلا أنه مع ذلك لم يمتلك من الأدوات المنهجية ما يجعله وَفِيّاً للبنية الداخلية للنص المفسَّر، أكثر من الرؤية الخاصة للمفسِّر، ولذلك فهو لم يختلف عن نمط التفسير التقليدي إلا في الشكل، ومِنْ ثَمَّ لم يُؤمن فيه الانفصال عن النزعة المذهبية، أو البعد عن المعالجة الإنشائية الأدبية لموضوعات القرآن وقضاياه.

      كما أن هذه الفكرة لم تَتَبَلْوَرْ في شكل مشروع متكامل، يمكن تبَيُّن ملامحه بوضوح، فمع تعدد الرؤى والمناهج والأدوات لدى أصحاب الفكرة، وظهور مدارس واتجاهات داخل هذا النوع من الدراسات، أصبح من الصعب الركون إلى اتجاه بعينه، والرجوع إلى نموذج تطبيقي كامل وشامل وواحد، يفسر القرآن الكريم كله من منطلقات هذه الفكرة (كما أفادت الدكتورة د. فريدة زمرد، الأستاذة بدار الحديث الحسنية بالرباط).

      ويقوم مبدأ التفسير الموضوعي على مفهوم “الوحدة الموضوعية للقرآن”، وهو مفهوم له معنيين هما:

      أ- وحدة الأفكار والموضوعات: التي يتناولها النص القرآني، فما يقدمه مثلاً عن (المال) في أول القرآن الكريم، له علاقة مع ما يذكره عن(المال) في آخره، ويتكامل معه، ذلك لأن المصدر الذي صدر عنه النص القرآني، يفترض منطقيته وانسجامه مع بعضه، وهو معنى الآية الكريمة:

      “اَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً” [سورة النساء، الآية: 82]، أو وحدة الموضوع الذي يطرحه القرآن في السورة، التي تشكل برمتها موضوعاً واحداً.

      ب- وحدة القرآن الكريم، بناءً وموضوعاً: بحيث يصبح كالكلمة الواحدة في موضوعاته ومفرداته وألفاظه، وبناءً على مفهوم الوحدة الموضوعية، وُجِدَ هناك ثلاثة تعريفات للتفسير الموضوعي، تجعلنا نقول بوجود ثلاثة أنواع في التفسير الموضوعي هي: المفردة القرآنية والسورة القرآنية والموضوعات القرآنية.

      وهذه إطلالة على بَحْرِ مناهج المفسرين لكتاب الله، مصدر الشريعة والعلوم، ودستور الخاصَّة والعموم.

      والحاصل أن العلم بنشأة علم التفسير ومراحله وتطوره، مع بيان أساليبه، ومناهجه، واتجاهاته، وكيفية الاستفادة منه في الفهم السليم للقرآن الكريم، مطلب ضروري لكلِّ من يتصَدَّى لعلوم القرآن. لذا قال مجاهد: الحكمة: فهم القرآن، فلا بقاء للإسلام إلا بفهم القرآن فهماً صحيحاً ثم العمل به.

      نسأل الله الفهم والخاتمة الحسنى لجميع المسلمين، والحمد لله رب العالمين.

———————————

  1. المعجم الصوفي لمحمود عبد الرازق، 1/136- 138.

أرسل تعليق