Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

ظاهرة الاحتمال ومراتب الخطاب في النسق الأصولي المالكي.. (1)

لئن كان الانفتاح الدلالي وصفا راسخا للخطاب الشرعي؛ فإن هذا الانفتاح راجع في أصله إلى الطابع الاحتمالي الذي تتميز به نصوص الشرع، والمراد بالاحتمال عموما “نزول النص عن مستوى الإحكام أو القطعية (في الدلالة خاصة) إلى متناول التأويل، والغالبية العظمى من النصوص الشرعية هي من هذا القبيل، فلا يخلو منه إلا المحكمات في العقائد أو في التشريع كالحدود والعبادات مما فصلته النصوص بكل دقة، ولم تترك فيه مجالا للرأي إلا في أقل قليل من الجزئيات، فالاحتمال إذن يعني احتمال العام للتخصيص والمطلق للتقييد والحقيقة للمجاز والمشترك لأحد معانيه”[1].

والاحتمال هنا مزية لا منقصة، لكونه دليل ثراء الخطاب وقدرته على الاستجابة لأغراض المتكلم التبليغية ولمقاصد المتلقي التأويلية. يقول الجرجاني: “واعلم أنه إذا كان بينا في الشيء أنه لا يحتمل إلا الوجه الذي هو عليه حتى لا يشكل وحتى لا يحتاج في العلم بأن ذلك حقه وأنه الصواب إلى فكر وروية، فلا مزية، وإنما تكون المزية ويجب الفضل، إذا احتمل في ظاهر الحال، غير الوجه الذي جاء عليه، وجها آخر”[2].

ظاهرة الاحتمال ومراتب الخطاب في النسق الأصولي المالكي.. (1)

كما أنه ليس لأحد أن يتخذ من دعوى الاحتمال ذريعة إلى القول بتعطيل النصوص وعدم إعمالها، إذ “الاحتمال المرجوح لا يقدح في دلالة اللفظ، وإلا سقطت دلالات العمومات كلها لتطرق احتمال التخصيص إليها، بل تسقط دلالة جميع الأدلة السمعية لتطرق احتمال المجاز والاشتراك إلى جميع الألفاظ، لكن ذلك باطل، فتعين حينئذ أن الاحتمال الذي يوجب الإجمال، إنما هو الاحتمال المساوي أو المقارب، أما المرجوح فلا[3].

ولقد كان النظر الأصولي سديدا حينما استثمر منهجيا هذه الخاصية التي تتميز بها معظم نصوص الشرع، فاعتبر عنصر “الاحتمالية” معيارا إجرائيا في التمييز بين مراتب الخطاب الشرعي الدلالية، “ومن هنا دأب عامة الأصوليين على ترتيب الألفاظ والنصوص الشرعية في مراتب عديدة حسب درجة وضوحها أو غموضها، وحسب تطرق الاحتمال ومقداره أو عدم تطرقه[4].

وفي سياق هذا الطرح، واستثمارا لهذه الخاصية المميزة للخطاب الشرعي. يقول الشريف التلمساني: “اعلم أن اللفظ إما أن يحتمل معنيين أو لا يحتمل إلا معنى  واحدا، فإن لم يحتمل بالوضع إلا معنى واحدا فهو النص، وإن احتمل معنيين فإما أن يكون راجحا في أحد المعنيين أو لا يكون راجحا؛ فإن لم يكن راجحا في أحد المعنيين فهو المجمل وهو غير متضح الدلالة، وإن كان راجحا في أحد المعنيين، فإما أن يكون رجحانه من جهة اللفظ أو من جهة دليل منفصل، فإن كان من جهة اللفظ فهو الظاهر، وإن كان من جهة دليل منفصل فهو المؤول. فخرج من هذا أن اللفظ إما نص وإما مجمل وإما ظاهر وإما مؤول[5].

والأمر نفسه نجده موضحا على لسان ابن جزي الكلبي حيث قال:

إن اللفظ إن دل على معنى ولم يحتمل غيره فهو النص (…) وإن احتمل معنيين فأكثر فلا يخلو إما أن يكون احدهما أرجح من الآخر أم لا، فإن كان أحدهما أرجح من الآخر سمي بالنظر إلى الراجح ظاهرا، وبالنسبة إلى المرجوح أو الأخفى مؤولا، وهو مشتق من التأويل ومعناه إخراج اللفظ عن ظاهره، وإن لم يترجح أحد الاحتمالين على الآخر فهو المجمل[6].

وجاء في إحكام الفصول للباجي: “ثم المفصل ينقسم إلى قسمين: غير محتمل ومحتمل، فأما غير المحتمل فهو النص ومعنى ذلك أنه لا يحتمل التأويل (…) وأما المحتمل فعلى ضربين: ظاهر وعام[7].

واقتصارا على ما يخدم الغرض وهو بيان مراتب الخطاب من جهة تعلقها بعنصر الاحتمال، وجدنا الكفاية في الحديث عن مفهومي الظاهر والمجمل، باعتبار الأول نموذجا لما وسم عند الأصوليين بواضح الدلالة، والثاني نموذج لما نعت بخفي الدلالة..

يتبع في العدد المقبل..

———————————————————

1. التاويل عند الأصوليين، محمد محمود بن محمد، ص: 106، رسالة دبلوم الدراسات العليا، كلية الآداب، الرباط، 1992.

2. دلائل الإعجاز، ص 189، صحح أصله الشيخ محمد عبده والأستاذ محمد محمود التركزي الشنقيطي، المكتبة التجارية، مكة المكرمة.

3. الفروق، القرافي، 87/2، دار المعرفة، بيروت، ( د ط ت).

4. نظرية التقريب والتغليب، أحمد الريسوني، ص: 119، ط 1، 1994، مطبعة مصعب، مكناس.

5. مفتاح الوصول ص 427-428 مرجع سابق.

6. تقريب الوصول، ص: 85.

7. إحكام الفصول في أحكام الأصول، ص: 71 وما يليها، تحقيق د عبد الله محمد الجبوري، ط 1، 1989، مؤسسة الرسالة، بيروت.

أرسل تعليق