Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

تعليق واحد

جوانب من الحركة العلمية بجامع القرويين.. (2)

لعل عناية العلماء المغاربة بالفقه فاقت العناية بأي علم آخر من العلوم الدينية، وأصبح مختصر خليل بمثابة مدونة جديدة، وقد أدخل مختصر خليل ابن إسحاق المتوفى سنة (767 هـ) إلى فاس الفقيه محمد الفتوح التلمساني المتوفى سنة (818 هـ) بمكناس، وكتبت عليه عشرات الشروح والحواشي والتعليقات واستنبطت منه الفتاوى والأحكام، وأصبح كتاب “العمل الفاسي” للإمام الزقاق الفقه الرسمي في شمال إفريقيا  كلها، وأخذ القرشي نفس الطريقة عن العلامة الزّقاق..

جوانب من الحركة العلمية بجامع القرويين.. (2)

ويشير العلامة الحسن السائح في كتابه (الحركة العلمية بجامعة القرويين، منشورات الإسيسكو) أنه وجدت “وثيقة مهمة جداً عن سير الدراسة وبرامج التعليم ومناهجه في القرويين على عهد الوطاسيين وهي (الرسالة المجازة في معرفة الإجازة) التي ألفها الصوفي المغربي الكبير أبو الحسن علي بن ميمون المولود سنة (854 هـ) الذي درس بفاس سنة (887 هـ)، ويذكر المؤلف أنه أقام بفاس أيام الوطاسيين ذاكراً أنه أقام بفاس بقصد الدراسة في القرويين طيلة أربعة عشرة سنة، حيث أقام في بعض مدارسها ثم خرج قاصداً الحجاز وجال في الشام واستوطن في الأخير مدينة بورصة بتركيا، وكان صوفياً سنياً  واشتهر بهذه السيرة وهذا المذهب وتصدى للرد على خصومه في عصره، ثم رجع إلى الشام حيث توفي بها سنة (917 هـ) وترك مؤلفات أهمها “الرسالة المجازة” وكتاب “بيان غربة الإسلام”..  ويظهر من هذه الرسالة أن العلوم الشائعة في هذا العهد بالقرويين هي الفقه المالكي والحديث والتفسير والنحو والفرائض والحساب والتوقيت والتعديل والتوحيد والمنطق والبيان والطب وباقي العلوم العقلية، وأن الدراسة كانت تعتمد على حفظ النصوص، ولا يقدرون من الطلبة والأساتذة من لا يحفظ النصوص، وكان شعارهم “من لم يحفظ النص فهو لص“، ويروي العلامة الكتاني في “سلوة الأنفاس” عن هذه الرسالة التي اقتطف شذرات منها بأن مؤلفها ابن ميمون جال في تلمسان وبجاية وتونس والحجاز ومصر فلم ير في علماء هذه المدن وأشياخها من يصل إلى درجة علماء القرويين بفاس، ويستفاد من هذه الرسالة بأن التلميذ قبل الدخول إلى القرويين كان لابد أن يكون حافظاً للقرآن والرسم والتجويد حافظاً المصنفات والمنظومات وهي ذلك منظومة في الفرائض والحساب ورسالة أبي زيد القيرواني.. ” .

 وكان الشروع في الدراسة يبتدئ من الفجر إلى ما بعد العشاء، ويذكر ابن ميمون –في شهادته- أنه كان يشرع في وقت مبكر ولا يستطيع العودة إلى المدرسة لتناول الغذاء، بل لا يتناول إلا وجبة العشاء فقط، وكان الأسلوب المتبع في درس الحديث هو النقل الغزير ودراسة رواية العلماء وأنسابهم مع ضبط المتن لغوياً ونحوياً وفقهياً، واشتهر كتاب الجزولي على الرسالة في الفقه أما المدونة فكانت تدرس بالنقل الكثير من كلام مشايخ المدونة من أولهم إلى آخرهم، وكان التجويد بالمدخل للإمام الجرومي المصمودي والفقيه ابن مالك. وقبل وقت العصر كان الطلاب ينصرفون عادة إلى خزانة الكتب. حيث يطالعون الكتب التي يوزعها عليهم الوكيل، ويذكر المؤلف أن الخزائن بفاس لدى عهد كانت ثلاثة تشتمل على كتب كثيرة لا تكاد تحصى، أما الحساب والفرائض فكانا يعلمان يوم الخميس والجمعة، وهكذا يقضي الطلبة أيامهم الدراسية إلى أن يحصلوا على العلم الوافر ويصبحوا في عداد الأساتذة..

وكان بالقرويين كرسي خاص بالنحو، وكان من أصحاب هذا الكرسي الونشريسي قاضي فاس ومفتيها وصاحب التدريس بالقرويين المتوفى سنة (955 هـ) (العصر السعدي)، كما كان من هؤلاء محمد بن إدريس العراقي الذي انتصب أيضاً لتدريس كتاب سيبويه على الكرسي الخاص بمن يدرس النحو (توفي سنة (1142 هـ).. ويفيدنا العلامة الحسن السائح في كتابه عن “الحركة العلمية بجامعة القرويين” أنه كان “قد رحل في القرن العاشر علي بن ميمون لتلمسان وبجاية وتونس والشام والحجاز وقال مقارناً بين علماء القرويين وعلماء غيرها: ما رأيت في سائر المغرب لا في مدينة تلمسان ولا بجاية، ولا تونس ولا إقليم الشام بأسره، ولا بلاد الحجاز، فإني “رأيت ذلك كله بالمشاهدة” ولا بمصر على ما تقرر عندي من العلم اليقين بمشاهدة أناس من أهلها، وبرؤيتي لبعض كتب أرباب الوقت، ما رأيت مثل فاس، ومثل علمائها في حفظ ظاهر الشرع العزيز بالقول والفعل، وهذا الحفظ لنصوص إمامهم الإمام مالك وحفظ سائر العلوم الظاهرة، من الفقه والحديث والتفسير وحفظ نصوص كل علم مثل النحو والفرائض والحساب والتوقيت، والتعديل والتوحيد والمنطق، والبيان والطب، وسائر العلوم العقلية، ثم لابد فيه عندهم من حفظ نص ذلك الفن، ومن لم يستحضر النص عن مسألة ما في علم العلوم لا يلتفت إلى كلامه، ولا يعبأ به، ولا يحسبونه من طلبة العلم” ..

وتعتبر مصادر الثقافة خلال العصر السعدي، من زاوية أنثربولوجية وسوسيوثقافية، بالغة الأهمية في التأريخ للحركة الفكرية، منها كتب الفقه كالمعيار للونشريسي، ومعيار الوزاني، وكتب التاريخ “كدرة الحجال” لابن القاضي، و”مناهل الصفا” للفشتالي، و”نزهة الحادي” لليفرني، وكتب الرحلات كمحاضرة اليوسي، ورحلة أبي سالم العياشي، وكتب التراجم، “كمرآة المحاسن” لمحمد المهدي الفاسي، والدرر المرصعة، و“نشر المثاني” للقادري، و”الدر الثمين” للشيخ ميارة، وفهارس العلوم كالقانون لليوسي والأقنوم لعبد الرحمن الفاسي.

وخلال العصر العلوي حاول السلطان محمد بن عبد اللَّه (تـ 1790م) أن يطور المناهج الدراسية، وينتقي الكتب التعليمية، وأصدر مرسوماً بذلك جاءت تفاصيله في كتاب “مفاخر الدولة العلوية” للمؤرخ عبد الرحمن بن زيدان وتنحصر دعوته الإصلاحية في الرجوع إلى الكتاب والسنة، وألف هذا الملك العالم كتاباً في الحديث هو “الفتوحات الإلهية“، وكان الهدف من تكوين لجنة إصلاح البرامج التعليمية، تطوير التعليم من الحرفية والحفظ إلى تكوين المَلَكة، واختيار الكتب الصالحة، وتأليف كتب لمختلف المواد وشرح كتب أخرى، وكان هدفه إصلاح التعليم المغربي، وإخراج الأسلوب الدراسي من الجمود والحرفية إلى تربية الملكة والقدرة على التصرف في المعلومات، ويعتبر مرسومه أقدم وثيقة في إصلاح التعليم في هذا العصر، وكانت له مجالس خاصة، وندوات للمذكرات والتأليف، وحسب ما ذكره أبو القاسم الزياني في “الترجمانة الكبرى“، فقد كانت هذه المجالس تضم نخبة المفكرين في عصره كالعلامة أحمد الغربي دفين محروسة الرباط وابن المسير وأبو خريص وابن عمرو والمنجرة، وابن عثمان وذكر  المؤرخ أكنسوس في “الجيش العرمرم الخماسي” أن هذه الندوات كانت يناقش فيها الحديث، والسير، والأخبار وضروب من الفنون الأدبية، ولخص المؤرخ ابن زيدان عن الفقيه التاودي ابن سودة مرسوم إصلاح القرويين في هذا العصر، مفصلاً العلوم المقترح دراستها، والكتب المنتقاة وطريقة الدراسة، وكان المولى عبد الرحمن ينظم حفلاً بحضور الأساتذة والطلاب، وكان المولى إسماعيل لاحظ جهل بعض رجال القضاء بالدين فأمر بعضهم ممن امتحنوا وظهر جهلهم كما في “الدرر الفاخرة” لابن زيدان. وحافظ المولى سليمان من بعده على الإصلاحات التي جاء بها والده مشجعاً حركة التأليف المغربي، ثم تابــع عملــه بعده المولى عبد الرحمن.

ومن أطرف ما ذكر في تاريخ جامع القرويين على عهد الدولة العلوية ما أورده العلامة محمد عبد الحي الكتاني في “ماضي القرويين ومستقبلها“، دار الكتب العلمية، بيروت، 2006، ص: 79) إذ يقول عن العلامة أبا الحسن اليوسي لما استوطن فاس بعد سقوط زاوية الدلاء “أقبلت عليه طلبة العلم مثنى وثلاث، وتزاحمت على بابه الركب، فتصدر للتدريس بجامع القرويين، ووقع له الإقبال ما لم يعهد لغيره، فتخلف عن حضور درسه جماعة من أعيان طلبتهم وغلبهم ما هو مألوف من الطبع الآدمي، فقال أبو علي:

ما أنصــــفت فـــاس ولا أعـــــلامـها            علمـــي ولا عــرفوا جلالة منصبــي

لـــو انصفوا لصبوا إلــــي كــــما صبا            راعي السنين إلى الغــمام الصيـب

وقد أجاب عن البيتين أبو زيد عبد الرحمان بن عبد القادر الفاسي:

بل أنصـــفت فــــاس ومن إنصــافها            أبدا ســـقوط المـــدعي والمعـجـب

نفي الدجــاجل عاجـــلا أو آجــــــلا            عنها فهـــي طـــريدة مـــــــن يثرب

والأبيات موجودة في “نشر المثاني” للقادري. ولما طولع والد عبد الرحمن الشيخ العلامة سيدي عبد القادر الفاسي بجواب ابنه على الإمام اليوسي قال: البادي أظلم، وأنت أزلت عنك جلباب الوقار، وأبخست مقدارك بتصديك لمعارضة الأحداث وإصغائك لمقال من لم يساوك في علم ولا سن.. رحمة الله عليهم أجمعين..

يتبع في العدد المقبل بحول الله

التعليقات

  1. بديع الزمان

    شكرا جزيلا على هذه التراجم المتميزة والمفيدة أرجوا ان ترسل لي بريدك الالكتروني ان امكن بارك الله فيك

أرسل تعليق