Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

التكامل المعرفي

      إن الذي يمعن النظر في حقل المعارف الإسلامية يلاحظ بوضوح ذلكم التكامل المعرفي، وتلكم العلاقة “الأخوية” التي تجمع بين شتى العلوم جمعا منهجيا، وإن اختلفت في مواضيعها ومجالات اهتماماتها، وهذا يعكس وحدة الأسرة التي تنتظم فيها العلوم الإسلامية وقوة أواصر القرابة المعرفية التي تنسج على منوالها حقائقها العلمية.

      وكمثال على ذلك يلاحظ الدارس في العلاقة بين علم الكلام وعلم أصول الفقه، أن علماء الكلام وجدوا في علم أصول الفقه مجالا واسعا للممارسة الفكرية والاجتهادية، حتى اشتهر منهج الشافعية “بمنهج المتكلمين”. بل لقد دخل في دراسة علم أصول الفقه طائفة كبيرة من المتكلمين، إذ قد وجدوا فيه ما يتفق مع دراستهم العقلية ونظرهم إلى الحقائق مجردة، وبحثوا فيما كانوا يبحثون في علم الكلام، لا يقلدون ولكن يحصلون ويحققون، كما نبه على ذلك الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه “أصول الفقه”.

      وقد بلغت العلاقة بين العلمين ذروتها وقمتها في المرحلة التي تلت القرن الرابع الهجري، إذ قلما يوجد عالم في أصول الفقه لا يعتمد على علم الكلام، والبرهان على هذا ما ذهب إليه الإمام الشوكاني في إرشاده حين أكد ما قاله العلماء منذ نهاية القرن الرابع عشر إلى قرنه الذي عاش فيه، فأشار إلى أن أصول الفقه مستمد من ثلاثة أشياء:

      الأول: علم الكلام، لتوقف الأدلة الشرعية على معرفة الباري سبحانه، وصدق المبلغ، وهما مبنيان فيه، مقررة أدلتهما في مباحثه؛

      الثاني: اللغة العربية؛ لأن فهم الكتاب والسنة، والاستدلال بهما متوقفان عليهما، إذ هما عربيان؛

      الثالث: الأحكام الشرعية من حيث تصورها؛ لأن المقصود إثباتها أم نفيها..

      وقد أكد الأستاذ فريد الأنصاري رحمه الله -الباحث المتخصص في المصطلح الأصولي عند الإمام الشاطبي- أن علم الكلام هو المصدر الأول للمصطلحات الأصولية عند هذا العَلم المتميز، وذلك لاشتراكهما المنهجي والمعرفي في كثير من القضايا المعرفية، فلا غرو إذن أن يعتبر صاحب الموافقات علم الكلام صنوا لعلم أصول الفقه.

      وهذا لا يعني أننا ننفي الموقف الصارم لعلماء أصول الفقه من بعض القضايا الكلامية، أو من بعض الفرق الكلامية، وخاصة الإمام الشافعي الذي تصدى بحزم لهم، فلم تمتزج “رسالته” بشيء مما بحثوا فيه أو نظّروا له، ولكن قصدنا الإشارة إلى العلاقة بين علم الأصول وبين علم الكلام على اعتبار أن هذا الأخير يعد علما قائما بذاته، بعيدا عما ألحق به من قضايا لا تمت بصلة علمية إلى مجاله المعرفي.

      مما يؤسف له في زماننا العجيب هذا أن عددا من الباحثين في حقل العلوم الإسلامية أحاطوا مجال اشتغالهم بأسوار عازلة تمنعهم من الاطلاع على مختلف التخصصات العلمية، حتى أضحى الواحد منهم يرى الإسلام وما يتعلق به من خلال جزيرته المعرفية..! ومن شأن هذه الرؤية الضيقة أن تحجب عنه تمام الصورة العلمية وحقيقتها، فلا عجب إذن أن تجد في بعض المجامع العلمية من يتعصب لدائرة تخصصه العلمي ويعتبر غيرها تبعا له، أو في أحسن الأحوال فرعا من فروعه!

      إن اجتسار المفازات العلمية الرابطة بين العلوم الإسلامية خطوة منهجية مهمة وضرورية لأمتنا في العصر الراهن، وتحتاج هذه العملية إلى دراسة معمقة تكشف لنا أنواعها وأشكالها.. ولا يمكن أن نتصور أبدا ذلكم الانفصال المعرفي النكد في حق المعارف الإسلامية. وقد آن الأوان لأن يعود ذلكم الرباط التاريخي والمعرفي والمنهجي بينها كافة أسوة بعهود ازدهار الحقب السالفة من تاريخنا المجيد.

أرسل تعليق