Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

تعليق واحد

الاختلاف بين التصور والممارسة (2/2)

      نستأنف الكلام عن بقية الجوانب المتعلقة بالاختلاف حتى تكتمل صورته في ذهن القارئ، فأبدأ بالحديث عن أنواعه ثم عن آدابه وكيفية تدبيره.

      أنواع الاختلاف: والاختلاف في جملته إما محمود يستحسنه الشرع والعقل والذوق السليم، وإما مذموم تستقبحه حتى الحجى والنهى والألباب.

      1.  فالمحمود من الاختلاف ما حقق المصالح الدينية والدنيوية للأفراد والجماعات، ويصب في غاية واحدة ويتوسل بوسائل موحدة، ومن ذلك ما يعرف بالخلاف اللفظي، أو الاعتباري، وهذا النوع مرده إلى أسباب فكرية، واختلاف وجهات النظر في بعض القضايا العلمية، كالخلاف في فروع الشريعة وبعض مسائل العقيدة التي لا تمس الأصول القطعية. والأمثلة على ذلك من التراث الإسلامي كثيرة منها: الاختلاف في فروع العقيدة، فهذا شريح ينكر قراءة من قرأ “بَل عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ” [سورة الصافات، الآية: 12]، وقال: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبد الله أعلم منه وكان يقرأ “بَل عَجِبْتَ”؛

      وكما تنازعت عائشة رضي الله عنها في رؤية محمد ربه ليلة أسري به صلى الله عليه وسلم حيث قالت: “من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم، ولكن قد رأى جبريل في صورته”.[1]

      وفي مجال الأدلة هناك من يقر بالاختلاف بضوابطه مثل حديث “إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد”[2]؛

      2.  أما الاختلاف المذموم فهو الاختلاف الذي لا يحقق مصلحة، ولا يدفع مفسدة، وتوجه إلى الوقوع في شراك هذا النوع من الاختلاف، أسباب كثيرة أبرزها:

       –  اتباع الهوى وحب الظهور؛

       –  سوء الظن بالآخر والمسارعة إلى الاتهام بغير بينة؛

       –  الإعجاب بالرأي الشخصي والتعصب له؛

       –  قلة العلم بالموضوع المختلف حوله.

      ومثل هذه الأسباب وغيرها التي توجه الاختلاف وتخرجه عن إطاره الحقيقي، من الطبيعي أن ينشأ عنها اختلاف غير محمود، وتفرق مذموم.

      آداب الاختلاف: لم تنتشر آفة الاختلاف بصورته المذمومة إلا حين ترك الناس آداب الاختلاف التي كانت -دوما- تعصم العقلاء من تسفيه آراء المخالفين ومن ذلك:

      1.  الرفق في معارضة الحجة بالحجة؛ لأن الرفق خلق كريم، وأصل من أصول الدين، من شأنه أن يقلص المسافات، ويقرب وجهات النظر، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه”[3]؛

      2.  قبول الرأي الآخر الذي لا يخالف نصا قطعي الدلالة، وإعطاؤه صاحبه حق إبداء آرائه بكامل الحرية، ولا يستهزئ به ولا ينتقص من قدره، وهذا المنهج أضمن لتقوية روح التفاهم والتضامن بين المتحاورين؛

      3.  الإنصاف للمخالف متى كانت حجته قوية، بقطع النظر عن دينه وجنسه ولونه مصداقا لقوله تعالى: “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى” [سورة المائدة، الآية: 8].

      كيفية تدبير الاختلاف: ليست المشكلة في أن يختلف الناس في وجهات النظر، فذلك أمر طبيعي، لكن المشكلة تكمن في سوء تدبير الاختلاف، وذلك بالاستسلام لنوازع النفس، من التعصب للرأي، وفورة الغضب، وقلة الصبر، والعجب والكبر وغمط حق الغير… فلو استحضرالمتحاوران / المختلفان ضوابط حسن تدبير اختلافهما، ووقف كل منهما عند حدودها، لكانت الثمرة غير الثمرة، والنتيجة غير النتيجة، ومن تلك الضوابط:

      1.  الحلم والتحلم، فالحلم والصفح والتسامح مع المخالف من شأنه أن يغير نظرته، وينأى به عن التعصب لرأيه، وبالتالي سيتقلص البون، ويلتئم الصدع، ولأجل هذا كان علماؤنا يتسامحون، ولتأليف القلوب يتسابقون، ووجهتهم قول القائل: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”؛

      2.  حسن الإصغاء، فهذا الضابط الأخلاقي له أثره البالغ والإيجابي على نفس المتحاور، بحيث يحتل المصغي مكانة خاصة لديه، ويحرص بدوره على مقابلة الاحترام بالاحترام، وهكذا يتحقق التقارب والتآلف بين الطرفين، وتختفي أسباب الفرقة والتباعد بينهما؛

      3.  القبول بحجة المخالف القوية، والاعتراف بالخطإ، وهذه خصال وضوابط تؤهل المختلفين إلى الارتقاء عن خلافاتهم ونزاعاتهم إلى الأخوة والألفة والتكامل الذي يؤهل بدوره إلى إقامة مجتمع إنساني تختفي من بين صفوفه كل معيقات النهضة الحضارية.

————————–

  1.  صحيح البخاري، رقم 3234.

  2.  سنن الترمذي، رقم 1326.

  3.  صحيح مسلم، رقم 2594.

التعليقات

  1. أحمد أيت لمقدم

    تذكير القارئ بأن الاختلاف الواقع من أهله رحمة:
    يقول الإمام الشاطبي: "إنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة؛ وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان -رضي الله عنهم- بحيث لا يصح إدخالهم في قسم المختلفين بوجه، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودا من أهل الاختلاف -ولو بوجه ما- لم يصح إطلاق القول في حقه أنه من أهل الرحمة؛ وذلك باطل بإجماع أهل السنة.
    إن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربا من ضروب الرحمة، وإذا كان من جملة الرحمة فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجا من قسم أهل الرحمة.
    وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة ما روي عن القاسم بن محمد قال: لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم في العمل، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأي أنه في سعة.
    وعن ضمرة بن رجاء قال: اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكران الحدث قال: فجعل عمر يجيء بالشيء يخالف فيه القاسم، قال:وجعل القاسم يشق ذلك عليه حتى بين فيه، فقال له عمر: لا تفعل، فما يسرني باختلافهم حمر النعم!
    وروي ابن وهب عن القاسم أيضا قال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم لا يختلفون: لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدي بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سعة. – الاعتصام للإمام الشاطبي بتحقيق سيد إبراهيم ، ط/ دار الحديث ـ القاهرة 1424هـ ـ 2003م 2/410
    ثم يوضح الإمام الشاطبي لماذا كان الاختلاف في الفروع رحمة فيقول: "ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه؛ لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق؛ لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة.. فيصير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافهم، وهو نوع من تكليف ما لا يطاق؛ وذلك من أعظم الضيق، فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم، فكان فتح باب للأمة للدخول في هذه الرحمة، فكيف لا يدخلون في قسم "مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ" [سورة هود:119]؟ فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها، والحمد لله". الاعتصام 2/410 ).
    وقد استقر هذا المعني واشتهر (أن الاختلاف توسعة ورحمة) عند المتقدمين والمتأخرين: فالإمام الخطابي (تـ 340هـ) ذكر حديث (اختلاف أمتي رحمة) مستطردا وقال: اعترض على الحديث رجلان: أحدهما ماجن والآخر ملحد، وقالا جميعا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذاباً! ثم رد كلامهما.. ويذكر العلامة الشيخ مرعي الحنبلي في تنوير بصائر المقلدين: أن اختلاف المذاهب في هذه الملة رحمة كبيرة وفضيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون، وعمي عنه الجاهلون، فاختلافهما خصيصة لهذه الأمة، وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة" أنظر: "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم" للدكتور يوسف القرضاوي ط1/دار الشروق ـ بيروت 1412هـ 2001م، 51-52.
    قد يعترض معترض بقوله تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" [سورة هود: 118-119]، فيقول: هل المختلفون داخلون تحت قوله تعالى: "وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"؟
    يقول الإمام الشاطبي مجيبا عن هذا السؤال: "والجواب: أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه:

أرسل تعليق