Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

الإمام القرطبي… عالم الأندلس ومفخرتها

      ظروف حياة القرطبي الثقافية والاجتماعية والسياسية

      تُقدم لنا الأندلس خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين النموذج الحضاري الأمثل، ومرتع العلماء المفضّل، فقد سايرت التشريعات الفقهية تفاصيل الحياة العصرية ومستجداتها بالأندلس، وما فتئت النوازل والقضايا والمرافعات تعرض على المحاكم وأهل الفتيا، وهم يتعهدونها بالنظر والاستدلال والمدارسة والسؤال، مما يؤكد على أن الأندلس كانت تمر بحمى اجتهاد خلال هذين القرنين.

      ولقد كان من آثار ذلك ظهور ثروة عظيمة من التشريعات والقوانين، الشيء الذي ساعد على خلق أسس علمية جديدة تزكي المناظرة الحسنة، وتحفز الجدال المؤسس على العلم، وتعمق البحث في أصول وقواعد الاستنباط[1].

      ومع حلول القرن السادس الهجري تبدأ الأمور بالتغيّر، فقد تسلم الموحدون زمام الحكم بالأندلس، وأقاموا دولتهم على أنقاض دولة المرابطين، وكان ذلك عقب معركة حادة دامية انتصروا فيها عام 516م.

      وفي هذه الحقبة كتب المهدي بن تومرت رسالته المعروفة إلى المرابطين، يدعوهم فيها إلى الدخول في طاعته، وامتثال أوامره، ويحذرهم نقمته وبطشه، فعظمت آنئذ دولتهم، واتسعت رقعتهم، حتى صارت أطراف بلادهم تمتد من شبه الجزيرة الإيبيرية شمالا إلى مشارف الصحراء الإفريقية جنوبا، ومن طرابلس الغرب شرقا حتى شواطئ الأطلنطي غربا، واتخذوا من إشبيلية عاصمة للأندلس[2].

      وفي القرن السابع –وهو عصر القرطبي– تعيش الأندلس على إيقاع البطش والنهب، والضيق والكرب، لما أصاب المسلمين بها من التمزق والضياع إثر احتلال النصارى أوطانهم، واستيلائهم على ديارهم، وسبيهم نساءهم وعيالهم، وسلبهم أموالهم، والاستعانة بهم على قتل بعضهم، حتى انتهى الأمر بسقوط الحكم الإسلامي بقرطبة -الحزينة- سنة 633هـ، وولّت أمور المسلمين القهقرى، ولا حول ولا قوة بالله العلي العظيم.

      ومن أبشع صور التمزق الاجتماعي والتفكك الأسري الذي عانت منه الأندلس ما حدّث به القرطبي سماعا عن شيخه ابن أبي حجّة، أنه سمع غير ما واحد يتحدث عن أشراط الساعة فيقول بأن من جملتها: “استيلاء الكفار على بلاد المسلمين كما في هذه الأزمان التي قد استولى فيها العدو على بلاد الأندلس وخراسان وغيرهما من البلدان، فتسبى المرأة وهي حبلى أو ولدها صغير، فيفرق بينهما، فيكبر الولد فربما يجتمعان ويتزوجان، كما وقع من ذلك كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون”[3].

      ويقول القرطبي في موضع آخر من تذكرته: “ولقد أخبرني صاحبنا أبو القاسم رحمه الله أخو شيخنا أبي العباس أحمد بن عمر رحمه الله أنه ربط نحوا من خمسين امرأة، واحدة بعد أخرى في حبل واحد، مخافة سبي العدو لهن حتى خرجوا من قرطبة –أعادها الله–”[4].

      وأما إذا تحدثنا عن مستوى الأخلاق والآداب، والأعراف الاجتماعية، والقيم الإنسانية لبلاد الأندلس ومصر –حيث قضى بهما القرطبي أغلب أطوار حياته– فليس لنا إلا أن نسِمها بالتدني ورداءة الحال، مما جعل صيحات القرطبي في كل حين ترتفع، وشكواته من كل صوب تندلع، فلا يجد مناسبة إلا لوّح بذلك وشهّر، أو تبرأ منه وأنكر، ومن عبارات القرطبي الدالة على هذه المعاني ما يلي:

      قال رحمه الله عن تبرج نساء عصره: “إن قلّت الحياء قد غلبت عليهن، حتى ترى المرأة في القيساريات وغيرها قاعدة متبرجة بزينتها، وهذا من المنكر الفاشي في زماننا، نعوذ بالله من سخطه”[5].

      وقال عن أحوال حمامات زمانه: “أما دخول الحمام في هذه الأزمان، فحرام على أهل الفضل والدين، لغلبة الجهل على الناس، واستسهالهم إذا توسطوا الحمام… حتى يرى الرجل البهي ذو الشيبة قائما منتصبا وسط الحمام وخارجه باديا عن عورته، ضاما بين فخذيه، ولا أحد يغير عليه! هذا أمر بين الرجال فكيف بين النساء؟ سيما بالديار المصرية، إذ حماماتهم خالية عن المطاهر، التي هي عن أعين الناس سواتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”[6].

      وقال عن حكام عصره: “فالحكام اليوم عين الرشا لا مظنته، ولا حول ولا قوة إلا بالله”[7].

      ومثل هذه النصوص التي تفيض بالوقائع الاجتماع، وتفوح بأوصاف الحالة السياسية والثقافية لعصر القرطبي غزيرة وفيرة، تستحق الجمع والتصنيف، والبحوث المستقلة، وقد سبق إلى بعض ذلك الدكتور محمد بن شريفة[8]، فعسى أن يوقظ الله تعالى همما تقوم بهذا العمل تاما كاملا.

      محنة الإمام القرطبي ورحلته ووفاته

      لم يكن الإمام القرطبي ليسلم من ويلات نصارى الأندلس وجبروتهم، فزيادة على قتلهم أبيه، اضطر شخصيا إلى النزوح بعيدا عن بلاد الأندلس، فرارا بدينه، وخوفا على نفسه، ولولا ما جرت به محاسن الأقدار لكان شهيد قرطبة أو جهة من نواحيها؛ فبعد أن استحكم النصارى مقاليد الحكم بالأندلس، عزم القرطبي على مغادرتها، فلم تكن رحلته هذه مفروشة بالزهور، بل ملغومة بكيد أهل الضلال والشرور، حتى أنجاه الله تعالى من الموت المحقق، وكان ذلك إثر حادث غريب عجيب، يثير دهشة القارئ، ويشهد على رسوخ إيمان القرطبي وصلاح عقيدته، واستقامة سبيله، وثقته بعظمة ربه، قال رحمه الله عند تفسيره قوله تعالى: “وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يومنون بالآخرة حجابا مستورا” [سورة الاِسراء، الآية: 45]: “ولقد اتفق لي ببلاد الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا، وذلك أني هربت أمام العدو، وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد، ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ سورة يس وغير ذلك من القرآن، فعبرا عليّ ثم رجعا من حيث جاءا، وأحدهما يقول للآخر: هذا دْيَبْله –يعنون شيطانا– وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني، والحمد لله كثيرا على ذلك”[9].

      وهكذا أفلت القرطبي –برحمة الله– من قبضة العدو، وتابع المسير إلى أن نزل به المقام ببلاد مصر، حيث وجد فيها مرتعه ومستقره، غير أن الكتب التي ترجمة لحياة القرطبي لم تذكر شيئا عن تفاصيل هذه الرحلة وأطوارها –فيها اطلعت عليه– ولا عن مسالكها ومذاهبها… ولازلت متشوفا لمعرفة ذلك، مرتقبا له، حتى عثرت على كلام للدكتور مفتاح بلقلم جاء فيه: “كان الإمام القرطبي من الأئمة والعلماء الأندلسيين الذين فروا من بلادهم إبان وقوع الأندلس تحت سيطرة النصارى، وكان البعض منهم قد اتجه شرقا كالإمام القرطبي، الذي رحل إلى أرض الكنانة، مارا في هذه الرحلة العلمية المباركة بالمغرب والجزائر وتونس وليبيا… معلما ومتعلما”[10].

      والعجب أني لم أجد لهذا الكلام سلفا ولا إحالة ولا سندا، فآثرت التوقف في هذه المسألة دون الجزم فيها بشيء، لاحتمال أن يكون القرطبي قد وصل بلاد مصر بحرا لا برا، أو غير ذلك من الاحتمالات الممكنة.

      وقد أطبق من ترجم للقرطبي على أنه استقر بمصر بمدينة منية بني خصيب[11]، وهي مدينة حسنة، تقع على شاطئ النيل، في الضفة الغربية منه، وقد تيسر للرحالة الشهير ابن بطوطة زيارتها، فأبدى إعجابه بشساعة مساحتها، وعظيم مساجدها، فقال: “… هي مدينة كبيرة الساحة، متسعة المساحة، مبنية على شاطئ النيل، وحقيق حقيق لها على بلاد الصعيد التفضيل”[12].

      بهذه المدينة الرحبة الواسعة –كمداركه– استقر الإمام القرطبي، ومن عجيب أخباره بها فيما اطلعت عليه، ما رواه الإمام الصدفي بسنده المتصل قال: “أخبرني من لفظه الشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس اليعمري قال: ترافق القرطبي المفسر والشيخ شهاب الدين القرافي في السفر إلى الفيوم، وكل منهما شيخ فنه في عصره، القرطبي في التفسير والحديث، والقرافي في المعقولات، فلما دخلا ارتادا مكانا ينزلان فيه، فدُلا على مكان، فلما أتياه قال لهما إنسان: يا مولانا، بالله لا تدخلاه؛ فإنه معمور بالجان، فقال الشيخ شهاب الدين للغلمان ادخلوا ودعونا من هذا الهذيان، ثم إنهما توجها إلى جامع البلد إلى أن يفرش الغلمان المكان، ثم عادا فلما استقرا بالمكان سمعا صوت تيس من المعز يصيح من داخل الخرسان، وكرر ذلك الصياح، فامتقع لون القرافي وخارت قواه وبهت، ثم إن الباب فتح وخرج منه رأس تيس وجعل يصيح، فذاب القرافي خوفا.

      وأما القرطبي فإنه قام إلى الرأس وأمسك بقرنيه، وجعل يتعوذ ويبسمل، ويقرأ “اَلله أذن لكم أم على الله تفترون” [سورة يونس، جزء من الآية: 59]، ولم يزل كذلك حتى دخل الغلام ومعه حبل وسكين، وقال: يا سيدي تنحّ عنه، وجاه إليه وأخرجه وأنكاه وذبحه. فقالا له: ما هذا؟ فقال: لما توجهتما رأيته مع أحد فاسترخصته واشتريته لنذبحه ونأكله، وأودعته في هذا الخرسان، فأفاق القرافي من حاله وقال: يا أخي لا، جزاك الله خيرا، ما كنت قلت لنا وإلا طارت عقولنا! أو كما قال”[13].

      نستشف من هذه القصة الشريفة مدى رزانة الإمام القرطبي ورباطة جأشه، واصطحابه معاني التنزيل وآيات الذكر الحكيم في كل حين، وصبره وحلمه، وثقته بربه…

      وهكذا قضى القرطبي آخر حياته في منية بني خصيب إلى أن قبضت روحه بها، فانتقل إلى جوار ربه، وكان ذلك ليلة الاثنين، التاسع من شوال، سنة إحدى وسبعين وستمائة[14].

—————————————

  1.  انظر “دراسات ومباحث في تاريخ الأندلس” لأحمد الطاهري، من ص: 93 – 101.

  2.  راجع “القرطبي حياته وآثاره العلمية” من ص: 9- 13. ولمزيد من التفاصيل انظر الكتب التالية:
–  المجمل في تاريخ الأندلس لعبد الحميد العبادي.

    –  الدولة العربية في الأندلس من الفتح  حتى سقوط الخلافة للدكتور إبراهيم بيضون.

    –  تاريخ المغرب والأندلس في عصر المرابطين للدكتور حمدي عبد المنعم.

    – نهاية الأندلس وتاريخ المغرب المنتصرين للأستاذ عبد الله عنان… وغيرها.

  3.  التذكرة للقرطبي: 2/376. وانظر “مجلة دار الحديث الحسنية”، العدد 16، ص: 143.

  4.  التذكرة: 2/371.

  5.  الجامع: 3/17.

  6.  الجامع: 12/224.

  7.  الجامع: 2/202.

  8.  انظر عمله هذا في مجلة “دار الحديث الحسنية”، عدد: 16.

  9.  الجامع: 10/270.

  10.  القرطبي حياته وآثاره العلمية، ص: 6.

  11.  راجع: طبقات المفسرين للحافظ السيوطي، ص: 28-29. وطبقات المفسرين للداودي: 2/66. والذيل والتكملة: 5/585. والديباج المذهب: 2/308-309. والوافي بالوفيات للصدفي: 2/122-123…إلخ.

  12.  مجلة دار الحديث الحسنية، العدد: 16، ص: 155.

  13.  الوافي بالوفيات للصدفي: 2/122-123.

  14.  راجع: نفح الطيب: 2/210-212. الوافي بالوفيات: 2/122-123. الديباج المذهب: 2/308-309. الذيل والتكملة: 5/585. شذرات الذهب: 5/355. شجرة النور الزكية، ص: 197. الأعلام للزركلي: 6/217-218. مدرسة التفسير في الأندلس، مصطفى إبراهيم المشني، ص: 98-101.

أرسل تعليق